2 ـ مرتبة الكرسي الذي يمثل بداية عالم التعدُّدِ في علام الروحانيات ، غير أنه تعدُّد في مستوى << الإِثْنَيْنِيَّةِ>> التي تَتحوَّل إلى الكثرة في المرتبة التالية .والإثنَيْنِيَّةُ التي يمثلها الكرسي مَنشَؤُها أنه موضعُ << القدمين>> أي انقسام الأمر الإلهي إلى << خَبَر وحُكم>> وانقسامُ الحُكم إلى << أمر ونهي>> ، ثم انقسامُ الأمر إلى << وجوب ونَدْبٍ وإباحةٍ>> ، في حين انقسمَ النهيُ إلى << حَظْرٍ وكراهة>> . فالكرسيُّ هو مَظهرُ الاقتدار الإلهي ومحلُّ نفوذِ الأمر والنهي ، فيه تتجلَّى جملة الصفات الفعلية ، وعليه تتدلَّى قدما الحق ، وذلك لأنه مَحلُّ الإيجاد والإعدام ، ومحلُّ بروز الأمر والنهي في الوجود ، ومحلُّ فَصْلِ القضاء ، والقلمُ محلُّ فصل التقدير ، واللوحُ محلٌّ للتدوين ، يَسَعُ كلَّ شيء ولا يَسعُه شيء} وَسِعَ كرسيُّه السموات والأرض{ (69)، وهذا الوُسْعُ وُسعان:
أ- وسعٌ حُكمِي يتمثل في أن السموات والأرض أثرُ صفةٍ من صفات الله الفعلية ، والكرسي هو مَظهَرُ جميع الصفات الفعلية ومَحلُّها ، فحصل الوسعُ المعنوي في كل وجه من وجوه الكرسي ، إذ كل وجه منه صفة من الصفات الفعلية .
ب- وسعٌ وجودي عيني يتمثل في أن الوجود بأسره محيطٌ بالسموات والأرض وغيرهما ، وهو المعبَّر عنه بالكرسي ؛ أعني الوجودَ المقيد ؛ لأنه محل نفــــــوذ
الأمر الإلهي ومحل الصفات الفعلية ، ومَظهرُ الاقتدارت الإلهية وليس المراد بجميع ذلك
إلا الوجود المقيد ، إذ هو المأمورُ المنفوذُ فيه الأمرُ (70). ويوازي الكرسيَّ من حروف اللغة حرفُ الكاف ،والاسمُ الإلهي الذي توجَّه على إيجاده هو << الشكور>> .
2 ـ مرتبة فَلَكَ البروج ؛ الذي تتحول ثُنَائِيةُ المرتبة السابقة فيه إلى كثرة تمثلها البروج الإِثْنَا عَشَرَ ؛ وهذا الفَلَك بحُكم تمثيله للكثرة يُعَدُّ سَبَبًا لكل التغيرات التي تقع في عالم الكون والفساد (= عالم التبدل والتغيُّر) على المستويين : الطبيعي والروحي . وهو فوق السماء السابعة ، ويسمَّى بالفلك الكبير ؛ سطحُه هو الكرسي الأعلى ، وبينه وبين الفلك المُكوكَبِ ثلاثة أفلاك وَهْمِيَّةٍ حُكميَّةٍ ، لا وجود لها إلا في الحُكم دون العين؛ وهي:
¨ الفَلك الأعلى على فَلَك الهَيُولَى
¨ فَلَكُ الهَبَاءِ
¨ فَلَكُ العناصر
وفَلَكُ البروج هذا هو عرصةُ سِدْرَةِ المنتهَى ، وهي تحت الكرسي (71) . ويوازيه من حروف اللغة حرف الجيم، والاسم الإلهي الذي توجَّه على إيجاده هـــــــــو << الغني>> .
4 ـ مرتبة كوكب المنازل ، ويوازيه من الحروف اللغوية حرفُ الشين، والاسم الإلهي الذي توجَّه على إيجاده هو << المُقدِّر>> ولا تخفَى دلالة هذا الاسم هنا ، فالأمور يتم تقديرُها تقديرًا فِعليا عبر هذا الكوكب ، ودلالةُ حرف الشين الموزاي له آتيَةٌ من خصائصه الصوتية ، فهو يُشير إلى << التَّفَشِّي>>الواضح للهواء حال النطق به ، وهي حالة توازي تَحوُّلَ<< المُضمَر>> إلى << مُعْلَنٍ>> في الأمر الإلهي من حيث صلتُه بعالم الكون والاستحالة .
