الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وءاله وصحبه أجمعين
وبعد
كنت نقلت نص وصية الإمام الرفاعي رضي الله عنه للخليفة المستنجد العباسي رحمه الله في بعض المنتديات ، وأحببت أن أضعها هنا أيضاً لما فيها من حكم وإرشادات ما التزم بها إلا سعيد إن شاء الله . وقد يكون أحد الإخوة سبقني بالنقل قبل انتسابي إليكم ، لكن " زيادة الخير خير " .
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وأهل بيته الطيبين
أولئك الذين هدى الله فبهداهمُ اقتدِه
أحضر الإمام أبو أحمد المستنجدُ بالله العباسيُ حاجبَه نصر بن عماد يوماً وذلك سنة 557 هجرية وقال له : إن السيد أحمد ممن أوتي الحكمة وزهد في غير الله ، فاذهب إليه بكتاب مني وائتني بجوابه فإني مستنصحُه ، وإنا أهل بيت أكرمنا الله بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وءاله وسلم .
فقال نصر بن عماد المذكور : السمع والطاعة لله ولأمير المؤمنين .
فكتب الخليفة المستنجد كتاباً قال فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم من أمير المؤمنين إلى السيد العارف الزاهد الشريف الدال على الله بهدي رسوله صلى الله عليه وءاله وسلم أحمد ابن الشريف أبي الحسن البطائحي العلوي نفع الله به المسلمين ، أما بعد :
فإني أسألك بالله أن تكثر من النصيحة لي بجوابك فإني في حاجة لنصيحتك وأي حاجة ، ولا ريب عندي بحصول بركة نُصحك لي إن شاء الله ، فأجبني بما يفتح الله به عليك مكثراً فإنك مهبط الفتح اليوم ، وأسألك الدعاء لي وللمسلمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وءاله وصحبه أجمعين .
وطوى الكتاب وأعطاه للحاجب المذكور ، فأخذه وأتى به إلى السيد الكبير رضي الله عنه ففتح الكتاب وقرأه وقال : " ماذا أقول ؟ إن قلت لا أقدر على النصيحة خفت الرياء ، وإن قلت أقدر خفت الفضيحة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " . ثم إنه أمر بدواة وقرطاس وقال لخادمه علي الطري : أكتب فإنك مبارك إن شاء الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيد خلقه محمد عبده وحبيبه ومصطفاه
أما بعد من الفقير إلى الله أحمد بن علي أبي الحسن كان الله له ، إلى الإمام الخليفة المطاع أمير المؤمنين أبي أحمد المستنجد بالله العباسي الهاشمي أيده الله بما أيّد به عباده الصالحين ءامين
وصلنا كتابك الآمر بالنصيحة . والحديث " الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة " ولولا هذا الحديث لما تصديتُ لنصحك ، لأن نصيحةَ مثلك ــ بارك الله بك ــ لها شرطان :
1 ـ الإخلاص من الناصح .
2 ـ والقبول بشرط العمل بالنصيحة من أخيه أيدك الله بتوفيقه .
يا أمير المؤمنين : إن أنت أنفذتَ أحكام كتاب الله تعالى وتقدس في نفسك نفَّذَ أحكامَ كتبِك في ملكه ، وإن عظّمتَ أمر الله تعالى باتِّباع رسوله عليه الصلاة والسلام واحتفلتَ بشأنه الكريم ، عظّمَ الناسُ عمّالَك وولاةَ الأمر من قِبَلِك ، ولا تنظر يا أمير المؤمنين ما عليه القياصرة وملوك المجوس من القوة في ملكهم مع انسلاخهم وبُعدِهم عن كل ما ذكرتُه ، فإنهم جهلوا الحق فأبعدهم عنه ، وقرّبهم من الدنيا وقرّبها منهم ، وولاهم أمر من شاء مِن خلقه فإن ساسوهم بما تكنّ إليهم أفئدتُهم وتطمئن طباعهم دام أمرهم في حجاب دنياهم إلى أن تنقطع حبالُ ءاجالهم ، وإن لم يسوسوهم بالرفق والمداراة ، وأوقعوا فيهم ما يثقل عليهم سلّطهم فسلب دنيا قوم بقوم ، والنار مأوى الكافرين .
وأما أنت يا أمير المؤمنين فحافظُ ثغورٍ ، وحارسُ دماء وأموال ، هُزّتْ بكل مفازاتها سيوف الإسلام لا عِلماً بقدومك بعد حين ، ولا تمهيداً لتفعل برأيك ، إنما كان ذلك لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فافزع في كل أمورك إلى الله وعظّم في كل شؤونك أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت حينئذٍ في أمان الله وظل نبيه نافذَ الأمر ثابتَ السلطان ، مؤيَداً بجند الله وكلماته ، ولا تبديل لكلمات الله .
