(إن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق مشغوفاً بالتودد إليهم والمراءات لأجلهم ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتاً إلى ما يعظم منزلته عندهم، وذلك بذر النفاق وأصل الفساد، ويجر ذلك لا محالة إلى التساهل في العبادات والمراءاة بها، وإلى اقتحام المحظورات للتوصل إلى اقتناص القلوب، إذ النفاق هو مخالفة الظاهر للباطن بالقول أو الفعل، وكل من طلب المنزلة في قلوب الناس فيضطر إلى النفاق معهم وإلى التظاهر بخصال حميدة هو خال عنها، وذلك هو عين النفاق، فحب الجاه إذا من المهلكات فيجب علاجه وإزالته عن القلب فإن طبع جبل عليه القلب كما جبل على حب المال).
(علاج الجاه أن يعلم السبب الذي لأجله أحب الجاه، وهو كمال القدرة على أشخاص الناس وعلى قلوبهم، وذلك إن صفا وسلم فآخره الموت، فليس هو من الباقيات الصالحات، بل لو سجد لك كل من على بسيط الأرض من المشرق إلى المغرب فإلى خمسين سنة لا يبقى الساجد ولا المسجود له، ويكون حالك كحال من مات قبلك من ذوي الجاه مع المتواضعين له، فهذا لا ينبغي أن يترك به الدين الذي هو الحياة الأبدية التي لا انقطاع لها، ومن فهم الكمال الحقيقي والكمال الوهمي كما سبق صغر الجاه في عينه، إلا أن ذلك إنما يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة كأنه يشاهدها ويستحقر العاجلة، ويكون الموت كالحاصل عنده، ويكون حاله كحال الحسن البصري حين كتب إلى عمر بن عبد العزيز: (أما بعد فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات)، فانظر كيف مد نظره نحو المستقبل وقدره كائناً، وكذلك حال عمر بن عبد العزيز حين كتب في جوابه: (أما بعد فكأنك بالدنيا لم تكن وكأنك بالآخرة لم تزل)، فهؤلاء كان التفاتهم إلى العاقبة فكان عملهم لها بالتقوى؛ إذ علموا أن العاقبة للمتقين فاستحقروا الجاه والمال في الدنيا.
وأبصار أكثر الخلق ضعيفة مقصورة على العاجلة التي لا يمتد نورها إلى مشاهدة العواقب، ولذلك قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وقال عز وجل: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ}، فمن هذا حده فينبغي أن يعالج قلبه من حبِّ الجاه بالعلم بالآفات العاجلة، وهو أن يتفكر في الأخطار التي يستهدف لها أرباب الجاه في الدنيا، فإنَّ كل ذي جاه محسود ومقصود بالإيذاء وخائف على الدوام على جاهه ومحترز من أن تتغير منزلته في القلوب والقلوب أشد تغيرا من القدر في غليانها وهي مترددة بين الإقبال والإعراض.
فكلُّ ما يُبنى على قلوب الخلق يضاهي ما يُبنى على أمواج البحر، فإنه لا ثبات له، والاشتغال بمراعاة القلوب وحفظ الجاه ودفع كيد الحساد ومنع أذى الأعداء، كلُّ ذلك غموم عاجلة ومكدرة للذة الجاه، فلا يفي في الدنيا مرجوها بمخوفها، فضلاً عما يفوت في الآخرة، فبهذا ينبغي أن تعالج البصيرة الضعيفة، وأما من نفذت بصيرته وقوي إيمانه فلا يلتفت إلى الدنيا).
(مَنْ أحب الجاه والمنزلة فهو كمن أحب المال بل هو شر منه، فإنَّ فتنة الجاه أعظم، ولا يمكنه أن لا يحب المنزلة في قلوب الناس ما دام يطمع في الناس، فإذا أحرز قوته من كسبه أو من جهة أخرى وقطع طمعه عن الناس رأساً أصبح الناس كلهم عنده كالأرذال، فلا يبالي أكان له منزلة في قلوبهم أم لم يكن، كما لا يبالي بما في قلوب الذين هم منه في أقصى المشرق؛ لأنه لا يراهم ولا يطمع فيهم، ولا يقطع الطمع عن الناس إلا بالقناعة، فمن قنع استغنى عن الناس، وإذا استغنى لم يشتغل قلبه بالناس، ولم يكن لقيام منزلته في القلوب عنده وزن، ولا يتم ترك الجاه إلا بالقناعة وقطع الطمع).