فما المقصود من اتخاذ شيخ وطريقة ؟
يقول الشيخ محمد الهاشمي الشاذلي ( وأما إذا كانت الطريق طريق تبرك ، والشيخ ينقصه بعض شروط الإرشاد ، أو تعدد مطلوب المريد ، أو خالفت نية المريد همة الشيخ وتعدد الزمان أو فارق شيخه بموت أو غيره من حوادث الزمان ، وكان لم يتمم سيره إلى الله في الطريق ، ولم يحصل مقصودة من الطريق على يده ، فيجب عليه أن يواصل مطلوبة من الطريق ، ولا يجوز أن يبقى مربوطاً بالأول طول عمره ، وإلا أدى ذلك إلى موته جاهلاً بربه ويظن أن هذا هو المقصود من الطريق . كلا فإن المقصود من الطريق الوصول إلى المطلوب الأعظم ـ عز وجل ـ فطريق بلا وصول وسيلة بلا غاية ، والطريق جعلت للسير فيها بقصد الوصول إلى مطلبه لا للمكث والإقامة فيها وإلا أدى ذلك إلى موته جاهلاً بربه . والمراد بالمريد الحقيقي : هو الذي سلم نفسه مباشرة بالفعل للشيخ المرشد الحي في أيام السير إلى الله تعالى ليسلك به الطريق إلى أن يقول له : ها أنت وربك ( نقل من كتاب الحل السديد لما استشكله المريد 6-7).}.
قال سماحة المرحوم العلامة الأستاذ السيد أبو الحسن علي الندوي:
وهكذا أصبحت هذه المدارس التي تخضع لقيود وتقاليد
كثيرة قاصرة عن إصلاح شعبي وتربية عامة ، وبقيت منحصرة في نطاق ضعيف ، لا تقيد ولا تسعف إلا العدد القليل الذي يلحق بها ، وينتسب إليها .
فلا صله لها بالشعب ، ولا صله للشعب بها إلا عند الاستفتاء أو ما يشبه ذلك ، وأنها تعيش في عزلة عن الحياة .
وكذلك المؤلفون المثقفون الكبار ، فالفجوة الثقافية والعقلية بينهم وبين الشعب واسعة عميقة ، لا يعتبرها إلا الخاصة والشواذ .
ثم إن صله الناس بالمدارس والعلماء والمؤلفين صلة علمية عقلية ، لا يخضع له القلوب والنفوس ، ولا تنصبغ بها الحياة والأخلاق والطبائع إلا في النادر ، ولا يتقيد بها الناس ، ولا يرتبطون بها ارتباطاَ روحياً إلا في النادر .
كان المسلمون في حاجة إلي دعاة وشخصيات قوية جامعة تجمع بين تلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس ، وهكذا تخلف الرسول r في أمته بعد انقطاع النبوة ، وتجدد صلتها بالسنة والرسول ، وتجدد الميثاق الذي دخلت فيه هذه الأمة والمسلمون جميعاً عن طريق الإيمان ، والنطق بالشهادتين ، وما عاهدت عليه وبايعت الرسول r ـ مع بعد الزمان والمكان ـ من السمع والطاعة ، ومخالفة النفس والهوى والشيطان ، والتحاكم إلي الله والرسول ، الكفر بالطاغوت ، والمجاهدة ، والمجاهدة في سبيل الله .
فقد تغافل عن ذلك الخلفاء ، واقتصروا علي الجباية والفتوح وأخذ البيعة لأنفسهم وأولادهم ، وعجز عن ذلك العلماء ، فاشتغلوا بالفتوى والوعظ والتدريس والعلم والتأليف ، وإذا أرادوا لم يخضع لهم العامة ؛ لأنهم لا يرون فيهم إلا النادر القليل من الإخلاص والزهد .
وهكذا ضعف الشعور في العامة والسوقة والفلاحين والعملة ، حتى في كثير من الخاصة والمتعلمين / بأن الإسلام عهد وميثاق وبيع وشراء بين العبد وربه وأصبحوا أحراراً في تصرفاتهم ، جامحين عاتين في شهواتهم هملاً وقطعاناً ، لا يضبطهم راع ، وضعفت في كثير منهم الرغبة في الطاعات وبلوغ درجة الإحسان ، والحصول على نور اليقين وبشاشة الإيمان ، وتقاصرت الهمم ، وخمدت النفوس ، وأقبل الناس ـ إلا من عصم ربك ـ على اللذات والشهوات .
ضيعت الخلافة الإسلامية ـ كما وصفنا سالفاً ـ روح الخلافة وأمانة النبوة ، وأصبحت ملكاً وسياسة وإدارة جباية .
