(إن الدنيا سريعة الفناء، قريبة الانقضاء، تعد بالبقاء، ثم تخلف في الوفاء، تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة، وهي سائرة سيراً عنيفاً، ومرتحلة ارتحالاً سريعاً، ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها، وإنَّما يحس عند انقضائها، ومثالها: الظل، فإنَّه متحرِّك ساكن، متحرِّك في الحقيقة ساكن الظاهر، لا تدرك حركته بالبصر الظاهر، بل بالبصيرة الباطنة، ولما ذكرت الدنيا عند الحسن البصري رحمه الله أنشد وقال:
أحلامُ نومٍ أو كظِلٍّ زَائِلٍ ... إنَّ اللبيبَ بمثلها لا يُخدَعُ)
(إنَّ طبع الدنيا: التلطف في الاستدراج أوَّلاً، والتوصُّل إلى الإهلاك آخراً، وهي كامرأة تتزين للخطاب، حتى إذا نكحتهم ذبحتهم).
(إنَّ الدنيا مزيَّنة الظواهر، قبيحة السرائر، وهي شبه عجوز متزينة، تخدع الناس بظاهرها، فإذا وقفوا على باطنها، وكشفوا القناع عن وجهها، تمثل لهم قبائحها فندموا على اتباعها، وخجلوا من ضعف عقولهم في الاغترار بظاهرها).
(إنَّ أوائل الدنيا تبدو هينة لينة، يظن الخائض فيها أنَّ حلاوة خفضها كحلاوة الخوض فيها، وهيهات فإن الخوض في الدنيا سهل، والخروج منها مع السلامة شديد، وقد كتب علي رضي الله عنه إلى سلمان الفارسي بمثالها فقال: مثل الدنيا مثل الحية، لين مسها، ويقتل سمها، فأعرض عما يعجبك منها، لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها بما أيقنت من فراقها، وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإنَّ صاحبها كلَّما اطمأن منها إلى سرور أشخصه عنه مكروه والسَّلام).
(إنَّ أهل الدنيا مثلهم في غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة، فانتهت بهم إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالخروج إلى قضاء الحاجة، وحذَّرهم المقام وخوَّفهم مرور السفينة واستعجالها، فتفرقوا في نواحي الجزيرة، فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة فصادف المكان خالياً، فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأوفقها لمراده، وبعضهم توقف في الجزيرة ينظر إلى أنوارها وأزهارها العجيبة، وغياضها الملتفة ونغمات طيورها الطيبة، وألحانها الموزونة الغريبة، وصار يلحظ من بريتها أحجارها وجواهرها ومعادنها المختلفة الألوان والأشكال، الحسنة المنظر، العجيبة النقوش، السالبة أعين الناظرين بحسن زبرجدها، وعجائب صورها، ثم تنبه لخطر فوات السفينة فرجع إليها، فلم يصادف إلا مكاناً ضيقاً حرجاً، فاستقر فيه، وبعضهم أكبَّ على تلك الأصداف والأحجار، وأعجبه حسنها ولم تسمح نفسه بإهمالها، فاستصحب منها جملة، فلم يجد في السفينة إلا مكاناً ضيقاً وزاده ما حمله من الحجارة ضيقاً، وصار ثقيلاً عليه ووبالاً، فندم على أخذه ولم يقدر على رميه، ولم يجد مكاناً لوضعه، فحمله في السفينة على عنقه وهو متأسف على أخذه، وليس ينفعه التأسف، وبعضهم تولج الغياض ونسي المركب، وبعد في متفرجه ومتنزهه منه حتى لم يبلغه نداء الملاح، لاشتغاله بأكل تلك الثمار واستشمام تلك الأنوار، والتفرج بين تلك الأشجار، وهو مع ذلك خائف على نفسه من السباع، وغير خال من السقطات والنكبات، ولا منفك عن شوك ينشب بثيابه، وغصن يجرح بدنه، وشوكة تدخل في رجله، وصوت هائل يفزع منه، وعوسج يخرق ثيابه، ويهتك عورته، ويمنعه عن الانصراف لو أراده، فلما بلغه نداء أهل السفينة انصرف مثقلاً بما معه، ولم يجد في المركب موضعاً، فبقي في الشط حتى مات جوعاً، وبعضهم لم يبلغه النداء، وسارت السفينة فمنهم من افترسته السباع، ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك، ومنهم من مات في الأوحال، ومنهم من نهشته الحيات فتفرقوا كالجيف المنتنة.
وأما من وصل إلى المركب بثقل ما أخذه من الأزهار والأحجار فقد استرقته وشغله الحزن بحفظها والخوف من فوتها وقد ضيقت عليه مكانه فلم يلبث أن ذبلت تلك الأزهار وكمدت تلك الألوان والأحجار فظهر نتن رائحتها فصارت مع كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها ووحشتها فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هرباً منها وقد أثر فيه ما أكل منها فلم ينته إلى الوطن إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بتلك الروائح فبلغ سقيماً مدبراً، ومن رجع قريباً ما فاته إلا سعة المحل، فتأذى بضيق المكان مدة ولكن لما وصل إلى الوطن استراح، ومن رجع أوَّلاً وجد المكان الأوسع، ووصل إلى الوطن سالماً، فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم ومصدرهم، وغفلتهم عن عاقبة أمورهم، وما أقبحَ مَنْ يزعم أنه بصير عاقل أن تغره أحجار الأرض وهي الذهب والفضة، وهشيم النبت وهي زينة الدنيا، وشيء من ذلك لا يصحبه عند الموت، بل يصير كلَّا ووبالاً عليه، وهو في الحال شاغل له بالحزن والخوف عليه، وهذه حال الخلق كلهم إلا مَنْ عصمه الله عزَّ و جلَّ).
(إنَّ مثل الناس فيما أعطوا من الدنيا مثل رجل هيَّأ داراً وزيَّنها، وهو يدعو إلى داره على الترتيب قوماً واحداً بعد واحد، فدخل واحد داره فقدم إليه طبق ذهب عليه بخور ورياحين ليشمه ويتركه لمن يلحقه لا ليتملكه ويأخذه، فجهل رسمه وظن أنَّه قد وهب ذلك، فتعلق به قلبه لما ظن أنه له، فلما استرجع منه ضجر وتفجع، ومَنْ كان عالماً برسمه انتفع به وشكره، ورده بطيب قلب وانشراح صدر، وكذلك من عرف سنَّة الله في الدنيا علم أنَّها دار ضيافة، سبلت على المجتازين لا على المقيمين ليتزودوا منها وينتفعوا بما فيها كما ينتفع المسافرون بالعواري، ولا يصرفون إليها كل قلوبهم حتى تعظم مصيبتهم عند فراقها).