وهذا جدول يُبيِّن مراتبَ الوجود الخفي والحروفَ الموازيةَ لها ، والاسمَ الإلهي الموجَّه على إيجاد كل مرتبة من مراتب المستويات الثلاثة السالفة :
الرقم الترتيبي
الحرف اللغوي
الإسم الإلهي
اسم المرتبة الوجودية
1
الهمزة(ممدودة)
البديع
العقل الأول (= القلم)
2
الهاء
الباعث
النفس الكلية (=اللوح)
3
العين
الباطن
الطبيعة الكلية
4
الحاء
الآخرِ
الهَيُولَى(= الجوهر الهبائي)
5
الغين
الظاهر
الجسم الكل
6
الخاء
الحكيم
الشكل
7
القاف
المحيط
العرش
8
الكاف
الشكور
الكرسي
9
الجيم
الغني
فلك البروج(=الفلك الأطلس)
10
الشين
المُقدِّرُ
كوكب المنازل
2.4 الوجود الجلي : مراتبه وحروفها :
ويشتمل هذا الشطرُ الظاهر من الوجود المسمَّى عالمَ الشهادة (= الكون والفساد) على ثَمَانَ عَشرة مرتبةً؛ هي :
1 ـ مرتبة السماء الأُولى ، وهي مخلوقة من حقيقة الروح، لتكون نِسبَتُها للأرض نِسبةَ الروح للجسد، جعلها الله أشدَّ بياضًا من الفضة ومن اللبن ، ووضعَ القمرَ فيها ،لأن القمر مظهر اسمه الحي ، وأدارَ فَلَكَه في سماء البروج ، فيه حياة الوجود، وعليه مَدار الموهوم والمشهود ، يتولى تدبيرَ الأرض كما تتولى الروح تدبيرَ الجسد ، ولو لم يَخلق الله سماء الدنيا من حقيقة الروح لَمَا كانت الحِكمةِ تقتضي وجودَ الحيوان من الأرض ، بل كانت مَحلَّ الجمادات (72) ، ويوازيها من الحروف حرف الياء ، والاسم الإلهي الذي توجه على إيجادها هو << الرب>>.
2 ـ مرتبة السماء الثانية ، وهي مخلوقة من الحقيقة الفكرية ، جوهرُها شفاف لطيفٌ ، ولونُها أشهبُ ، وتُعتبر للوجود بمثابة الفكر للإنسان ، ولهذا كانت مَحلاًّ لفَلك الكاتب ،وهو عطارد (73) ، يوازيها من الحروف حرف الضاد ، والاسم الإلهي الموجَّه على إيجادها هو << العليم>>.
3 ـ مرتبة السماء الثالثة ، وهي مخلوقة من حقيقة الخيال ، وجعلها الله مَحلاًّ لعالم المِثال (74)، يوازيها من الحروف حرف اللام ، وتوجَّه على إيجادها الاسم الإلهي << القاهر>>.
4 ـ مرتبة السماء الرابعة ، وهي مخلوقة من النور القلبي ، لونُها أَزْهَرُ، وهي سماءُ الشمس وقطبُ الأفلاك، تُعتبَرُ الشمسُ فيها بمنزلة القلب للوجود ، به عِمارتُه ، ومنهُ إشراقُه ونَضَارتُه ،فالنجومُ تلتمس أنوارَها منها ، وبها يعلو في المراتب مَنارُها (75) . وقد جعل الله هذا الكوكب الشمسيَّ في الفَلَك القلبي ليكون مَظهرَ الأُلُوهية ، ومَجلًى لمتنوعات أوصافِه القدُسية ، فالشمسُ أصلٌ لسائر المخلوقات العُنصرية ، كما أن الاسم << الله >> أصلُُ لكل المراتب العلية . ويوازي هذه المرتبة من الحروف حرف النون ، والاسم الإلهي الموجَّه على إيجادها هو << النور>> .
