بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد اشرف الأنبياء والمرسلين وعلى اله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
اللهم يا من جعلت الصلاة على النبي من القربات , أتقرب إليك بكل صلاة صليت عليه من أول النشأة إلى ما لا نهاية للكمالات .
--------------------------
هذا بحث لطيف وشيق يبين ان الدين الإسلامي مبني على مبداء الأستاذ والتلميذ او الشيخ والمريد وبالله التوفيق .
---------------------------
الشيخ والمريد في الدين الإسلامي :
------------------------
ان الكثير من الناس في هذا الزمان لا يجدون ضرورة في تلقي العلم على يد شيخ , رغم ان الكتاب والسنة والسيرة الإسلامية مليئة بأدلة ذلك .
واليك بعض النصوص والأمثلة من القران الكريم , والسنة المطهرة , وبعض التعليقات المهمة عليها لنبين كيف آن الدين الإسلامي كله مبني على مبداء الإستاد والتلميذ أو الشيخ والمريد .
وإذا كان هذا المبداء معهودا في العلوم الدنيوية حتى صار عرفا , فانه أحرى به في علوم الدين , وقد كان عُرفا جاريا لعهود طويلة في زمن الصحابة وبعد الفتح الإسلامي , وحتى في العصور التي شهدت الجامعات الإسلامية الموسوعية مثل الأزهر الشريف , وجامع الزيتونة بتونس , والمسجد الأموي بالشام .
قال الله سبحانه وتعالى ( يا أيها اللذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) .
والمتأمل في هذه الآية الشريفة يجد أن الخطاب فيها ليس لعموم الآمة , بل هو للمؤمنين , أي لمن أراد السير إلى الله والترقي حتى الوصول إلى مشاهدة وجه الله الكريم .
وفيها الخطاب للمؤمن بالتقوى , ومعروف ان التقوى في الإسلام بدنية , وفي مقام الإيمان قلبية , وفي مقام الإحسان روحية , وهذا ثابت لدينا من واقع الحال وصحيح النصوص , وما دام كان آمر الإيمان قلبيا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل ) فوجب على كل طالب تقوى من المؤمنين ان يعالج علل قلبه وأمراضه الباطنية , لانها معوقات في طريق سفره وترقيته إلى الله عز وجل , قال تعال ( وتزودوا فان خير الزاد التقوى ) , وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال ( الحسد يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل ) رواه الديلمي , والحسد كما هو معروف من عمل القلوب .
-----------------------------------------
إصلاح آمر الإيمان يقتضي إصلاح محاله وهي القلوب
فكما هو الحال في علل الظاهر إذ لابد من طبيب ماهر متخصص خبير مخلص متابع مداوم على زيادة العلم في تخصصه آمين على أمراض الناس , فكذلك الأمر في علل القلوب واكثر .
ولذلك فحل الأشكال لابد وان يأتي الله عز وجل وهو الخبير اللطيف بعباده المؤمنين حتى لا ينصرف كل واحد بما يمليه عليه هواه , فكان الآمر بصحبة الصادقين في آخر الآية وهو قوله تعالى ( وكونوا مع الصادقين ) .
ولكن لماذا الصادقين دون غيرهم ؟
فالصادقون في الآية السابقة هم من ساروا على نهج الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث لقب بالصادق الآمين لما كان عليه من الأخلاق الفاضلة النبيلة .
فالصدق ليس صفة واحدة في ذاتها , وانما هي صفة سارية في كل خلق ويفتقر إليها كل خلق , فتسري فيه سريان الدم في العروق , فتزيد اي خلق نورا ونضارة وقوة ودواما , وصدق رسول الله حين قال ( ولا يزال العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا).
وهي الرتبة البكرية او الصديقية على صاحبها رضوان الله تعالى إلى ابد الآبدين .
وقد وصف الله سبحانه وتعالى بها سيدتنا مريم عليها السلام فقال ( وامه صديقة كانا يأكلان الطعام ) .
ووصف بها أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام وذكرها قبل وصفه بالنبوة لشرفها وعزتها فقال عز وجل ( واذكر في الكتاب إبراهيم انه كان صديقا نبيا ) .
وكذلك سيدنا إدريس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .
والآمر في هذه الآية الشريفة ( وكونوا مع الصادقين ) للمؤمن بان يكون في معية الصادقين .
ويؤكد ذلك الوصف الذي اشتهر به السادة الصوفية في تعريفهم للتصوف ومبناه ومداره على - صدق التوجه إلى الله تعالى -
ولذلك فالصدق بدرجاته وصف لمشائخ التربية والسلوك الى الله سبحانه وتعالى , وهو ما اشترطه الصوفية أجمعين بلا خلاف .
