المسألة الأولى :وهي الخلط بين مسألة الإيمان بوجود الله تعالى ومسألة توحيد الربوبية فسأبين أولاً :مسألة الإيمان بوجودالله تعالى .فلم ينكر وجوده إلا القليل من الناس كالدهرية الذين قال الله تعالى عنهم في كتابه الكريم ((وقالوا ما هي إلاحياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر )) وكالملحدين الماديين الذين يقولون :لا إله والحياة مادة.وكذلك فرعون الذي قال الله تعالى في شأنه((فكذب وعصى *ثم أدبر يسعى فحشر فنادى *فقال أنا ربكم الأعلى )) وقال ((ماعلمت لكم من إله غيري)) فجحد وجود الله جل جلاله وأدعى أنه الرب رغم أنه يعلم في قرارة نفسه أنه كاذب كما قال تعالى ((وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ..) ولا شك أن القرآن الكريم ذكر هذا النوع من أنواع الكفر وتناول تفنيده بالحجج المستفيضة والأساليب المفيدة التي تبناها الدعاة من المسلمين وعلى رأسهم الرسل عليهم السلام ثم من سار على نهجهم من دعاة المسلمين .واستفاد منها علماء الإسلام في دعوة الملحدين الماركسيين ونحوهم في زماننا .وإن كان هذا النوع من الكفر هو أقل في الوقوع من غيره إلا أن هذا لا يعني عدم دخوله في دعوة الرسل عليهم السلام أو عدم تناول القرآن الكريم له . فالإيمان بوجود الله مسألة لوحدها ،ومن ينكر وجود الله لابد أن ينكر أفعاله ،إذا كيف يفعل وهو سبحانه عدم في اعتقادهم .!
المسألة الثانية : توحيد الربوبية :هو إفراد الله تعالى بأفعاله . ومن الأمثلة على أفعاله الخلق والرزق والتدبير والتصرف في المخلوقات ونحو ذلك من أفعاله. فأغلب أهل الشرك يؤمنون بوجود الله تعالى وهذا بخلاف من ينكر وجود المولى عز وجل ،ولكنهم يكفرون ببعض أفعاله كما سيتضح الآن إن شاء الله تعالى.فهنا لابد أن نعلم أن أهل الشرك أقروا لله تعالى ببعض أفعاله جل جلاله كما ما ورد في بعض الآيات ولكنهم لم يفردوه بذلك ومن الآيات الدالة على إقرارهم ببعض أفعال الله قول الله تعالى{قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون *سيقولون لله قل أفلا تذكرون *قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم *سيقولون لله قل أفلا تتقون ...}وهي من سورة المؤمنون من آية 84 إلى 87ونحوها من الآيات الدالة على اعتراف الكفار ببعض أفعال الله تعالى .وهذا أمر لاشك فيه.
وأما دعوى أنهم أفردوا الله تعالى بالأفعال وأنهم أقروا بتوحيد الربوبية ولم يقع الكفر فيه ولذلك لم تتركز دعوة الرسل عليه .!
فهذا الكلام باطل بلا ريب لسببين:
السبب الأول:أن النصوص الشرعية دلت دلالة واضحة أنهم كانوا يشركون في ذلك ويعتقدون في آلهتهم أنهم شركاء لله تعالى في بعض الأفعال .
السبب الثاني:أن النصوص الشرعية الكثيرة قد دلت دلالة قاطعة على أنهم كفروا ببعض أفعال الله تعالى ولذا فلا يصح مايدعيه بعض المسلمين من أن الكفار لم يشركوا في توحيد الربوبية .وسأبدأ في بيان ذلك بحول الله وقوته .