5 ـ مرتبة السماء الخامسة ، وهي مخلوقة من نور الوهم ، لونُها أحمرُ كالدَّم ، وهي سماء كوكب الزُّهَرَةِ؛ الذي هو مَظهرُ العظَمى الإلهية ؛ لأنه يقطع جميع الفلك في أربع وعشرين ساعة (67)، ويوازي هذه المرتبة من الحروف حرفُ الراء ، ويتوجه على إيجادها الاسم الإلهي << المُصوِّر>>.
6 ـ مرتبة السماء السادسة ، وهي مخلوقة من نُورِ الهِمَّة ، لونُها أزرقُ، وجوهرُها روحاني شفَّاف ، وكوكبُها المشتري الذي هو مظهر القَيُّوميَّة (77)، ويوازيها من حروف اللغة حرف الطاء،وتَوجَّه على إيجادها الاسم الإلهي << المُحْصِي>>.
7 ـ مرتبة السماء السابعة ،وهي مخلوقة من نور العقل الأول ، جوهرُها شفافٌ أسودُ كالليل المظلم ،تكَوَّنَتْ بالسواد إشارةً إلى سوادها والبِعاَدِ ، فلهذا لا يَعرفُ العقلَ الأولَ إلا كلُّ عالمٍ أكمل ، فهي سماءُ كِيوَانَ المُحيط بجميع عالم الأكوان ، وأفضلُ
السموات وأعلى الكائنات (78) ، وهذه المرتبة يوازيها من حروف اللغة حرفُ الدال ، وتوجَّه على إيجادها الاسم الإلهي << المُبين>>.
وهذه السموات السَّبْعُ كلها باختلاف كواكبها ومراتبها إنما هي في الأصل مخلوقة من ماء الدُّرَّة البيضاء ، فقد صَعِدَت لطائفُه كما يصعد البُخار من البحار ، ففتَّق الله هذه اللطائفَ سبعَ سموات ، وخلق ملائكةَ كل سماءٍ من جنسها ، ثم صيَّر ذلك الماء سبعةَ أَبحُر محيطة بالعالم ، فهذا هو أصلُ الوجود جميعه (79) . والسموات هاته هي من الدنيا لتبدُّلها وتغيرها ، وليست السماءُ الدنيا هي المزينة بزينة النجوم والكواكب التي تُشاهَدُ بالبصر ، لأنها لو كانت هي السماءَ الدنيا لكانت السمواتُ التي فوقها ليست من الدنيا ، ومعلوم أنها من الدنيا ،لأن كل شيء يُبدَّل ويُغيَّر وهو في معرض التبديل والتغيير ، فهو من الدنيا ، وقد قال تعالى :} يوم تُبدَّل الأرض غير الأرض والسموات{ (80)، بل السماءُ الدنيا هي السماءُ السابعة المشترَكةُ بين السموات العُلَى ، والسموات السُّفلَى ، وهي السماء التي سَوَّى الله منها السموات ، وجَعلَها ذاتَ وجهين ، وزينَها بالمصابيح التي هي عُكُوسُ قُلوبِ الملائكة ، كما أن سماء الأرض هي المزينةُ بالنجوم التي هي عُكُوسُ قلوبِ البَشَرِ . فأَحَدُ وجهي السماء الدنيا مُزينٌ بالمصابيح التي هي عُكُوسُ قُلوبِ قُلُوبِ الملائكةِ ، والوجهُ الآخَرُ مزين بزينة الكواكب،وهي عُكُوسُ الصفات الإلهية (81) . وإذن ؛ فإن الفرق بين السماء الملحوظة والسماءِ الدنيا هو أن هذه الملحوظةَ ليست بسماء الدنيا، وليس لَونُها لونَها ، ولا وصفُها وصفَها ، فهذه التي نراها ما هي إلا البخارُ الطالعُ بحُكم الطبيعة من يبوسة الأرض ورطوبةِ الماء، صعدت به حرارة الشمس إلى الهواء ، فملأ الجوَّ الخاليَ بين الأرض وبين السماء الدنيا ، ولهذا نراها تارة زرقاء ، وتارة شَمْطَاءَ ،وتارة غَبْرَاءَ ، كل ذلك على حُكم البخار الصاعد من الأرض ، وعلى قدر سقوط الضياء بين تلك البخارات ، فهي لاتصالها بسماء الدنيا تُسَمَّى سَمَاءَ الدنيا نَفسَها ، فلا يقع النظر عليها لشدة البُعدِ واللطافةِ(82).