قال تعالى في سورة الحجرات ( إنما المؤمنين اللذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وانفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) .
فهم المؤمنون كاملوا الإيمان في هذه الآية لقوله تعالى ( لم يرتابوا ) حيث أن الارتياب وصف لهم في البدايات , ثم ذهب عنهم هذا الريب بعد كمال الإيمان , فجاهدوا في سبيل الله حق جهاده بالمال والنفس , فليلزم المؤمن هذا الوصف لان الإيمان وصف عظيم له بدايات ونهايات حتى انه ورد وصفا لكثير من الأنبياء , بل لهم جميعا .
وهولا المؤمنون آي أكابر المؤمنين اللذين قال فيهم ربهم في سورة التوبة ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) .-------------------
-----------------------
فصل : -- الرحمن فسئل به خبيرا --
_________________
قال تعالى في سورة الفرقان , آية ( 59 ) : ( الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة آثام ثم استوى على العرش الرحمن فسئل به خبيرا )
-- في هذه الآية الكريمة استدلال بآخرها في ضرورة الخبير في دين الله عز وجل , وتحقيق الآية كلها ضروري لكمال المعاني .
-- فابتدأ الآية بما هو مدعاة لحيرة العقل البشري في مسالة خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام , آمر له مغزى وفيه معاني , فالقدرة الإلهية لا يعجزها خلق السموات والأرض وما بينهما بقوله تعالى ( كن ) فهذه حيرة , ولا يعجزها خلق ذلك كله في يوم آو يومين آو اكثر آو اقل , فلماذا ستة أيام بعينهم ؟ فهذه كذلك حيرة .
ثم اتباع ذلك بمسالة استواء العرش وهي من محيرات عقول ذي الألباب .
إن إثارة هذه القضايا في العقل يجعله بالكلية باحثا بهمته عمن يفك له هذه الطلاسم ويحل له هذه الرموز , ولذلك فقد تولى الله عز وجل رحمة منه بالإجابة بقوله تعالى ( الرحمن فسئل به خبيرا ) .
آي أن النجاة من خوض هذه البحار التي أهلكت كثيرا من السفن الجارية بحثا في العلم يمكن في ( من ) خبر الطريق الى الله تعالى وجد واجتهد حتى صار من عباد الرحمن .
فادا أردت الرحمن فاسال من خبر الطريق إلى الرحمن فهو خير دليل
والله ورسوله اعلم .
-------------------------
بعض خواص اسم الرحمن
--------------------
لهذا الاسم الجليل ( الرحمن ) خواص جليلة , ولهذا ذكره واختصه الله سبحانه وتعالى في هذا الموضع او في قوله تعالى ( الرحمن فسئل به خبيرا ) .
فهذا الاسم جامع لاسماء الله الحسنى مثل الاسم المفرد ( الله ) وذلك جلي في قوله تعالى ( قل ادعوا الله او ادعوا الرحمن اياما تدعوا فله الأسماء الحسنى ) سورة الإسراء الآية - 110- , فهي كلها تصف الرحمن كما تصف الله , ولذلك فمن تجلى عليه الاسم - الرحمن - صار خبيرا بجميع الأسماء الإلهية واليها تؤول العلو كلها , ظاهرها وباطنها .
ومن خواصه قوله تعالى ( الرحمن # علم القران ) , فهو خاص بعلوم القران , فمن تجلى عليه اسم الرحمن عُلم علوم القران .
ومن خواصه أن من أدرك تجليه كان من للمتقين إماما ( واجعلنا للمتقين إماما ) .
ولذلك كله وصفهم ربهم بأوصاف عظيمة كبيرة في قوله تعالى ( وعباد الرحمن اللذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) , وهي أوصاف خطيرة عظيمة الشان كلها تدلك او تعينك على فهم قوله تعالى ( الرحمن فسئل به خبيرا ) ,. وبه تستدل على وجوب المربي السالك شيخ التربية الحقيقي .
ولهذا فاعلم إن الخبير الأول هو المصطفى صلى الله عليه وسلم , ثم ورثته اللذين اجتهدوا وصبروا حتى عرفوا الرحمن وعرفهم , فعلموا القران فتحا ونورا مبينا , يكشفه الله لهم أسرار بعد أسرار , وعلموا الأسماء الإلهية سرا بعد سر , قال تعالى ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) .