فقام في نواحي المملكة الإسلامية الواسعة خلفاء الرسول (r) والربانيون ، يجدد الناس بدعوتهم وصحبتهم ميثاق الإسلام ، ويدخلون في السلم فقهاً وإرادة ، بعدما دخلوا في الإسلام وراثة وعادة ، ويستردون بتعليمهم وتربيتهم حلاوة الإسلام ولذة الإيمان ، ويخرجون من سلطان الهوى ورق الشهوات وعبادة الناس ، وينشطون في العبادات والطاعات والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله .
ومن أشهر الدعاة والمربين : الحسن البصري ، والفضيل بن عياض ، ومعروف الكرخي ، والجنيد البغدادي رحمهم الله .
وانتهى الأمر إلى القرن السادس ، وقد تباعد الزمان عن النبوة وآثار بركاتها ، واتسعت الدنيا ، وكثرت أسباب الغفلة واللهو وطال عليهم الأمد فقست قلوبهم " .
انتهى ما تم اقتباسه من كلام المرحوم العلامة السيد أبي الحسن الندوي الحسني رحمه الله تعالى ، في كتابه المعنون " رجال الفكر والدعوة " ( 1 : 381 )
قال الأستاذ مصطفى صادق الرافعي:
والبلد الذي ليس فيه شيخ من أهل الدين الصحيح والنفس الكاملة والأخلاق الإلهية هو في الجهل كالبلد الذي ليس فيه كتاب من الكتب ألبته وإن كان كل أهله علماء , وإن كان في كل محلة منه مدرسة وفي كل دار من دوره خزانة كتب ,فلا تغني هذه الكتب عن الرجال , فإنما هي صواب أو خطأ ينتهي إلى العقل , ولكن الرجل الكامل صواب ينتهي إلى الروح , وهو في تأثيره على الناس أقوى من العلم , إذ هو تفسير الحقائق في العمل الواقع وحياتها عاملة مرئية داعية إلى نفسها , ولو أقام الناس عشر سنين يتناظرون في معاني الفضائل ووسائلها , ووضعوا في ذلك مائة كتاب , ثم رأوا رجلاً فاضلاً بأصدق معاني الفضيلة وخالطوه وصحبوه لكان الرجل وحده أكبر فائدةً من تلك المناظرة وأجدى على الناس منها وأدل على الفضيلة من مائة كتاب, ومن ألف كتاب , ولهذا يرسل الله النبي مع كل كتاب منزل ليعطي الكلمة قوة وجودها , ويخرج الحالة النفسية من المعنى المعقول , وينشئ الفضائل الإنسانية على طريقة النسل من إنسانها الكبير .
قال أبو علي : وقدمت إلى مصر لأرى أبا الحسن وآخذ عنه وأحقق ما سمعت من خبره مع ابن طولون , فلما لقيته لقيت رجلاً من تلاميذ شيخنا الجنيد يتلألأ فيه نوره ويعمل فيه سره , وهما كالشمعة والشمعة في الضوء وإن صغرت واحدة وإن كبرت واحدة, وعلامة الرجل من هؤلاء أن يعمل وجوده فيمن حوله أكثر مما يعمل هو بنفسه , كأن بين الأرواح وبينه نسباً شابكاً , فله معنى أبوة الأب في أبنائه : لا يراه من يراه منهم إلا أحس أنه شخصه الأكبر , فهذا هو الذي تكون فيه التكملة الإنسانية في أبنائه , وكأنه مخلوق خاصة لإثبات أن غير المستطاع مستطاع .
وإليك أمثلة تدل على ما نحن بصدده :
جاء في ترجمة الإمام مالك بن أنس عالم المدينة وإمام المذهب المالكي , المتوفى سنة 159رحمه الله تعالى : قال مصعب بن عبد الله :كان مالك إذا كر النبي صلى الله عليه وسلم عنده تغير لونه وانحنى , حتى يصعب ذلك على جلسائه , فقيل له يوماً في ذلك؟؟ , فقال : لو رأيتم لما أنكرتم علي ما ترون , كنت آتي محمد بن المنكد ر وكان سيد القراء _أي سيد العلماء _ , لا نكاد نسأله عن حديثٍ إلا بكى حتى نرحمه . ولقد كنت آتي جعفر بن محمد وكان كثير المزاح و التبسم ، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اخضرَّ و اصفرَّ ، وكنت كلما أجد في قلبي قسوة آتي محمد بن المنكدر فأنظر إليه نظرة ، فأتعظ بنفسي أياماً .