وإنَّ هذه السموات السبع(= الأفلاك السبعة) المتحركة هي التي تُسبِّب حركتُها التغيرَ والتحولَ في العالم المنظور .
8ـ مرتبة كرة النار (= عنصر النار) ، وهي مرتبة روحية كلية ، لادرجة تعلوها درجاتٍ ، أو تسبقُها درجاتٍ في الوجود ، وتمثل طبعًا من الطبائع التي تشكلت منها أجسام الكواكب والأفلاك من الناحية الوجودية المادية . ويوازي هذه المرتبة حرفُ التاء ، والاسم الإلهي الموجَّهُ على إيجادها هو << القابض>>.
9 ـ مرتبة كرة الهواء (= عنصر الهواء) ، وهي مرتبة روحية كُلية ، لا تعلوها درجات ، ولا تسبقها درجات في الوجود ، وتمثل طبعا من الطبائع التي تكونت منها أجسامُ الكواكب من الناحية الوجودية المادية ، ويوازيها حرف الزاي ، وتوجَّه على إيجادها الاسم الإلهي << الحي >>.
10 ـ مرتبة كرة الماء (= عنصر الماء) ، وهي كذلك مرتبة روحية كلية ، لا تعلوها ولا تسبقها درجات في الوجود ، تُعَدُّ من الطبائع الأصلية التي تشكلت منها أجسامُ الكواكب من الناحية الوجودية المادية . ويوازيها حرف السين ، وتوجَّه على إيجادها الاسم الإلهي<< المُحْيِي>>.
11ـ مرتبة كرة التراب(= عنصر التراب) ، وهي أيضًا مرتبة روحية كلية ، وعنصر من العناصر الأربعة الأصلية التي صِيغت منها أجسام الكواكب من حيث الوجود المادي ، لا درجة تعلوها أو تسبقها في الوجود. ويوازيها حرفُ الصاد ، والاسم الإلهي الموجَّه على إيجادها هو << المميت>> .
12 ـ مرتبة المعدن ، وهي مرتبة الموجودات الأصلية التي تمثل مرتبة الحياة بإطلاق ، ويوازيها حرف الظاء ، وتوجه على إيجادها الاسم الإلهي << العزيز>>.
13 ـ مرتبة النبات ، وهي من مرتبة الموجودات الأصلية كذلك؛ التي تمثل مرتبة الحياة عامة ، ويوازيها حرفُ الثاء ، وتوجه على إيجادها الاسم الإلهي << الرازق>>.
14 ـ مرتبة الحيوان ، وهي من مرتبة الموجودات الأصلية أيضا ؛ التي تمثل مرتبة الحياة مُطلقًا . ويوازيها حرف الذال ، والاسم الإلهي الموجَّه على إيجادها هو << المُذِلُّ>>.
15 ـ مرتبة المَلَك ، وهي من مرتبة الكائنات الحية المنبثقة من مرتبة << الحيوان>>، ولكن بصورة مباينة ومخالفة ،فإذا كانت المخلوقات كلها من ذات الله فلأَنَ ذَاتَ الحق تَجمعُ الضدين ، فهو تعالى خلق النفْسَ المُحمديَّة من ذاته ، وخلق الملائكةَ من حيث الجمالُ والنورُ والهُدَى من نفْسِ محمد ص (83) ، ولهذا كانت هذه المرتبة روحانية وجودية .ويوازيها حرف الفاء ، وتوجَّه على إيجادها الاسم الإلهي << القوي>>.
16 ـ مرتبة الجن ، وهي من مرتبة الكائنات الحية المنبثقة كذلك من << الحيوان >> ولكن بوجود روحاني . ويوازيها حرفُ الباء ، وتوجَّه على إيجادها الاسم الإلهي << اللطيف>>.
17 ـ مرتبة الإنسان ، وهي من مرتبة الكائنات الحية المنبثقة أيضا من مرتبة << الحيوان>>، ولكن بوجود مادي وروحاني ، ويوازيها حرف الميم ، وتوجَّه على إيجادها الاسم الإلهي << الجامع>>.
18 ـ مرتبةُ المَرتبَةِ ، وهي المرتبة الأساسية التي على أساسها تَرتَّبت المراتبُ الوجودية كلها . ويوازيها حرف الواو ، وتوجَّه على إيجادها الاسمُ الإلهي << الرفيع الدرجات>>.
