معنى الأدب مع النفس :
فصل الخطاب في الأدب مع النفس إلزامها والسير بها على هدي النبي صلىالله عليه وسلم في جميع سيرته وأقواله وأفعاله وهديه ظاهرا وباطنا .
قال ابن القيم رحمه الله ( فللأكل آداب وللشرب آداب وللركوب آداب والدخولوالسفر والإقامة والنوم آداب ولقضاء الحاجة آداب وللسكوت والاستماع آداب )مدارج السالكين منزلة الأدب
أهمية أدب النفس :
اعْلَمْ أَنَّ النَّفْسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى شِيَمٍ مُهْمَلَةٍ، وَأَخْلاَقٍ مُرْسَلَةٍ، لاَ يَسْتَغْنِي مَحْمُودُهَا عَنْ التَّأْدِيبِ، وَلاَ يَكْتَفِي بِالْمُرْضِي مِنْهَا عَنْ التَّهْذِيبِ؛ لِأَنَّ لِمَحْمُودِهَا أَضْدَادًا مُقَابِلَةً يُسْعِدُهَا هَوًى مُطَاعٌ وَشَهْوَةٌ غَالِبَةٌ، فَإِنْ أَغْفَلَ تَأْدِيبَهَا تَفْوِيضًا إلَى الْعَقْلِ أَوْ تَوَكُّلًا عَلَى أَنْ تَنْقَادَ إلَى الأحْسَنِ بِالطَّبْعِ أَعْدَمَهُ التَّفْوِيضُ دَرَكَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَعْقَبَهُ التَّوَكُّلُ نَدَمَ الْخَائِبِينَ، فَصَارَ مِنْ الأدَبِ عَاطِلًا، وَفِي صُورَةِ الْجَهْلِ دَاخِلًا؛ لِأَنَّ الأدب مُكْتَسَبٌ بِالتَّجْرِبَةِ، أَوْ مُسْتَحْسَنٌ بِالْعَادَةِ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ مُوَاضَعَةٌ. وَذَلِكَ لاَ يُنَالُ بِتَوْقِيفِ الْعَقْلِ وَلاَ بِالانْقِيَادِ لِلطَّبْعِ حَتَّى يُكْتَسَبَ بِالتَّجْرِبَةِ وَالْمُعَانَاةِ، وَيُسْتَفَادَ بِالدُّرْبَةِ وَالْمُعَاطَاةِ. ثُمَّ يَكُونُ الْعَقْلُ عَلَيْهِ قَيِّمًا وَزَكِيُّ الطَّبْعِ إلَيْهِ مُسَلِّمًا. وَلَوْ كَانَ الْعَقْلُ مُغْنِيًا عَنْ الأدَبِ لَكَانَ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَدَبِهِ مُسْتَغْنِينَ، وَبِعُقُولِهِمْ مُكْتَفِينَ أهـ
وقال الإمام مالك رحمه الله: " كانت أمي تعمِّمني وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه ".
وقال عبد الله بن المباركرحمه الله: " كانوا يطلبون الأدب ثم العلم "، ويقول أيضا: "كاد الأدب يكون ثلثي العلم"، ويقول-رحمه الله-: " تعلمت الأدب ثلاثين سنة، وتعلمت العلم عشرين سنة ".
وقال سفيان الثوري رحمه الله: "ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وكان الرجل لا يطلب العلم حتى يتأدب ويتعبد قبل ذلك عشرين سنة".
وقال الحسن البصري رحمه الله:" إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين".
وقال ابن سِيرين رحمه الله : "كانوا يتعلمون الهديَ كما يتعلمون العلم"
وقال بعض السلف لابنه: " يا بني، لأن تتعلم باباً من الأدب أحب إليَّ من أن تتعلم سبعين باباً من أبواب العلم "
وقال الذهبي: " كان يحضر مجلس الإمام أحمد خمسة آلاف، خمسمائة يكتبون، والباقون يستمدون من سمته وخلقه وأدبه "
وقال مخلد بن الحسين لابن المبارك: " نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث "
وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيها واجعل لها من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيها من غرر الفوائد ، ودرر الفرائد .
