الحمد لله له الحمد وبه المستعان وعلى حبيبه سيدنا محمد وآله أفضل الصلاة والسلام .
من قرأ آيات فريضة الصيام بتدبر أدرك على الفور ما في هذه الفريضة من حكمة بالغة تحوطها الرحمة الواسعة : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا
مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
تبدأ
الآيات بالنداء تنبيهاً على أهمية ما يليه ، وتخص بالنداء الذين آمنوا لأن
الإيمان بالله يدعو إلى طاعة أمر الله ثم عقبت ذلك بالأمر بالصيام في لفظ
قوي صريح هو " كتب "
مع بيان ما ينشط إليه ويوضح أهميته وهو أنه مفروض على كل أمة مؤمنة من
السابقين ثم أوضحت الغاية والفائدة من الصيام فجمعت الآية كل معنى يبعث على
الطاعة وإلهاب العزيمة لفعل الأمر .
وقد كان النداء بيا وهي لنداء البعيد بما فيها من طول المد ، والمنادى هو ( أي )
التي تستعمل عند إرادة الإيقاظ الشديد للمنادى ووصفته بالإيمان ، وكل ذلك
تقوية لتبيه السامعين إلى أهمية ما يلقى إليهم ولم يأت في صفة المنادى
بصيغة الاسم { ياأيها المؤمنون } مثلاً لأن الاسم يدل على أن الصفة ثابته في موصوفها ، ولكن جاء بالاسم الموصول { الذين }
معه الفعل الماضي وفي ذلك فائدتان ، فائدة صيغة الفعل لتدل على أن الصفة
متجددة وصيغة المضي لتدل على ثبوت الإيمان قديماً في قلوبهم وهو أدعى إلى
طاعة الأمر وإثارة الرغبة فيها ولأن فيها التحبب من الله تعالى إلى عباده
بندائهم بهذه الصفة الفضلى التي تربطهم به وتميزهم عمن لا يستجيب له سبحانه
وهذا أهم ما يتطلبه الحال عند الأمر بما تعظم أهميته ويشق عمله .
ثم جاء بالأمر : { كتب عليكم الصيام } وفي كلمة كتب دلالات
، أولها المادة ( ك ت ب) وهي تدل على الوجوب المحتم والثانية صيغة الماضي
وهي تزيد الأمر تأكيداً لأنها تعني أنه قد ثبت فيما مضى وقضي به ، ثم أخبر
خلقه سبحانه وتعالى به بخلاف ما لو جاء بصيغة الأمر { صوموا }
، والثالثة هي أن البناء للمجهول مع السياق يفيد أنه لا علاقة بهذا الأمر
لغير صاحب الأمر فيما يوجب على الخلق ، فيزيد ذلك التحتيم قوة وصراحة .
وتعيين المفروض عليهم في قوله " عليكم " فيه تأكيد لهذا الإيجاب بتعيين من يجب عليه بخطاب صريح بخلاف ما لو قيل " صوموا " فإنه يكون ضمن الأمر لا بكلمة مستقلة .
ثم جاء ذكر المأمور به وهو " الصيام "
بكلمة مستقلة أيضاً وفي التفصيل من قوة الطلب ما ليس في الإجمال وإن كان
الإجمال إيجازاً فالإطناب بالتفصيل في مقام التأكيد أحق ، وفي تعريف الصيام
فائدتان ، أولاهما أن التنكير يحتمل به الكلام أي نوع من الإمساك ولو كان
عن الكلام أو غير ذلك كما يحتمل قدراً من الصيام غير منضبط بل يحتمل ما قل
أو كثر فكان في التعريف دلالة على أنه الصيام الكامل ، وفيه شمول للمقادير
المحتملة الكثيرة أو القليلة وفي ذلك تشويق إلى معرفة نوع الصيام هل هو عن
الطعام أو عن غيره وإلى معرفة مدته وأيامه فإذا بين بعد ذلك النوع والمقدار
كان متسقاً مع لفظ الصيام المعرف .
وبهذه الكلمات الثلاث { كتب عليكم الصيام }
يتبين للسامع قوة هذا الأمر وتحتيمه بكل تأكيد ووضوح بملأ النفس والعقل
بأهمية هذه الفريضة ومكانتها من دين الله تعالى وهذا الأسلوب أولى ما يعبر
به في حال طلب الأمور العظيمة الأهمية وإذا جاء غيره فيكون لسبب خاص ثم
جاءت عبارتان بعد ذلك كل منهما ذات جناحين تؤكدان بأحدهما أهمية هذه
الفريضة وبالثاني تخفيف صعوبتها على مؤديها فقال سبحانه وتعالى : { كما كتب على الذين من قبلكم }
أي هي لعظم أهميتها في دين الله فرضها سبحانه وتعالى على المؤمنين في جميع
الأمم السابقة ، وفرضها على كل الأمم يخفف على النفس تحملها فكل المؤمنين
قد عملوا بها والاشتراك في العمل يخففه على النفس فكل واحد منهم أسوة بأخيه
، والعبارة الثانية قوله سبحانه وتعالى : { لعلكم تتقون }
وهذه ثمرة العمل بفريضة الصيام وهي الغاية منه والأثر النافع فيه ، ومعرفة
المنفعة التي يثمرها العمل ترغب فيه وتحرض على امتثاله وتشعر بأهميته وهي
في نفس الوقت تخففه على النفس إذ الإنسان بطبعه يخف عليه العمل بما ينفعه
ويفيده فينشط إليه .