ويُستخلص من كل هذا أن مراتب الوجود والموجودات العينية تتوازى مع حروف اللغة ؛ التي تتشكل بدورها من تآلُفِ الحروف ؛ التي تُوازي مراتب الوجود . وعلى ذلك فالموجودات هي كلمات الله التي توازيها كلمات اللغة ، ولكن لابد من ملاحظة أن مراتب الوجود البسيطة هي ثمان وعشرون مرتبة بعدد حروف اللغة ، وكلماتُ الله التي تتألف من الحروف ؛ بالمعنى الوجودي واللغوي ؛ لا حصر لها . فالمستوى الأولُ من مستويات الوجود (= برزخ البرازخ)لا يوازيه أي حرف من الحروف الصوامت ، وإنما توازيه الحروف الصوائت (= الحركات) التي لا تتصف بالدخول في هذا العالم ولا بالخروج عنه (84) . فمن تآلف الصوامت والصوائت تتألفُ الكلمات التي تَفوق الحصر سواء في الوجود أو في اللغة ،فـ<< فالممكنات هي كلمات الله التي لا تنفد ، وبها يَظهرُ سلطانُها الذي لا يبعد ، وهي مُركبَّات لأنها أتت للإفادة ، فصدرت عن تركيب يُعبَّرُ عنه باللسان العربي بلفظه << كن>> ، فلا يتكون عنها إلا مُركَّبٌ من روح وصورة ، فتلتحمُ الصورُ بعضها ببعض لِمَا بينها من المناسبات (…..) والمادة التي ظهرت فيها كلمات الله التي هي العالم هي نَفَسُ الرحمن، ولهذا عُبِّر عنه بالكلمات>>(85).فمراتبُ الوجود إذن وُجِدَت عن نَفَسِ الرحمن، والموجودات المركَّبة وُجِدَت عن كلمة << كن>> الإلهية المرَكَّبة، والتي تتكون من جانبين:
أولهما: ظاهرٌ ، وهو تَكونُها من حرفين صامتين هُمَا الكافُ والنون.
ثانيهما : باطن، وهو تَكونُها من ثلاثة حروف هي : الكاف والواو والنون .
ومعنى هذا أنها توازي بباطنها عالمَ الغيب والملكوت ، وتوازي بظاهرها عالمَ المُلك والشهادة ؛ الذي له في الوقت نفسه ظاهر وباطن . فظاهرُ كلمة << كن>> يَعكس هذين البعدين ، بحيث تُمثل الكاف- من حيث مَخرَجُها –البعدَ الباطنَ،لأنها من حروف أقصى الحَنَك ، أي توازي باطنَ عَالمِ الشهادة ، وتمثل النونُ – من حيث مَخرجُها – البُعد الظاهرَ، لأن مخرجَها من التقاء اللسان مع أُصُولِ الثنايا العُليا ، زيادة على أنها تمثل شطرَ الوجود الجَلي (= الظاهر) ، حيث تُحيلُ النقطةُ التي فوق نصف الدائرة إلى النصف الخفي (= الباطن أو الغائب) . ويَكتسبُ حذفُ الواو عِدةَ دلالات وجودية ،فهي رابطةٌ << باطنة >> بين الكاف والنون ، وتُماثِل من هذه الوجهة التوجَّهَ الإلهيَ الباطنَ في إيجاد عينِ كل شيء ، سواء تَمَّ هذا التوجه باسم إلهي كما في إيجاد مراتب الوجود الأصلية ، أو تَمَّ التوجُّهُ بالقول (86) .إن هذا الوضعَ الباطنيَّ للواو يَتَماثَلُ مع وَجْهَيْ كلِّ موجودٍ. وجهٍ إلى عِلته وسببه المباشر ، أي وَجْهِهِ الظاهر ، ووجهٍ إلى مُوجِدِهِ الفعلي وهو الله ، أي وجهه الباطن ، وهو ما عَبَّرنَا عنه في أحد النصوص بـ<< نقطة واو >> فالواوُ إذن اسمٌ جَمَعَ فيه اللهُ الأشياءَ كلها ، ولأجل هذا جاءت موازية للمرتبة الأساسية التي ترتبت على أساسها المراتب كلها (87)
وهذا هو جدول مراتب الوجود الجَلي (= الظاهر) المرموزِ إليه بالنون ، والحروفِ الموازية لها ، والاسمِ الإلهي الموجَّه على إيجادها:
الرقم الترتيبي
الحرف اللغوي
الاسم الإلهي
اسم المرتبة الوجودية
11
الياء
الربُّ
السماء الأولى
12
الضاد
العليم
السماء الثانية
13
اللام
القاهر
السماء الثالثة
14
النون
النور
السماء الرابعة
15
الراء
المصور
السماء الخامسة
16
الطاء
المُحصي
السماء السادسة
17
الدال
المُبين
السماء السابعة
18
التاء
القابض
كرة النار (= عنصر النار)
19
الزاي
الحي
كرة الهواء(= عنصر الهواء)
20
السين
المُحْيِي
كرة الماء (= عنصر الماء)
21
الصاد
المُمِيت
كرة التراب (= عنصر التراب)
22
الظاء
العزيز
المعدن
23
الثاء
الرازق
النبات
24
الذال
المُذِلُّ
الحيوان
25
الفاء
القوي
الملائكة
26
الباء
اللطيف
الجِنُّ
27
الميم
الجامع
الإِنْسُ
28
الواو
الرفيع الدرجات
مرتبة المرتبةِ
ومجموعُ مراتب الوجود بشطريه هو المسمَّى بالحضرات الخمس ؛ وهي:
1- حضرة عالم النَّاسُوتِ ، وهي مرتبةُ وجودِ الأجسام الكثيفة بمختلِف أشكالها وأنواعها .
2- حضرة عالم الملكوت ، وهي مرتبةُ فيضِ الأنوار القدسية ، وهذه الحضرة تمتد من السماء الأولى إلى السماء السابعة ، وتُمثل عالمَ المثال وعالمَ الروحانيات والأفلاك.
3- حضرة عالم الجَبَرُوتِ، وهي مرتبةُ فيضِ الأسرار الإلهية ، وتمتد من السماء السابعة إلى الكرسيِّ ، وتُمثل عالمَ الأرواح المجرَّدة الذي هو عالمُ الملائكة .
4- حضرة عالم الَّلاهُوتِ ، وهي مرتبةُ ظهورِ أسماء الله تعالى وصفاتِه بأسرارها وأنوارها وفيوضِها وتجلياتها .
5- حضرةُ عالمِ الهَاهُوتِ ، وهي مرتبة البُطُونِ الذاتي (= العماء )؛ التي لا مَطْمَعَ لأحدٍ في نَيْلِهَا إلا التعلُّقُ بها فقط (88).
وللمراتب في التنزيل سبُع تسميات؛ وهي:
1- مرتبة الذات الساذج
2- مرتبة الأحدية
3- مرتبة الوحدة
4- مرتبة الواحدية
5- مرتبة الأرواح
6- مرتبة المِثال
7- مرتبة الحِسِّ
فمرتَبَةُ الذات الساذج هي كُنْهُ الحق ، وحضرةُ الطَمْسِ والعماءُ الذاتي ، والبطونُ الأكبر . ومرتبة الأحدية هي أقدمُ قِدَمِ أَحَدِيَّةٍ مطلقةٍ. ومرتبةُ الوحدة هي الاسم الأعظم . ومرتبةُ الواحدية هي حضرة الألوهية . ومرتبةُ الأرواح هي التعيُّنُ الأول الذي يُمثل عالمَ الأمر ، والنفوس المجرَّدةَ ، وعِلمَ الباطنِ ، وحقيقةَ الإنسان ، ومَجْمَعَ الأرواح، وعالمَ المعاني والعقول ، ومرتبةُ المِثالِ هي التعيُّنُ الرابعُ الذي يُمثل الكونَ الجامعَ مَنْشأ النُّور ، ورتبةَ الخيال المنفصِل . ومرتبةُ الحِسِّ هي عالمُ الأجسام الذي يُمثل عالمَ الشهادة، وعالمَ الخَلق ، ومرتبةَ الإنسانِ التي هي المرتبةُ الجامعةُ(98) ففي هذه المرتبة إذن يَظهر الموجود باعتباره ظاهرَ الممكنات ؛ الذي هو تجلي الحق بأحكامها المعبَّرِ عنها بظاهِرِ الوجودِ ، وبظاهرِ الحق في اسمه تعالى : } هو الأول والآخر والظاهر والباطن{ (90) ، وبتجلياته المُظهِرَة لأحكامِ معلوماته ؛ التي هي حقائقُ مُكوِّناتِه . فكلُّ ما يصح ظهورُه لغير الحق فإنما هو من قبيل هذا القسم ، لاستحالةِ إدراكنا لذاته ، ولحقائق معلوماته (91).
