اعلم أيدك الله ونورك أنه أول ما يجب على الداخل في هذه الطريقة الإلهية المشروعة طلب الأستاذ حتى يجده وليعمل في هذه المدّة التي يطلب فيها الأستاذ الأعمال التي أذكرها به , وهي أن يلزم نفسه تسعة أشياء فإنها بسائط الأعداد , فيكون له في التوحيد إذا عمل عليها قدم راسخة , ولهذا جعل الله الأفلاك تسعة أفلاك , فانظر ما ظهر من الحكمة الإلهية في حركات هذه التسعة , فاجعل منها أربعة في ظاهرك , وخمسة في باطنك , فالتي في ظاهرك الجوع والسهر والصمت والعزلة , فاثنان فاعلان وهما الجوع والعزلة , واثنان منفعلان وهما السهر والصمت , وأعني بالصمت ترك كلام الناس , والاشتغال بذكر القلب ونطق النفس عن نطق اللسان , إلا فيما أوجب الله عليه مثل قراءة أمّ القرآن أو ما تيسر من القرآن في الصلاة والتكبير فيها وما شرع من التسبيح والأذكار والدعاء والتشهد والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن تسلم منها فتتفرّغ لذكر القلب بصمت اللسان , فالجوع يتضمن السهر والصمت تتضمنه العزلة , وأما الخمسة الباطنة فهي الصدق والتوكل والصبر والعزيمة واليقين , فهذه التسعة أمّهات الخير تتضمن الخير كله والطريقة مجموعة فيها , فالزمها حتى تجد الشيخ .
( وصل شارح )
وأنا أذكر لك من شأن كل واحدة من هذه الخصال ما يحرّضك على العمل بها والدؤب عليها , والله ينفعنا وإياك ويجعلنا من أهل عنايته , ولنبتدىء بالظاهرة .
أوّلا ولنقل أمّا العزلة وهي رأس الأربعة المعتبرة التي ذكرناها عند الطائفة أخبرني أخي في الله تعالى عبد المجيد بن سلمة خطيب مرشانة الزيتون من أعمال إشبيلية من بلاد الأندلس وكان من أهل الجدّ والاجتهاد في العبادة فأخبرني سنة ست وثمانين وخمسمائة قال : كنت بمنزلي بمرشانة ليلة من الليالي , فقمت إلى حزبي من الليل فبينما أنا واقف في مصلاي , وباب الدار وباب البيت عليّ مغلق , وإذا بشخص قد دخل عليّ وسلم , وما أدري كيف دخل , فجزعت منه وأوجزت في صلاتي , فلما سلمت , قال لي : يا عبد المجيد من تأنس بالله لم يجزع , ثم نفض الثوب الذي كان تحتي أصلي عليه ورمى به , وبسط تحتي حصيراً صغيراً كان عنده , وقال لي : صل على هذا ، قال : ثم أخذني وخرج بي من الدار , ثم من البلد ومشى بي في أرض لا أعرفها , وما كنت أدري أين أنا من أرض الله , فذكرنا الله تعالى في تلك الأماكن ثم ردّني إلى بيتي حيث كنت , قال فقلت له : يا أخي بماذا يكون الأبدال أبدالاً , فقال لي : بالأربعة التي ذكرها أبو طالب في القوت , ثم سماها إلى الجوع والسهر والصمت والعزلة قلباً , ثم قال لي عبد المجيد : هذا هو الحصير فصليت عليه , وهذا الرجل كان من أكابرهم , يقال له معاذ بن أشرس .
فأمّا العزلة فهي أن يعتزل المريد كل صفة مذمومة , وكل خلق دنىء , هذه عزلته في حاله , وأمّا في قلبه فهو أن يعتزل بقلبه عن التعلق بأحد من خلق الله من أهل ومال وولد وصاحب وكل ما يحول بينه وبين ذكر ربه بقلبه حتى عن خواطره ولا يكن له همّ إلا واحد وهو تعلقه بالله .