والله ورسوله اعلم
-----------------------------------------
نظرة في آيات سورة الكهف الدالة على وجوب الشيخ المربي والمريد , واداب الصحبة :
----------------------------------------------------------
إذا أردنا أن نعرف مشروعية , وكيفية طلب العلم الإلهي , وكيفية نظامه ؟ وما هي شروطه ؟ فلنقراء ونتأمل الآيات الكريمات من سورة الكهف , فهي والله ناطقة بوجوب الشيخ والمريد ,وادب المريد الصادق مهما كان عالي المقام فشرطه التواضع والأدب مع شيخه , تلك السمة التي يراها البعض من تلامذة الاشياخ إزاء أشياخهم فينكرونها بدعوى إنها تقديس وتاليه , وهم والله براءة من ذلك .
** قال الله تعالى في الآية -64- من سورة الكهف ( قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا )
في هذه الآية الكريمة مبداء وجوب تحقيق النية في طلب العلم على يد من تدركه من آهل العلم ووجوب شغل الخاطر وملئه بالبحث عنه , ولو بالسفر إليه .
** ثم قال عز وجل في الآية -65 - فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما )
في هذه الآية حال الشيخ المربي ( عبدا ) والإضافة إلى الله ( من عبادنا ) لتحقيق الخصوصية , والشرف بذلك والرحمة من عندية الحضرة الإلهية ( من عندنا ) , والعلم اللدني ( من لدنا ) وهو نسب قياسي لغوي صحيح وان لم يستهوي البعض لهوى في نفسه , والمقصود به العلم الوهبي لا العلم الكسبي , وهو ثمرة التقوى .
فهذه كلها أحوال الشيخ التي يجب على المريد أن ينحراها بالبحث والتمحيص والتدقيق والاستخارة قبل الشروع في الصحبة , فإذا تحقق واهتدى إليه وجب معه الأدب .
فان صادفت الداعي محقا في زعمه ### مشيرا إلى التحقيق والمقام الأعلى
فإياك والإهمال فافحص عن قوله ### وسله عن الوصل هل يعكس الوصل ؟
فان أشار بالبعد ذاك لبعده ### وان أشار بالقرب فاتخذه آهلا
*** ثم قال الحق سبحانه وتعالى في الآية - 66- من سورة الكهف ( قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رٌشدا ) .
-- ( هل اتبعك ) تحرى أدب الخطاب من التلميذ للأستاذ
(على أن تعلمن ) جواز ذكر التلميذ لشيخه المقصود من الصحبة لبيان سمو الهمة لما فيه من إدخال السرور على الشيخ .
-- آما في قوله تعالى ( ولا اعصي لك آمرا ) تواضع التلميذ وأصهار قلة طموحه في الوصول لمقام شيخه , وهو ما يسمى بالملق الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ليس من أخلاق المؤمن الملق إلا في طلب العلم ) .
-- ثم قال سبحانه وتعالى في الآية - 67 و 68 - من نفس السورة ( قال انك لن تستطيع معي صبرا @ وكيف
تصبر على مالم تحط به خبرا ) .
في هذه الآية معنى المعاملة بالحكمة في تبيان الشروط التي ينبغي وجودها في التلميذ مع إعراض خفيف لما في ذلك من استنفار همة طالب العلم لتوليد الهمة في الطلب مع الإصرار عليه , مهما كانت العقبات , وتبين كذلك إن العقد شريعة المتعاقدين , فالشروط التي يشترطها الأستاذ ويوافق عليها التلميذ ادعى للالتزام من التلميذ
قال الله سبحانه وتعالى في الآية -69- من سورة الكهف ( قال ستجدني أن شاء الله صابرا ولا اعصي لك أمرا ) .
ونفهم من قوله تعالى ( ستجدني إن شاء الله صابرا ) وجوب التودد إلى الأستاذ وترضيته .
ونفهم من قوله تعالى ( إن شاء الله ) التودد إلى الله بغرض الاستعانة والتضرع ليحصل نوال المراد وذلك بتقديم مشيئته عز وجل
آما قوله تعالى ( ولا اعصي لك آمر ) نفهم من إغفال التنويه عن عدم عصيان الله , والاهتمام بذكر عدم عصيان الشيخ لبداهة شرط عدم عصيان الله , وهو ما يسمى بالمجاز العقلي , وهو أيضا من الملق في طلب العلم ( لا اعصي لك آمرا ) ولم يقل - لا اعصي لله آمرا - فانتبه لهذا المعنى الخفي
قال سبحانه وتعالى في الاية -70 - من سورة الكهف :
( قال فان اتبعتني فلا تسئلني عن شيء حتى احدث لك منه ذكرا ).