هوامش الفصل الثالث
1- د. نصر حامد أبو زيد : هكذا تكلم ابن عربي ،ط3،المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء / بيروت 2006 م ، ص :184
2- ابن عربي : الفتوحات المكية دار صادر ، بيروت ، د.ت 2/579
3- م . س ،2/269
4- نفسه ،1/160
5- هكذا تكلم ابن عربي ، ص :187
6- الفتوحات، 3/518
7- م.س ،1/304
8- نفسه،2/212
9- نفسه ،2/302،3/358، 4/208.
10- د. صالح حسن الفضالة : كرامات مغربية بعيون مشرقية ، ط1، لا مطبعة ، الرباط 2005 م ، ص : 95 .
11- م.س ، ص :109
12- نفسه ، ص :110
* وهذه أسماء بعض كتب ابن عربي عن الحرف ؛ حققها سعيد عبد الفتاح :<< الحروف الثلاثة >>، << كتاب الياء وهو كتاب (الهو)>>، << كتاب الألف وهو كتاب الأحدية>>،<< كتاب الباء>>، << كتاب الياء>>، << كتاب المبادئ الغايات في معاني الحروف والآيات>>،<< العقد المنظوم فيما تحويه الحروف من الأسرار والعلوم>> ،<< رسالة حرف الكلمات وصرف الصلوات >>، << رسالة المعراج وتنزيلُ حرف الإدخال والإخراج>>،<< رسالة سطر الحرف والكلمات وشطر حُسني الإدراك الموجب لتكملة السعادات >>،<< كتاب الميم والواو والنون >>، << كتاب ستة وتسعين >>،<< كتاب ستة وستين>>،<< رسالة في الحروف >>.
13- أحمد بلحاج آية وارهام :الرؤية الصوفية للجمال ، مخطوط ،2/146
14- سورة الأعراف / الآية 172
15- الفتوحات ، 2/275
16- م .س 2/274
17- هكذا تكلم ابن عربي ، مذكور ، ص ص : 141 ،142
18-الرؤية الصوفية للجمال ، مذكور ،2/146
19- الفتوحات ،2/572
20- ابن عربي : رسالة ( عين الأعيان )، ضمن ( رسائل ابن عربي شرح مبتدأ الطوفان ورسائل أخرى)، دراسة وتحقيق : قاسم محمد عباس وحسين محمد عجيل ، ط 1، منشورات المجمَّع الثقافي ، أبو ظبي ، الإمارات العربية المتحدة 1998م ، ص ص : 124،123
21-الشيخ عبد الكريم الجيلي : الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل ، قدّم له وضبطه وصححه وعلق عليه : الشيخ الدكتور عاصم إبراهيم الكيالي ط 2، جديدة بتحقيق جديد ، دار الكتب العلمية ، بيروت 1426هـ/2005 م ،2/268.
22- ابن عربي : رسالة ( فصل في شرح مبتدأ الطوفان) ضمن ( رسائل ابن عربي )، مشار إليه ، ص ص : 229،230
23- ابن عربي : كتاب الميم والواو والنون ، حققه وضبطه وقدم له : عبد الرحيم مارديني ، ط 1 ، دار المحبة بدمشق ودار آية بيروت 2002 /2003 م ، ص :73
24- الفتوحات ، 1/577
25- م . س ، 2/212
26- كتاب الميم والواو والنون ، ص :77
27- هكذا تكلم ابن عربي ، ص :250
28- الفتوحات ، 1/139
29- هكذا تكلم ابن عربي ، ص :215
30- الفتوحات ، 1/675
31-هكذا تكلم ابن عربي ، ص : 201
32- الفتوحات ، 4/802،3/358.
33- أبو القاسم ابن قسي : خَلع النعلين واقتباس النور من موضع القدمين ، تحقيق : د . محمد الأمراني ، ط1،أسفي، المغرب 1997م ، ص :31.