أما وقوعهم في شرك الربوبية فيدل عليه الأدلة التالية:
1ـ بإكمال الآيات السابقة حيث قال الله تعالى {قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون *سيقولون لله قل فأنى تسحرون *بل أتينهم بالحق وإنهم لكاذبون *ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كلُ إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون *عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون}وهذه الآيات من سورة المؤمنون من آية 88ـ إلى 92فإن الآيات الكريمة بيّنت أنهم مقرون لله تعالى بهذه الأفعال المذكورة ولكن وضّحت شركهم في ذلك حيث ذكر الله تعالى أنهم كاذبون في دعواهم أن لله ولد سبحانه ،وكذلك دعواهم أن معه إله فقال تعالى ((وما كان معه من إله إذن لذهب كل إله بما خلق ))فلولا أنهم يعتقدون أن الإله متصرف كشريك لله تعالى لما ذكر لهم هذه الحجج فلوكان معه إله ـ كما يزعم الكفار ـ لانفرد كل إله بخلقه الذين خلقهم ،ولحصل النزاع وطلب العلو فيما بينهم ولما انتظم الوجود. فلولا أنهم يعتقدون وجود شركاء لله سبحانه في ذلك لما كان هناك أي وجه لذكر الاستدلال ،ولكان جوابهم أننا لم ندّعي لهم أي فعل يشاركون الله فيه؛بل قلنا أن الله لاشريك له في ذلك .فيكون إيراد ذلك عليهم من العبث الذي ينزه الله جل جلاله عنه.فالتلازم بين عبادتهم للأصنام وبين اعتقاد أنها شريكة لله تعالى في شيء من الإيجاد والتدبير غير منفك .ولذا فكما علمنا من القرآن الكريم أن الكفار مقرون بنسبة بعض الأفعال لله تعالى ،كذلك نعلم من دلائل آيات القرآن الكريم أن الله تعالى أورد الآيات الدالة على أنهم لا يفردونه وحده بل يدّعون أن معه شركاء في ذلك.وسيأتي المزيد من الأدلة إن شاء الله تعالى.فلو لم يسلّم الإنسان لهذا الدليل وتمسك بكون المشركين أقروا بأنه لا شريك لله في إيجاد الخلق لوجود نقول عن بعض الأئمة تنص على ذلك فلا بأس أن نتجاوز هذه الجزئية إلى التأمل في الأدلة الأخرى التي تدل على أن الكفار لم يقروا بتوحيد الله بأفعاله ،لأن القصد هو طلب الحق لا مجرد الخصام،وسيأتي من النقول ما تقر به عين طالب الحق بإذن الله تعالى.
2ـ ومن الآيات الدالة على وجود الشرك في توحيد الربوبية قوله تعالى {إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون }وهذه الآية تبين أنهم يعتقدون أن الهتهم ترزق ،إذ لا يصلح أن يقال لمن يعتقد أن الرزق بيد الله وحده لا شريك له ،وأن الآلهة ليست إلا للعبادة فقط دون وجود شرك في توحيد الربوبية ! { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق} لأن رد ذلك سيكون واضحاً إذ سيقولون :نحن نعلم أن الله هو المالك للرزق وحده وأن الآلهة لا تملكه فأصبحت الدعوة إلى ذلك من العبث .والله منزه عن ذلك .فدل بالجمع بين هذه الآيات وبين الآيات الأخرى التي يقرون بأن الله يرزق أنهم يعتقدون أن آلهتهم شركاء في ذلك ،لأنها تملك ذلك كما أن الله يملك ذلك في اعتقادهم الكفري.فهم لايجحدون كون الله يملك الرزق ،ولكنهم لا يفردونه بذلك بل يعتقدون أن له شركاء في ذلك.وهذا واضح جلي بأدنى تدبر .
فأين توحيد الربوبية الذين يقال أنهم وحدوا الله به؟!
3ـ ومن الآيات أيضاً الدالة على وجود الشرك في توحيد الربوبية قول الله تعالى {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا}سورة مريم 81فالآية ظاهرة الدلالة في أنهم عبدوا آلهتهم لأنهم يعتقدون أنها تحقق لهم العز والنصر ،وهذا فعل من أفعال الربوبية .ولذا عبدوهم رجاء هذا العز .فكيف يقال أن الكفار لم يشركوا في الربوبية ؟!