قال أشعث بن عبد الله أحد أصحاب الحسن البصري : كنا إذا دخلنا على الحسن ، خرجنا و لا نعد الدنيا شيئاً . وقال يونس بن عُبيد : كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم ير عمله ولم يسمع كلامه . وقال في وصفه : كان إذا أقبل فكأنه أقبل من دفن حميمه ، و إذا جلس فكأنه أمر بضرب عنقه ، وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له .
قال وكيع بن الجراح : النظر إلى وجه عبد الله بن داود عبادة .
و قال الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : لمجلسُ كنت أُجالسه عبد الله بن مسعود _رضي الله عنه _أوثق من في نفسي من عمل سنه .
قال عمر بن عبد العزيز : لأن يكون لي مجلس ُ من عبيد الله – عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة - أحب إلي من الدنيا وما فيها . وقال أيضاً : والله إني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال , فقالوا: يا أمير المؤمنين , تقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك ؟ فقال:أين يُذهب بكم؟والله إني لأعود برأيه وبنصيحته وبهدايته على بيت مال المسلمين بألوفٍ وألوف ,إن في المحادثة تلقيحاً للعقل , وترويحا ًللقلب , وتسريحاً للهم وتنقيحاً للأدب .
دليل أخذ العهد (الطريقة )شرعا :
عندما يريد أن يلتزم شخص بالطريقة الصوفية فعليه أن يجلس أمام شيخه ويبايعه على التوبة من الذنوب والالتزام بطاعة الله عز وجل وأن يكون سيره على مذهب شيخ من شيوخ الإرشاد كالشيخ عبد القادر الجيلاني أو الشيخ أحمد الرفاعي أو غيرهم من السادة الأكابر المربين …وإنما مثل هذا مثل من يلتزم بتطبيق الفقه على مذهب الإمام أحمد أو الشافعي أو المالكي …وهكذا .
ولعل قائلا يقول هل من دليل شرعي نستند إليه في مشروعية البيعة أو العهد أو التلقين الذي يأخذه المريد من الشيخ …؟
نقول :
إن هذا معروف بالتواتر ومنقول إلينا جيلا بعد جيل بشكل عملي معمول به ..وإن هذا مذكور في الكتاب والسنة وقد أجمع عليه أهل التربية والسلوك
القرآن :
قال تعالى إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيماً) الفتح آية 10
(وأوفوا بعد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم وكيلا )سورة النحل آية 91
(وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا )سورة الإسراء آية 34
السنة :
اخرج البخاري في صحيحيه عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ،ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوا في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ،ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله ، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه ).
عن يعلى بن شداد رضي الله عنه قال: حدثني اوس رضي الله عنه ؛وعبادة بن الصامت حاضر يصدقه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :هل فيكم غريب؟-يعني من أهل الكتاب –فقلنا : لا يا رسول الله ،فأمر بغلق الباب فقال : ارفعوا أيديكم وقولوا : لا إله إلا الله ،فرفعنا أيدينا وقلنا : لا إله إلا الله ،ثم قال صلى الله عليه وسلم :الحمد لله ؛اللهم إنك بعتنني بهذه الكلمة وأمرتني بها ،ووعدتني عليها الجنة ، وإنك لا تخلف الميعاد ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : ألا ابشروا فان الله قد غفر لكم )
روى الطبراني والبراز بإسناد حسن :أن عليا كرم الله وجهه سأل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : يا رسول الله دلني على أقرب الطرق إلى الله ، وأسهلها عبادة ، وأفضلها عنده تعالى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (عليك بمداومة ذكر الله سراً وجهراً ، فقال علي : كل الناس ذاكرون فخصني بشيء ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفضل ما قلته أنا و النبييون من قبلي : لا إله إلا الله ولو أن السموات والأرضين في كفة ولا إله إلا الله في كفة لرجحت بهم ، ولا تقوم القيامة وعلى وجه الأرض من يقول: لا إله إلا الله ، ثم قال علي : فكيف أذكر ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : غمض عينيك واسمع مني لا إله إلا الله ثلاث مرات ، ثم قالها ثلاثا وأنا أسمع ، ثم فعل ذلك برفع الصوت ).
والأحاديث الواردة اكثر من أن تحصى ولكن اخترت منها ما ذكرنا للدلالة على مشروعية أخذ البيعة والعهد على طاعة الله كما يفعل شيوخ الطريقة الصوفية من مبايعة المريد على طاعة الله والتوبة والإنابة إليه …وهكذا ظل علماء التصوف من بعد ذلك يأخذون البيعة على مريديهم إلى يومنا هذا والى أن تقوم الساعة ..وكم دخلت دول في الإسلام من خلال أرباب الطرق الصوفية من غير حروب أو قتال إنما من خلال مشاهدة الناس لأخلاق الصوفي وصدقه وإخلاصه وأدبه .