المفهوم من هذه الاية انه من الواجب على التلميذ ان لا يكثر من السؤال لانه من المهلكات , لقوله صلى الله عليه وسلم ( إنما اهلك من كان قبلكم كثرة السؤال لأنبيائهم ) ,. والصحيح تحري الزمان والمكان واحسان السؤال , لقوله صلى الله عليه وسلم ( حسن السؤال نصف العلم ) , والأفضل للمريد دائما أن يلتزم السكون والصمت حتى يكون الشيخ هو البادي بالكلام , أو الواعز لحصول السؤال حتى وان رأى مخالفة كما في بقية القصة , وليس معنى ذلك كما يظن البعض استباحة أو استهانة بأحكام الشريعة الغراء , وانما المطلوب لطالب العلم خصوصا في البدايات أن يثريت ويتأنى في إطلاق الأحكام على آي أحد , سيما الشيخ المعلم , فرعونات النفوس عنده حاجب عن رؤية الحق حقا , ولذلك من الدعاء -- اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه , وارنا الباطل باطل ورزقنا اجتنابه ) وإلا فالحق ابلج ليس بحاجة إلى الدعاء لإظهاره .
وانما المعضل والمشكل هو المرائي المركبة في الجنس البشري التي تشوش على الجوارح عزائمها , فلا يحصل الإدراك الصادق , فينطلق الأرعن في إطلاق الحكم وسوء الظن , وهذا ما روته بعد ذلك القصة في سورة الكهف , من خرق السفينة , وقتل الغلام , واقامة الجدار , حيث أنكر سيدنا موسى , وذكره أستاذه فافترقا .
وهذا من القواعد , حيث ينبغي للشيخ ألا يفض التعاقد مع مريده , وانما المريد هو الذي يفعل , وذلك لغرضية كمال الشيخ ونقصان المريد .
فمن ذلك فالحرص على الشيخ المربي من أوجب واجبات الدين .
فاللهم علمنا ما جهلنا , وانفعنا بما علمتنا , ftqg; وجودك ومنك وكرمك آمين
مما سبق يتبين لنا أهمية صحبة الشيخ للترقي في مدارج الكمال وتلقي دروس الأخلاق والآداب واكتشاف العيوب الخفية والأمراض والعلل القلبية .
ولكن قد يسال سال أو يقول قائل :
كيف الاهتداء إليه ؟ وكيف الوصول إلي معرفته ؟ وماهي شروط الشيخ وأوصافه ؟
فنقوك كما قال اللذين من قبلنا :
عندما يشعر الطالب بحاجته إلى الشيخ كشعور المريض بحاجته إلى الطبيب , ويصدق العزم , ويصحح النية , ويتجه إلى الله سبحانه وتعالى مضطرا يناديه ويدعوه متذللا متضرعا : اللهم دلني على من يدلني عليك واوصلني إلى من يوصلني إليك , فان الله سبحانه وتعالى سوف يأخذ بيد هذا المريد ويدله على من يدله عليه , وهذا من المجربات عند الله فله الحمد والمنة والشكر
...................
مباحث إضافية :
----------------
اعلم وفقني الله وإياك إلى طاعته إن هذه الآمة اتفقت خلفا عن سلفا أن أول ما يجب على المرء بعد انتباهه من الغفلة أن يعمد إلى شيخ ناصح مرشد عالم بعيوب النفس وانحرافاتها وأغراضها ودواعيها وأدوية أمراضها , فارغ من تهذيب نفسه وأغراضها , فيبصر المريد بعيوب نفسه ويخرجه من دائرة حسه , لان من لم يكن له شيخ يقوده إلى طريق الهدى , قاده الشيطان لا محالة إلى طريق الردى .
ولتعلم ان المريد مشتق من الإرادة , وهي لوعة في القلب يطلقونها ويريدون بها إرادة المتمني وهي منه وارادة للطبع ومتعلقها الحظ النفساني , وارادة الحق ومتعلقها الإخلاص .
وهذه هي التي اشتق للمريد منها اسمه عندهم , لان المتجرد عن إرادته لما أراد الله منه وهو العبادة قال تعالى " وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون " ويطلق عند القوم على شخصين :
واحد : من سلك الطريق بمكابدة ومشاحة ولم تصرفه تلك المشاق عن طريقه
والآخر : من تنفذ إرادته في الأشياء , وهذا هو المتحقق بالإرادة .
واعلم أن الطرق إلى الله كثيرة , وقد تعلق كل شيخ بطريقة لا يتعداها ,. بل كلها تحملها خلف عن سلف آداها , وذلك مثبت للطالب على الطريقة .