ثم زن يا أمير المؤمنين كل ما يصل إلى خويصة نفسك في هذه الدار من طعامٍ تأكله وشراب تشربه ورداء ترتديه ، وظلٍ تستظلُه ، واجعل الشرهَ على الدنيا بقدْر ذلك ، وإياك وظلمَ العباد ، وإذا استوزرك الشيطانُ ورامَ نزغك إلى الظلم فسل نفسك أن لو كنتَ مسجوناً أو مظلوماً أو مقهوراً أو مكذوباً عليك : ما الذي تريده من سلطانك ؟ وعاملِ الناسَ بما تريده لنفسك ، فإنك إن فعلت ذلك وفيت العدل والآدمية حقها .
واعلم أن ما أنت فيه من الملك والدولة شيء يسير من ملك الله تعالى ، وأنت جزء صغير منه ؛ فإن رأيتَ لك شيئاً ونسيته وقمت تفعل فعلَ من يزعم مشاركته في ملكه فأهملتَ حقه ، وغدرتَ خلقه ، يصرف عنك عونه ونصره ، ولك فيمن بادَ عبرة .
ولا تنظر يا أمير المؤمنين إلى من صرفهم عن مشغلة الدنيا من أحبابه المقربين إليه كبعض الصحابة الذين نازعهم الناس وانتزعوا أزمّةَ الدنيا من أيديهم ، لأن أولئك قوم اجتذبهم إليه ، وولّى على الناس من يشاكلهم في أعمالهم ، وكلٌ عن عمله مسؤول ( ولا يظلم ربُك أحداً ) .
يا أمير المؤمنين ظلك ما أظلّك ، ورداؤك ما سترك ، وطعامك ما أشبعك ، ومالُك ما لك منه شيء و ( ليس لك من الأمر شيء ) إن ربي على ما يشاء قدير .
نعم أنت خاتم يطبع على أرواح الصوَر ، فيرفع الله به ويضع ، ويصل به ويقطع ، فإن أنت لزمت الأدب مع الفعال المطلق برعاية حق شرعه الذي شرع لعباده أثابك ، وأدار محورَ الوهب بك وبأهلك بعدك ، وإن أهملتَ أمره وهتكتَ ستر خلقه دخلتَ في عداد الظالمين ( وما للظالمين من أنصار )
يا أمير المؤمنين : أهل الفهم السليم والذوق الصالح تجتمع هيئتهم على الحق ، ويترعرعون في بحبوحة العدل والإحسان ، فكبيرهم وصغيرهم ، أميرهم ومأمورهم ، حرهم وعبدهم في الدين سواء ، ولكل منهم مقام معلوم ، لا تشب بهم نار الشقاق ، ولا يتحكم فيهم سلطان سوء الأخلاق ، يحكمون بما أنزل الله ، ولا يزالون في أمان الله .
يا أمير المؤمنين أرْوِقةُ الأعمال لا تعمر بأيدي الخيال ، ولا يُصان حيٌ إلا بمادة جامعة ، تُلصق القلوب ببعضها وتدفع النزاع والتفرقة ، وما هي والله إلا الشرع العادل ، والسنة المحمدية الصالحة ، وكل ذلك أمر الله الذي طبّع الطباع وعلِمَ ما تطيب له وبه ، يرتاح الضعيف لطلب حقه من خصمه القوي ، وأنت تدري يا أمير المؤمنين أن ابن عمك إمام المسلمين علياً أمير المؤمنين كرم الله وجهه ورضي الله عنه حدّث عن ابن عمه سيد المخلوقين صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لن تُقَدَّسَ أمة لا يؤخّذُ للضعيف فيها حقه من القوي غير ممتنع " والأمر والله كذلك .
وعلمت يا أمير المؤمنين من سيرة عمر بن الخطاب الفاروق الجليل رضي الله عنه أن لم يُرهب فارس والروم والمغرب الصين والهند والبربر بفرش الديباج وبُسط الحرير وكؤوس الجوهر والخيول المسوّمة ، والبيوت الشاهقة ، والأقواس المذهبة إنما أرهبهم بالعدل المحض ، وأفحم شوس رجالِهم بالحكمة البالغة ، ألا وهي شريعة نبيك سيد الحكماء وبرهان العقلاء وإمام الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم .
ولتعلم ــ أمطر الله على قلبك سحاب الإلهام المبارك والتوفيق ، وأحكمَ أمرَك بالأعوان الصالحين أهل الحكمة والنجدة ــ أن الحق كمين تحت ضلوع الخاصة والعامة ، المحق منهم والمبطل ، فربما أعانك عبدك على باطلك بيده ولسانه ، انقياداً لوقتك ، وأنكره عليك بسره ، وأضمر قلبُه لك بعدها السوء ، فلا يزكي ذكرك لديه ولو جعلته حراً ، ثم أكبرتَه ثم استوزرتَه ، بل ولو كان أشد منك باطلاً ، وهذا سر الله المضمر في الحق
واعلم ( أي سيدي ) : أن جيش الملوك العدل ، وحراسَهم أعمالهم ، ودفاترَ أحوالهم عمّالُهم وأصحابهم وهذه الدفاتر في أيدي العامة ، فأصلح دفتر أحوالك ، وأحكِم حِراستَك وأيّد جيشَك وعليك بأهل العقل والدين ، وإياك وأرباب القسوة والغدر والضلالة فهم أعداؤك ، وصُن أمرك من أن تلعبَ به النساء والأحداث والذين لا نخوة لهم ، فإنهم من دواعي الخراب والاضمحلال وإذا أحببتَ فحكّمِ الإنصاف في عملك حتى لا تقدّمَ غيرَ محقٍ ، أو ترفع بغير الحق ، وإذا كرهتَ فاذكر الله ، ونزّه طبعك من خور الغدر ، فإن مكانك مكانُ الأمن يدور صاحبه مع الحق لا مع الغرض ، وإذا غضبتَ فاجنح للعفو فإن أخطأتَ فيه خيرٌ من أن تخطئَ في العقوبة ، واجعل بَذْلَكَ ونوالَك لأهل الدين والحكمة والغيرة للإسلام ، واختر منهم أشرفهم طبعاً ، وأكبرَهم عقلاً ، وأوجزَهم رأياً ونُطقاً ، وأثبتهم حجة وأعلمهم بالله ورسوله ، وساوِ الناس براً وفاجراً ، مؤمناً وكافراً في باب عدلك ، واحفظ حرمة الدين وأهله واعمل عملاً تحسن به عاقبتُك وإذا لقيتَ ربك ، والله ولي التوفيق ؛ إنا لله وإنا إليه راجعون ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . انتهى الكتاب .
ثم أخذ الكتاب بيده وأعطاه للحاجب وقال : هذا ما عندنا والخير كله بيد الله .
فأخذ الحاجب الكتاب وقام إلى غرفة في الرواق مهيأة له ، فجاءه الشيخ ابن الطري خادم الرواق وقال للحاجب : أي سيدي لو أذنتَ أن أكتب صورة هذا الكتاب المبارك على قرطاس لي ولك الأجر .
فأعطاه الحاجب الكتاب واستنسخه ، فقال الحاجب للخادم :
والله ما رأت الأبصار ، ولا سمعت الآذان شأنَ رجل مثلَ هذا السيد الوسيع الرحاب ، الرفيع الجناب ، ولا بد أن أعود إليكم إن شاء الله فأنتسب إليه ، وأعوّل في أمر ديني عليه.
مضى الحاجب إلى بغداد وأعطى الكتاب الأحمدي إلى الخليفة رحمه الله ، ولما قرأه الخليفة بكى ، ثم قرأه ثانية وبكى حتى اخضلت لحيته بالدموع ، وتأوه تأوّهَ الثكلى ، ولما هدأ روعه وسكن حاله إلتفت إلى حاجبه وقال : والله إن في لسان السيد أحمد نغمة من لسان جده عليه الصلاة والسلام ولا ريب فهذا الرجل بركة بلاد الله اليوم
وأخذ يسأل الحاجب عن قيامه وقعوده ولباسه وأكله وشرابه وكلامه ، وما هو عليه ، وكلما ذكر له شيئاً أكثر البكاء حتى أمسك الحاجبُ عن الكلام رحمه الله .
وبعد أيام من وصول الحاجب إلى الخليفة استأذنه بالعودة إلى أم عبيدة لأخذ البيعة من السيد الرفاعي رضي الله عنه ، فأذن له الخليفة وأرسل معه الهدايا والأموال الكثيرة لتوزّع على فقراء الرواق ، وأقسم أن كل ما أرسله من إرث حلال . فلما وصل أم عبيدة بهدايا الخليفة وذكر يمين الخليفة أمره السيد أحمد رضي الله عنه أن يفرّق الهدايا والأموال على الفقراء ففرقها واستأذنه أن يجعل منها سهماً لأهل البيت الأحمدي فلم يأذن له ، ثم أخذ الحاجبُ العهدَ عليه وصار من خواص محبيه رضي الله عنه .