قال الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه الفريد "الذريعة إلى مكارم الشريعة":
التواضع اشتقاقه من الضعة، وهو رضا الإنسان بمنزلة دون ما يستحقه فضلة ومنزلته.
وفضيلته لا تكاد تظهر في أفناء الناس؛ لانحطاط درجتهم، وإنما ذلك يتبين في الملوك وأجلاء الناس وعلمائهم.
وهو من باب التفضل؛ لأنه ترك بعض حقه.
وهو من التوسط بين الكبر والضعة.
والضعة وضع الإنسان نفسه مكاناً يزري به بتضييع حقه.
والكبر: رفع نفسه فوق قدره.
والفرق بين التواضع والخشوعأن التواضع يقال فيما بين رفيع ووضيع.
وأيضاً فالتواضع يعبتر بالأخلاق والأفعال الظاهرة والباطنة، والخشوع يقال باعتبار أفعال الجوارح، ولذلك قيل: إذا تواضع القلب خشعت الجوارح.
وقال تعالى: (خاشعة أبصارهم)، وقال: (وخشعت الأصوات للرحمن).
وقد عظم النبي صلى الله عليه وسلم التواضع ومدحه، فقال: (طوبى لنم تواضع في غير منقصة، وذل في نفسه من غير مسكنة).
وقد قيل لبزرجمهر: هل تعرف نعمة لا يُحسد صاحبها عليها، وبلا لا يرحم صاحبه عليه؟
فقال: نعم، أما النعمة فالتواضع، وأما البلاء فالكبر.
وقد بعض الحكماء: وجدنا التواضع مع الجهل والبخل أحمد عند الحكماء من الكبر مع الأدب والسخاء.
فأنبل بحسنةٍ غطت على سيئتين، وأقبح بسيئة غطت على حسنتين.
فالكبر هو ظن الإنسان بنفسه أنه أكبر من غيره،
والتكبر إظهار لذلك، وهذه صفة لا يستحقها إلا الله تعالى، ومن ادعاها من المخلوقين فهو فيها كاذب، ولذلك صار مدحاً في حق الباري سبحانه وتعالى، وذماً في البشر.
وإنما شرف المخلوق في إظهار العبودية، كما قال تعالى: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون)، تنبيهاً على أن ذلك لهم رفعة لا ضعة.
والمتكبر والضَّرِع كلاهما جاهلان، لكن الضرع غبي، والمتكبر غبي أحمق، وشتان ما بينهما، فالغبي قد يتأدب، والأحمق لا سبيل له إلى تأديبه، ولأن الضرع قد ترك ما له، والمتكبر قد ادعى ما ليس له، وشتان ما بين المنزلتين، ولأن الكبر يتولد من الإعجاب، والإعجاب من الجهل بحقيقة المحاسن، والجهل رأس الانسلاخ من الإنسانية.
ومن الكبر الامتناع من قبول الحق، ولذلك عظم الله تعالى أمره فقال: (إنه لا يحب المستكبرين)، وقال تعالى: (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين)، وقال: (اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق)، وقال: (كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في نار جهنم).
وقد نبه سبحانه وتعالى على مبلغ فعله أحسن تنبيه، فقال: (ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً)، وأقبح كبر بين الناس ما كان معه بخل، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل والكبر).
واستحسن قول الشاعر:
جمعت أمرين ضاع الحزم بينهما=تيه الملوك وأفعال المماليك
ومن تكبر لرياسة نالها دل ذلك على دناءة عنصره.ومن تفكر في تركيب ذاته فعرف مبدأه ومنتهاه وأوساطه عرف نقصه ورفض كبره، وقد نبه الله سبحانه وتعالى على ذلك أحسن تنبيه فقال: (فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب)، وبقوله تعالى: (قتل الإنسان ما أكفره، من أي شيء خلقه، من نطفة خلقه فقدره)، ثم قوله تعالى: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه)، وقوله تعالى: (أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين).
وإلى هذا المعنى نظر مطرف بن عبد الله بن الشخير لما قال ليزيد بن المهلب: أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة.
وأخذ ذلك الشاعر فقال:
كيف يزهى من رجيعه=أبد الدهر ضجيعه
وقال غيره: يا قريب العهد بالمخرج، لم لا تتواضع.
فمن كان تكبره لقنيته فليعم أن ذلك ظل زائل وعارية مستردة.
والاستطالة إظهار الطول، فمن أظهر ذلك من غير طول فهو منسلخ عن الإنسانية، ومن أظهر ذلك مع الطول فقد ضيع طوله.
والصلف: يقال اعتباراً بميل في عنقه.
والصعر: بميل في خده، ولذلك ا ستعمل في ذلك لي الرأس، نحو قوله تعالى: (لووا رؤوسهم).
والإباء استقصاء في النفس بالترفع عن الانقياد للواجب.
والخيلاء: أن يظن بنفسه ما ليس فيها، من قوله: خلتُ.
ولتصور هذا المعنى قال حكيم: إعجاب المرء بنفسه أن يظن بها ما ليس فيها، مع ضعف قوة، فيظهر فرحه بها.
والزهو: هو الاستخفاف من الفرح بنفسه.
وأما العزة: فالترفع بنفسه عما يلحقه غضاضة، وأصلها من العزاز، وهي الأرض الصلبة.
والعزاز حصوله في عزاز لا يلحقه فيه غضاضة، كالمتلظف في كونه في ظلف من الأرض، لا يلحقه فيه مذلة.
والعزة منزلة شريفة، وهي نتيجة معرفة الإنسان بقدر نفسها وإكرامها عن الضراعة للأعراض الدنيوية، كما أن الكبر نتيجة جهل الإنسان بقدر نفسه، وإنزالها فوق منزلتها.
وكثيرا ما يتصور أحدهما بصورة الآخر، كتصور التواضح والتضرع بصورة واحدة، وتوصر الإسراف بصورة الجود، وتصور البخل بصورة الحزم، ولهذا قال الحسن رحمه الله تعالى لمن قال له: ما أعظمك في نفسك! فقال: لستُ بعظيم ولكني عزيز.
وقد قال الله تعالى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه).
ولما قلنا قالوا: التكبر على الأغنياء تواضع، تنبيهاً أن هذا التكبر في الحقيقة عز النفس، ولأجل أن هذا التكبر غير مذموم قال تعالى: (ويتكبرون في الأرض بغير الحق)، فشرط غير الحق.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (من خضع لغني فوضع نفسه عنده طمعاً فيه، ذهب ثلثا مروءته، وشطر دينه.
انتهى كلام الإمام الراغب، رحمه الله تعالى.