وأما في حسه فعزلته في ابتداء حاله الانقطاع عن الناس وعن المألوفات , إما في بيته وإمّا بالسياحة في أرض الله , فإن كان في مدينة فبحيث لا يعرف , وإن لم يكن في مدينة فيلزم السواحل والجبال والأماكن البعيدة من الناس , فإن أنست به الوحوش وتألفت به وأنطقها الله في حقه فكلمته أولم تكلمه فليعتزل من الوحوش والحيوانات ويرغب إلى الله تعالى في أن لا يشغله بسواه , وليثابر على الذكر الخفيّ وإن كان من حفاظ القرآن فيكون له منه حزب في كل ليلة يقوم به في صلاته لئلا ينساه , ولا يكثر الأوراد ولا الحركات وليردّ اشتغاله إلى قلبه دائماً هكذا يكون دأبه وديدنه .
وأما الصمت فهو أن لا يتكلم مع مخلوق من الوحوش والحشرات التي لزمته في سياحته أو في موضع عزلته , وإن ظهر له أحد من الجنّ أو من الملأ الأعلى فيغمض عينه عنهم ولا يشغل نفسه بالحديث معهم وإن كلموه , فإن تفرض عليه الجواب أجاب بقدر أداء الفرض بغير مزيد وإن لم يتفرض عليه سكت عنهم واشتغل بنفسه , فإنهم إذا رأوه على هذه الحالة اجتنبوه ولم يتعرضوا له واحتجبوا عنه , فإنهم قد علموا أنه من شغل مشغولاً بالله عن شغله به عاقبه الله أشد عقوبة .
وأمّا صمته في نفسه عن حديث نفسه , فلا يحدث نفسه بشيء مما يرجو تحصيله من الله فيما انقطع إليه , فإنه تضييع للوقت فيما ليس بحاصل فإنه من الأمانيّ , وإذا عوّد نفسه بحديث نفسه حال بينه وبين ذكر الله في قلبه , فإنّ القلب لا يتسع للحديث والذكر معاً , فيفوته السبب المطلوب منه في عزلته وصمته , وهو ذكر الله تعالى الذي تتجلى به مرآة قلبه فيحصل له تجلي ربه .
وأمّا الجوع فهو التقليل من الطعام , فلا يتناول منه إلا قدر ما يقيم صلبه لعبادة ربه في صلاة فريضته , فإن التنفل في الصلاة قاعداً بما يجده من الضعف لقلة الغذاء أنفع وأفضل وأقوى في تحصيل مراده من الله من القوّة التي تحصل له من الغذاء لأداء النوافل قائماً , فإن الشبع داع إلى الفضول , فإن البطن إذا شبع طغت الجوارح وتصرفت في الفضول من الحركة والنظر والسماع والكلام وهذه كلها قواطع له عن المقصود .
وأمّا السهر فإنّ الجوع يولده لقلة الرطوبة والأبخرة الجالبة للنوم ولا سيما شرب الماء فإنه نوم كله وشهوته كاذبة , وفائدة السهر التيقظ للاشتغال مع الله بما هو بصدده دائماً , فإنه إذا نام انتقل إلى عالم البرزخ بحسب ما نام عليه لا يزيد فيفوته خير كثير مما لا يعلمه إلا في حال السهر , وأنه إذا التزم ذلك سرى السهر إلى عين القلب , وانجلى عين البصيرة بملازمة الذكر , فيرى من الخير ما شاء الله تعالى .
وفي حصول هذه الأربعة التي هي أساس المعرفة لأهل الله وقد اعتنى بها الحارث بن أسد المحاسبي أكثر من غيره وهي معرفة الله ومعرفة النفس ومعرفة الدنيا ومعرفة الشيطان وقد ذكر بعضهم معرفة الهوى بدلاً من معرفة الله
وأمّا الخمسة الباطنة فإنه حدثتني المرأة الصالحة مريم بنت محمد بن عبدون بن عبد الرحمن البجائي , قالت : رأيت في منامي شخصاً كان يتعاهدني في وقائعي وما رأيت له شخصاً قط في عالم الحس فقال لها : تقصدين الطريق قالت فقلت له : أي والله أقصد الطريق , ولكن لا أدري بماذا قالت فقال لي : بخمسة وهي : التوكل ، واليقين ، والصبر ، والعزيمة ، والصدق ، فعرضت رؤياها عليّ فقلت لها هذا مذهب القوم