وتستمر عبارات التخفيف فيما تلا ذلك ، فأولها قوله سبحانه : { أياماً معدودات } أي هو زمن محدود ليس بالكثير بل يسهل عده حيث إن جمع المؤنث السالم { معدودات }
هو من صيغ الجمع الدالة على القلة ، وجموع القلة يغلب أن تكون دون العشرة
فوصف أيام الصيام بها يعني زيادة الإشعار بقلتها حتى لا يستثقلها المكلفون .
ولكي
لا تذهب الأذهان بعيداً فيما يخشى من ثقل الصيام - لاسيما في الأحوال غير
العادية كالمرض والسفر مما يشق على النفوس الصيام فيها - جاء قوله سبحانه { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } وبدئت الجملة باسم الشرط { فمن } ليعم هذا الحكم جميع المرضى والمسافرين ، والرخصة تظهر مافي هذا الفرض { كتب عليكم } من رحمة والعموم يزيد الشعور بها أكثر ، وفي البدل المطلوب لهذه الأيام تخفيف يكمل التخفيف السابق فقد نكر لفظ البدل { أيام }
منكراً لا تعيين في توقيته ولا في تتابعه لينفي عن المخاطبين الخوف من أن
تكون أيام القضاء بعد المرض والسفر مباشرة أو في وقت معين فيشق احتماله.
وأما قوله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } ففيه للعلماء وجهان من التفسير كل منهما يؤكد إبعاد العسر عن هذه الفريضة :
أحدهما
أن المراد بالذين يطيقونه هم الذين يستطيعون وأن ذلك يعني التخيير بين
الصيام والفدية بطعام مسكين ، وأن هذا كان رخصة ثم نسخت .
وثانيهما أن المراد بالذين يطيقونه من يستطيعونه بمشقة وأن ذلك يعني إعفاءهم من هذه الفريضة مقابل تلك الفدية دفعاً للمشقة عنهم .
وعلى
كل من الوجهين فإن هذه الفدية التي فرضت مقابل الصيام تشعر المخاطبين بأن
رحمة المؤمن لأخيه هي من قبيل شكره لله تعالى على رحمته بتخفيف حكم الصيام
في حقه .
ويكون قوله سبحانه { فمن تطوع خيراً فهو خيراً له } حثاً على أن تكون الفدية أكثر من الواجب أي إطعام أكثر من مسكين أو إعطاء المسكين الواحد أكثر من حد الإطعام ، هذا إذا فسر { الذين يطيقونه } بمعنى الذين يستطيعونه بلا مشقة ، وكذلك على تفسيره بالذين يستطيعونه بمشقة ويستفاد من هذا القول { فمن تطوع خيراً فهو خير له } معنى آخر وهو حث المخاطبين من الفريقين على اختيار فعل الصوم تطوعاً سواء كان بمشقة أو بدون مشقة .
ثم جاء قوله تعالى : { وأن تصوموا خير لكم }
إكمالاً لكل وجوه الترغيب التي تقدمت في الآيتين ، فالصيام خير لمن صام ،
والخير محبب إلى النفوس سواء كان خيراً روحياً مما أشير إليه في قوله
سبحانه وتعالى : { لعلكم تتقون } ،
أو كان غير ذلك من ضروب الخير كالفوائد الصحية والاجتماعية ويقظة المشاعر
الإنسانية الأخوية ، وقد أكد انتفاع الصائم بصومه بقوله سبحانه وتعالى : { لكم } أي ثمرة الصيام وخيره يعود عليكم .
والصيام خير لأهله في كل حال علموا بذلك أو لم يعلموه ولكن جاء قوله سبحانه وتعالى : { إن كنتم تعلمون }
إشارة إلى كثرة وجوه الخير في الصيام ظاهراً وباطناً وبادياً وخفياً لأن
أهل العلم دائماً يعلمون من منافع الأمور ما لا يعلمه غيرهم ، وهذا الختام { وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون }
هو خلاصة الحديث عن هذه الفريضة يرسخ في قلب السامعين فضيلتها وكمال نفعها
فيقبلون عليها بنفوس راضية وقلوب تشعر بجلالتها وأثرها في قربهم من الله
تعالى الذي يحبهم ويحبونه.