(حديث أبي هريرة الثابت في صحيح الجامع) أن النبيصل الله عليه وسلمقال:إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق .
(حديث النواس ابن سمعان الثابت في صحيح مسلم) أن النبيصل الله عليه وسلم قال : البر حسن الخلق و الإثم ما حاك في صدرك و كرهت أن يطلع عليه الناس .
(حديث عبد الله بن عمرو الثابت في الصحيحين) قال لم يكن رسول الله فاحشاً ولا متفحشاً وكان يقول : إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً .
(حديث أبي الدرداء الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي ) أن النبيصل الله عليه وسلمقال : ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق ، فإن الله يُبْغِضُ الفاحشَ البذيء .
(حديث عائشة الثابت في صحيح أبي داود) أن النبيصل الله عليه وسلم قال : إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم .
( حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح الجامع )قالت: كان خُلُقٌه القرآن .
قال المناوي في فيض القدير : أي ما دل عليه القرآن من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده إلى غير ذلك. وقال القاضي: أي خلقه كان جميع ما حصل في القرآن. فإن كل ما استحسنه وأثنى عليه ودعا إليه فقد تحلى به، وكل ما استهجنه ونهى عنه تجنبه وتخلى عنه. فكان القرآن بيان خلقه. انتهى. وقال في الديباج: معناه العمل به والوقوف عند حدوده والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته.أهـ
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الزهري، قال: كنا نأتي العالم فما نتعلم من أدبه أحب إلينا من علمه.
أورد الماوردي رحمه الله تعالى في أدب الدين والدنيا عنعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَكَارِمَ الأخْلاَقِ وَمَحَاسِنَهَا وَصْلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمْ، فَحَسْبُ الرَّجُلِ أَنْ يَتَّصِلَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِخُلُقٍ مِنْهَا.
قال بعض أهل العلم : مِنْ فَضِيلَةِ الأدَبِ أَنَّهُ مَمْدُوحٌ بِكُلِّ لِسَانٍ، وَمُتَزَيَّنٌ بِهِ فِي كُلِّ مَكَان، وَبَاقٍ ذِكْرُهُ عَلَى أَيَّامِ الزَّمَانِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ: مَا نَحْنُ إلَى مَا نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى حَوَاسِّنَا مِنْ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ بِأَحْوَجِ مِنَّا إلَى الأدَبِ الَّذِي هُوَ لِقَاحُ عُقُولِنَا، فَإِنَّ الْحَبَّةَ الْمَدْفُونَةَ فِي الثَّرَى لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَطْلُعَ زَهْرَتُهَا وَنَضَارَتُهَا إلا بِالْمَاءِ الَّذِي يَعُودُإلَيْهَا مِنْ مُسْتَوْدَعِهَا. وَحَكَى الأصْمَعِيُّ رحمه الله تعالى أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ الْعَقْلُ بِلاَ أَدَبٍ كَالشَّجَرِ الْعَاقِرِ، وَمَعَ الأدبِ دِعَامَةٌ أَيَّدَ اللَّهُ بِهَا الألبابِ، وَحِلْيَةٌ زَيَّنَ اللَّهُ بِهَا عَوَاطِلَ الأحْسَابِ، فَالْعَاقِلُ لاَ يَسْتَغْنِي وَإِنْ صَحَّتْ غَرِيزَتُهُ، عَنْ الأدبِ الْمُخْرِجِ زَهْرَتُهُ، كَمَا لاَ تَسْتَغْنِي الأرضُ وَإِنْ عَذُبَتْ تُرْبَتُهَا عَنْ الْمَاءِ الْمُخْرِجِ ثَمَرَتُهَا