4ـ ومنها قول الله تعالى {أليس الله بكاف عبده ويخوِّفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فماله من هاد ،ومن يهد الله فماله من مُضلٍّ أليس الله بعزيز ذي انتقام }ووجه الاستدلال بالآية أنها تصّرح بأن المشركين يخّوفون الرسول صلى الله عليه وسلم بآلهتهم لاعتقادهم أن لها القدرة على الضر والنفع ،قال الإمام البغوي في تفسيره للآية :وذلك أنهم خّوفوا النبي صلى الله عليه وسلم معرة معاداة الأوثان ،وقالوا لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون . انتهى كلام البغوي انظرتفسير البغوي 4/69
فكلامهم صريح بقدرة آلهتهم على الإضرار وذلك فعل من أفعال الربوبية الذي أشركوا فيه .
5ـ ومن الأدلة قول الله تعالى {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون (54) من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون (55) }قال ابن جرير الطبري في تفسيره : وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول قوم هود : أنهم قالوا له، إذ نصح لهم ودعاهم إلى توحيد الله وتصديقه، وخلع الأوثان والبراءة منها: لا نترك عبادة آلهتنا، وما نقول إلا أن الذي حملك على ذمها والنهي عن عبادتها ، أنه أصابك منها خبل من جنون . انتهى كلامه رحمه الله . إذن فهم يعتقدون أن لها القدرة على أن تصيبه بالمرض والجنون وهذا شرك بالله في الربوبية لأنه لا يضر ،ولا ينفع حقيقة إلا الله جل جلاله. وهذا فيه تذكير بأنهم أشركوا في الربوبية ،ولم يوحّدوا كما يظن بعض المسلمين.
6ـ وكانوا يجعلون النجوم شركاء لله ومنها الشعرى قال تعالى {وأنه هو رب الشعرى } قال ابن جرير :يقول تعالى ذكره: وأن ربك يا محمد هو رب الشعري، يعني بالشعرى: النجم الذي يسمى هذا الاسم، وهو نجم كان بعض أهل الجاهلية يعبده من دون الله.وقال الألوسي في تفسيره لهذه الآية : ومن العرب من كان يعّظمها ويعتقد تأثيرها[1] في العالم ويزعمون أنها تقطع السماء عرضاً ،وسائر النجوم تقطعها طولاً ،ويتكلمون على المغيبات عند طلوعها ففي قوله تعالى : { وأنه هو رب } إشارة إلى نفي تأثيرها .انتهى كلام الألوسي .وقال القطان في تفسيره: {وأنه هو رب الشعرى } وقد نص بشكل خاص بأنه رب الشعرى اليمانية ( ألمع نجم في كوكبة الكلب الأكبر ، وألمع ما يرى من نجوم السماء ) - لأن بعض العرب كانوا يعبدونها . وكان قدماء المصريين يعبدونها أيضا ، لأن ظهورها في جهة الشرق نحو منتصف شهر تموز قبل شروق الشمس - يتفق مع زمن الفيضان في مصر الوسطى ، وهو أهم حادث في العام ، وابتداء عام جديد .انتهى وهذا واضح فيما ذكرت من اعتقادهم مشاركتها لله في أفعاله ويعبدونها أيضاً.
السبب الثاني ـ الدال على بطلان اعتقاد أنهم وحدوا في الربوبية : إنكارهم لبعض أفعال الله تعالى:
فقد جاءت النصوص الكثيرة التي بيّنت أنهم أنكروا البعث وهو فعل من أفعال الرب جل وعلا وإنكارهم لكل أفعال الله تعالى التي بعد البعث من باب أولى كالحشر ونشر الصحف ،والجزاء والحساب ،وغير ذلك من أفعاله جل جلاله فجميع هذه الأفعال لله تعالى يكفرون بها ،فهم إذن لم يُقّروا لله بأفعاله بل كفروا بها كما قال الله تعالى {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا ..}وقال تعالى ((وضرب لنا مثلاُ ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم ))قال العاص بن وائل وقد فت عظماً قد أرم [ يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا ]؟!قال ((نعم ويدخلك النار)) وقوله تعالى {بل قالوا مثل ما قال الأوّلون *قالوا أءذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءنا لمبعوثون *لقد وعدنا نحن وءاباؤناهذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين}المؤمنون 80ـ 83وقوله تعالى{أءذا كنا عظاماً نخرة ...)وفي سورة الواقعة وسورة ق وغيرها كثير .