34- ابن عربي: إنشاء الدوائر ، ضمن كتاب (التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية ) ، تحقيق : نيبرج، مطبعة بريل ، لِيدَن 1339هـ ، ص ص :16 ،19
35- هكذا تكلم ابن عربي ، ص ص : 203،204
** هذه إشارة من ابن عربي إلى الفلاسفة الإشراقيِّين وأتباعِ أَفْلُوطِينْ من أصحاب الفيض والصدور
36- الفتوحات، 1/289
37- م . س ،1/290
38- نفسه ، 1/2842
39- د. عثمان يحيى: نصوص تاريخية بنظرية التوحيد في التفكير الإسلامي، ضمن كتاب ( الكتاب التذكاري محيي الدين ابن عربي ) خاصة في الذكرى المئوية الثامنة لميلاده ، الهيئة المصرية العامة للطباعة والنشر 9691م، ص : 832 – وانظر : عبد الرزاق القاشاني : شرح فصوص الحكم ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي ، ط2، القاهرة 1386هـ /1966م ، ص ص : 4،5
40- هكذا تكلم ابن عربي ، ص :208
41- م . س ،ص :210
42- الفتوحات ، 1/291
43- م . س ،2/310
44- نفسه ،1/139
45- نفسه ،1/140
46- هكذا تكلم ابن عربي ، ص : 218
47- سورة الطارق / الآية :5،7
48- سورة عبس / الآية 24
49 -ابن عربي : رسالة ( المقدار في نزول الجبار)، ضمن رسائل ابن عربي ، مذكور ، ص ص : 243،244
50- الشيخ علي حرازم برادة : جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التجاني ، وبهامشه( رماح حزب الرحيم على نحو حزب الرجيم ) لسيدي عمر الفوتي ، الطبعة الأخيرة ، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1382هـ/1963م ، 2/39
51- رضا أَكْبَرْيَانْ: الفلسفة والدين، تعريب:حيدر نجف ، مجلة ( المحجَّة)، فصيلة متخصصة تُعنى
بشؤون الفكر الديني والفلسفة الإسلامية المعاصرة،بيروت ،العدد 8،شتاء 1424هـ/2004 م،ص ص:16،17،19.
52- أحمد بلحاج آية وارهام : موقف ابن رشد من إشكالية المعرفة الصوفية ،ط1،دار وليلي للطباعة والنشر ،مراكش 2001 م،ص:87.
53- أحمد بلحاج آية وارهام : الجسد الروحي فضاءات وأسرار،كتاب منشور في الموقع الإلكتروني:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]54- القاشاني :معجم المصطلحات والإشارات الصوفية،تحقيق وتقديم:سعيد عبد الفتاح،ط1،دار الكتب العلمية،بيروت ،2/382.
55- الإنسان الكامل،2/255.
56- م.س،2/263 .
57- العجلوني: كشف الخفاء،1/309 ، الحديث رقم 823 ،ورواه الديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب،1/13 .
58- الحاكم: المستدرك على الصحيحين ، تفسير سورة حم الجاثية، 2/294، الحديث رقم 3691،ورواه أبو داود في سُنَنِه،باب القدر،4/225،الحديث رقم 4700.
59- الإنسان الكامل،2/187.
60- م .س ،2/207 ،209.
61-الفتوحات،2/420.
62- سورة الرعد/الآية 39.
63- سورة الأحزاب/الآية38.
64-الإنسان الكامل،2/188،189.
65-الفتوحات،2/568.
66- م.س ،2/430.
67- هكذا تكلم ابن عربي،ص ص:218،219،220
68- الإنسان الكامل ،2/185.
69- سورة البقرة/الآية 255.
70-الإنسان الكامل ،2/186.
71- م.س،2/279.
72- نفسه،2/270.
73- نفسه،2/272.
74 – نفسه ،2/274.
75 – نفسه،2/275.
76- نفسه،2/276.
77- نفسه،2/276.
78- نفسه،2/278.
79- نفسه،2/267.
80- سورة إبراهيم /الآية 84.
81- رسالة(المقدار في نزول الجبار)، مذكور، ص ص:246.
82-الإنسان الكامل،2/269.
83- م.س،2/240
84- الفتوحات،2/395.
85- م.س،4/65.
86- نفسه،2/332
87- هكذا تكلم ابن عربي، ص ص:221،222
88- جواهر المعاني،مذكور،2/39.
89- م.س،2/40،41
90- سورة الحديد /الآية 3.
91 – معجم المصطلحات والإشارات الصوفية،مذكور،2/