وممكن له من المواظبة عليها برسم حقيقة من غير تشويش لعزمه , ولا تشتيت لهمه , بالميل تارة إلى هذا , والميل مرة أخرى إلى غيرها , فيكون مذبذبا بين ذلك , لا إلى هولاء ولا إلى هولاء .
والمبتدي غير مستقل بالاختيار لانه غير مستغن عن الشيخ , في تعليم الآداب الظاهرة , والشرائط المتعلقة بأعمال التعبدات ممن آخذها بالسند المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم الهادي المرسل من غير زيادة ولا نقصان , إذ هو الداعي إلي الله تعالى من كل الوجوه حقيقة , والشيخ نائب عنه " نواب الإرسال في العالمين "
ولو فرضنا للمريد اختيارا , فان ليس في وسعه الثبات عليه , إذ الولاية في باطنه للنفس والشيطان , فاذا شرع في طريقته وتعلق بها , زين له الشيطان أخرى , وساعدته النفس , وخيل بالبرهان أنها افضل من هذه , ومقصوده إخراجه عن الأولى , وقطع سلوكه عليه , فإذا انتقل عنها واشتغل بالأخرى زين له الأخرى , وهكذا , إلى أن يمل الطالب وتسكن حرارة طلبه فيرجع القهقري , فإذا كان في حكم الشيخ وتحت كنف ولايته حفظ الشيخ أحواله بقوة ولايته , المستفادة من نور الحضرة الإلهية , وثبته عليها بهمته العالية العاملة , وكلامه المؤثر , فيعلم بديهة ان الداخل عليه شيطان , فيضعف الشيطان , إذ الشيطان لا يقوم إمام الشيخ .
شيخك يريك قطعا كيف السلوك ### فاثبت عسى جمعا ينفي الشكوك
وقل لمن يرى سر الملوك ## يفك لك رمزك شيئا فشيء
قال الشيخ السهر وردي رضي الله عنه
" أول ما يجب على المريد بعد الانتباه من الغفلة قصد شيخ مؤتمن ناصح عارف بالطريق فبسلم نفسه لخدمته , ويعتقد ترك مخالفته , ويتخذ الصدق حالا في صحبته .
ويلزم الشيخ أن يعرف المريد كيفية الرجوع إلى سيده , ويدله على الطريق المؤدية الى رشده , ويسهل عليه سلوكها .
ولا يجوز للمريد مفارقة أستاذه قبل انفتاح عين قلبه , بل عليه أن يصبر تحت آمره ونهيه وفي خدمته حتى يكمل
فلا شيخ إلا من يجود بسره ### حريصا على المريد من نفسه أولى
وذلك لانه لابد من مجالسته ما لم يجد من نفسه الملالة والقبض لينشطه بكلامه المنور بنور شهود الحق والحضور فتندفع بذلك الملالة والقبض وتشعل نار طلبه بحرارة نفس الشيخ وقربه , وكذلك ما يعرض له من القنوط من قول الشيطان له انك لا تصلح للحضرة للعيوب الكثيرة التي آنت بها مرتد , فمثلك لا يصلح للحضرة الطاهرة مع تلوثك بهذه النجائس والخسائس الظاهرة , فيحصل له انكسار عظيم يفضي به إلي يأس وذهاب همته , فثتقل عليه الأعمال فيملها ويتركها بالتدريج , فمتى لم يكن في قرب الشيخ وخفارته لم يتخلص من هذا المكر , بل لابد له من مجالسة الشيخ وقربه ولو نال الفتح في دقائق العلوم وغوامض الأسرار , والمكاشفات والكرامات فانه ربما يحصل له الإعجاب والتعلق بها , واعتقاد انه عين الكمال , فينقذه من ذلك الشيخ واشاراته , بل ولو وصل إلى التجليات الروحانية , لان التجليات الروحانية كثيرا ما تلتبس بالتجليات الرحمانية , فيحسب المريد انه وصل إلى المقصد الاقصى فينقطع , ولا يميز بينها إلا الشيخ الكامل .
وفي شرابهم المر يحلى ### وفي نطقهم عسل واختتام
والصلاة والسلام على سيد الأنام وعلى اله وصحبه الكرام
--------------------------------------
مصادر البحث :
-- كتاب المنح القدوسية للاستاد احمد العلاوي
-- كتاب الطبقات الكبرى للشعراني
-- كتاب الفتوحات المكية لابن عربي
-- احياء علوم الدين للغزالي
-- قواعد التصوف للشيخ زروق
-- تفسير بن عجيبة
-- تفسير روح البيان لاسماعيل حقي
-- حكم بن عطاء الله