فعذاب القبر ،والبعث ،والنشور ونشر الصحف ووزن الأعمال ،والعرض ،والتعذيب بالنار والإنعام بالجنة كلها ينكرونها بلا شك .وهي من أفعال الله تعالى. فكيف يقال أنهم موحدون توحيد الربوبية ؟!
ومن الأدلة :على كفرهم في توحيد الربوبية مارواه الإمام البخاري والإمام مسلم عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : ( هل تدرون ماذا قال ربكم؟ ) ، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ( قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) . ولهما من حديث ابن عباس بمعناه وهي سبب نزول قول الله تعالى { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون }.وعليه تعلم أنهم يعتقدون أن الأنواء ترزقهم الغيث فأين هذا من الشهادة لهم بأنهم أفردوا الله بأفعاله؟!
ومن الأدلة كذلك اعتقادهم أن التمائم تدفع الضر لا على وجه السببية بل على جهة الاستقلال أو الشراكة لله تعالى. أما دليل ذلك: فقوله صلى الله عليه وسلم (( من تعلق تميمة فقد أشرك) ، ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله: ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) .ولا وجه لصرف ذلك إلى الشرك الأصغر إلا ظن من يدّعون السلفية أن الكفار وحدوا الله في أفعاله ،وهذا باطل ،بل هم مشركون في ذلك الشرك الأكبر .ولذا فالنصوص الشرعية تبقى على ظاهرها حتى يرد ما يصرفها عن ظاهرها من أدلة أخرى . قال ابن قتيبة في غريب الحديث :التميمة خرزة كانت الجاهلية تعلقها في العنق ،وفي العضد تتوقى بها وتظن أنها تدفع عن المرء العاهات ،وكان بعضهم يظن أنها تدفع المنية حيناً. ويدلك على ذلك قول الشاعر [ من الطويل ]
إذا مات لم تفلح مزينة بعده * فنوطي عليه يا مزين التمائما. انتهى كلامه وقال ابن الأثير الجزري رحمه الله :إنما جعلها شركاً لأنهم أرادوا بها دفع المقادير المكتوبة عليهم ،فطلبوا دفع الأذى من غير الله تعالى الذي هو دافعه .قال :فكان المعنى في هذا إن علقها معتقداً أنها تضر وتنفع كشريك لله فهو شرك مخرج من الملة . انتهى
وقال الإمام ابن عبدالبر وهذا كله تحذير ومنع مما كان أهل الجاهلية يصنعون من تعليق ضالتمائم والقلائد يظنون أنها تقيهم وتصرف البلاء عنهم وذلك لا يصرفه إلا الله عز وجل وهو المعافي والمبتلي لا شريك له فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كانوا يصنعون من ذلك في جاهليتهم .أ ـ هـ من كتاب التمهيد17/ 161
قال الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الطيرة : وإنما جعل ذلك شركاً لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعاً أو يدفع ضراً فكأنهم أشركوه مع الله تعالى . انتهى من فتح الباري10/213
وجاء في الملل والنحل للشهرستاني ج2ص248قال :كان قصي بن كلاب يقول :أرباً واحداً أم ألف رب :أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعاً :كذلك يفعل الرجل الصبور .
وقيل هي لزيد بن عمرو بن نفيل . فتأمل في قوله أم ألف رباً فستجد أنهم يعتقدون التصرف والتدبير والعبادة لأرباب لالرب واحد .