بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله على ما ألهم وأن علمنا ما لم نكن نعلم وكان فضل الله علينا عظيماً وصلى الله على السيد الأعظم والنبي الأكرم المعطى جوامع الكلم بالموقف الأعظم وسلم تسليما .
فصل
اعلم أن الحكم نتيجة الحكمة والعلم نتيجة المعرفة , فمن لا حكمة له لا معرفة له , فالحاكم العالم لله قائم , والحكيم العارف بالله واقف , فالحاكمون العالمون لاميون , والحكماء العارفون بائيون , لما شغف الزاهد بترك دنياه والمتوكل بتسليم كلية أمره إلى مولاه والمريد بالسماع والوجد , والعابد بالعبادة والجهد , والحكيم العارف بالهمة والقصد , غاب عن العالمون الحاكمون في الغيب فلا يعرفهم عارف ولا مريد ولا عابد ولا شهدهم متوكل ولا زاهد , فترك الزهد للعوض , وتوكل المتوكل لنيل الغرض , وتواجد لتنفيس الكرب , واجتهد رغبة في القرب , وقصد العارف الحكيم بهمته الوصول , وإنما يتجلى الحق لمن انمحى رسمه , وزال عنه اسمه , فالمعرفة حجاب على المعروف والحكمة باب يكون عنده الوقوف وما بقى من الأوصاف فأسباب كالحروف , وهذه كلها علل تعمي الأبصار , وتطمس الأنوار فلولا وجود الكون لظهر العين , ولولا الأسماء لبرز المسمى , ولولا المحبة لاستمر الوصل , ولولا الحظوظ لملكت المراتب , ولولا الهوية لظهرت الانية , ولولا هو لكان أنا , ولولا أنت لبدا رسم الجهل قائما , ولولا الفهم لقوي سلطان العلم , فإذا تلاشت هذه الظلم وطارت بمرهفات الفنا هذه البهم :
تجلى لقلبك من لـم يـزلبه قاطنا في غيـوب الأزل
وما حجب العين عن دركهاسواك ولكن بضرب المثل
تبيـن للقلـب أن الــذيرآه به داعيـا لـم يـزل
وجاء خطاب يعـم الكـلامويبدي سناه رسول المحـل
فصل
كان لنا بمرشانة الزيتون ببلاد الاندلس صاحب من الصالحين يعلم القرآن فقيها جيدا حافظا ذا ورع وفضل وخدمة للفقراء اسمه عبد المجيد بن سلمة اخبرني وفقه الله قال : بينما أنا ليلة في مصلاي قد أكملت حزبي وجعلت رأسي بين ركبتي أذكر الله إذ تحسست بشخص قد نفض مصلاي من تحتي وبسط عوضا عنه حصير خصف وقال : صل عليه , وباب بيتي علي مغلق , فداخلني منه جزع فقال لي : من تأنس بالله لم يجزع , ثم قال لي : اتق الله في كل حال , ثم اني ألهمت فقلت : يا سيدي بماذا تصير الأبدال أبدالا ؟ قال بالأربعة التي ذكرها أبوطالب في القوت , الصمت والعزلة والجوع والسهر , ثم انصرف عني ولا أعرف كيف دخل ولا كيف خرج , غير أن بابي على حاله مغلق والحصير الذي أعطانيه تحتي , وهذا الرجل هو من الأبدال واسمه معاذ بن اسوش رضي الله عنه , فهذه الأربعة التي ذكرها هي عماد هذه الطريق الأسنى وقوائمه , ومن لاقدم له فيها ولا رسوخ فهو تائه عن طريق الله تعالى , وغرضنا في هذه الكراسة الكلام في الفصول الأربعة وسنفرد لكل واحد منها فصلا ونذكر ما تعطيه من المعاني والأحوال , جعلنا الله وإياكم ممن تحقق بها وداوم عليها إنه على ذلك قدير .