الحب في الله والحث عليه
وإعلام الرجل من يحبه أنه يحبه ، وماذا يقول له إذا أعلمه
قال الله تعالى ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) [الفتح: 29] إلى آخر السورة . وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ) [الحشر: 9] .
1/375 ـ وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه ، كما يكره أن يقذف في النار )) متفق عليه (217) .
2/376 ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( سبعة يظلم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه ، وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال ، فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة ، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ))(218) متفق عليه .
الـشـرح
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ : باب فضل الحب في الله والبغض فيه ، وإعلام الرجل من يحبه أنه يحبه، وما يقول له إذا ذكر ذلك . هذه أربعة أمور ، بين المؤلف رحمه الله الأدلة الدالة عليها .
فقال رحمه الله قول الله تعالى : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) محمد رسول الله ، والذين معه هم أصحابه ، أشداء على الكفار ، أقوياء على الكفار ، رحماء بينهم ، يعني يرحم بعضهم بعضا .
( تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً ) ،يعني تنظر إليهم في حال الصلاة تجدهم ركعاً سجداً، خضوعاً لله عز وجل وتقرباً إليه ، لا يريدون شيئاً من الدنيا ، ولكنهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً . فضلاً من الله : هو الثواب ، والرضوان : هو رضي الله عنهم .
( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) يعني علامتهم في وجوههم من أثر السجود ، وهذه (( السيما )) هي نور الوجه . نور وجوههم من سجودهم لله عز وجل . وليست العلامة التي تكون في الجبهة ، هذه العلامة ربما تكون دليلاً على كثرة السجود ، ولكن العلامة الحقيقية هي نور الوجه .
( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ) يعني ذلك صفتهم في التوراة ، فإن الله سبحانه وتعالى نوه بهذه الأمة وبرسولها صلى الله عليه وسلم ، وذكر صفاتهم في التوراة والإنجيل ، كما قال الله تعالى : ( الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) [الأعراف: 157].
( وَمَثَلُهُمْ فِي الْإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْئهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّار) يعني : مثلهم كمثل الزرع (ٍأَخْرَجَ شَطْئهُ ) يعني الغصن الثاني غير الغصن الأم ( فَآزَرَهُ) يعني شدده وقواه ، ( فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) قام وعانق الأصل ( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ) يعني أهل الخبرة والزرع يعجبهم مثل هذا الزرع القوي ، إذا كان له شطاً مؤازر له ، مقوله .
( لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) أي ليغيظ الله بهم الكفار من بني آدم ، ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) ، مغفرة للذنوب ، وأجراً عظيماً على الحسنات .
وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ) [الحشر: 9] ، هؤلاء الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم ، ( تَبَوَّأُوا الدَّارَ ) المدينة ، أي سكنوها ( مِنْ قَبْلِهِمْ ) من قبل المهاجرين ، وحققوا الإيمان من قبل أن يهاجر إليهم المؤمنون ؛ لأن الإيمان دخل في المدينة قبل الهجرة ، ( تَبَوَّأُوا الدَّارَ) سكنوها ، ( وَالْإيمَانَ) حققوا الإيمان ( مِنْ قَبْلِهِمْ ) من قبل المهاجرين .
( يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ) لأنهم إخوانهم ولهذا لما هاجروا آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم . أي : جعلهم إخواناً ، حتى إن الواحد من الأنصار كان يتنازل عن نصف ماله لأخيه المهاجري ، ( وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ) يعني : لا يجدون في صدورهم حسداً مما أوتي المهاجرون من الفضل والولاية والنصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) أي : يقدمون غيرهم على أنفسهم . ( وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) أي : ولو كانوا جياعاً ، فإنهم كانوا يجيعون أنفسهم ليشبع إخوانهم المهاجرون رضي الله عنهم وأرضاهم . ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يعني من يقيه الله شح نفسه ، ويكون كريماً ، يبسط المال ويبذل ، ويحب أخاه ، فأولئك هم المفلحون .
( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ) من بعد هؤلاء وهم التابعون إلى يوم القيامة ( يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإيمَانِ ) [الحشر: 10] ، هؤلاء الذين جاءوا من بعدهم هم تبع لهم ، قد رضي الله عنهم كما قال الله تعالى : ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ )
وهذه الآيات الثلاثة ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ) ( وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ) آيات تبين من يستحق الفيء من بيت المال ، والذين يستحقون الفيء هم هؤلاء الأصناف الثلاثة ، منهم (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإيمَانِ ) .
سئل الإمام مالك رحمه الله : هل يعطى الرافضة من الفيء قال : لا يعطون من الفيء؛ لأن الرافضة لا يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ؛ لأن الرافضة يرون الصحابة ـ إلا نفرا قليلاً ـ كلهم كفاراً والعياذ بالله ، حتى أبا بكر وعمر ، يرون أنهما كافران ، وأنهما ماتا على النفاق ، وأنهما ارتدا بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام . نسأل الله العافية .
ولهذا قال الإمام مالك : لا يستحقون من الفيء شيئا ؛ لأنهم لا يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، ولكن يخصون الرحمة والمغفرة أو سؤال المغفرة والرحمة لمن يرون أنهم لم يرتدوا ، وهم نفر قليل من آل البيت واثنان أو ثلاثة أو عشرة من غيرهم .
فالشاهد من هذه الآية قوله : ( يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ) يعني من المؤمنين ، وهذا حب في الله ، وإلا فإن الأنصار من الأوس والخزرج ، ليس بينهم وبين المهاجرين نسب . ليسوا من قريش ، لكن الأخوة الإيمانية هي أوثق عرى الإيمان ، أوثق عرى الإيمان هي الحب في الله والبغض في الله
ثم ذكر المؤلف حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان )) من كن فيه : يعني من اتصف بهن ، (( وجد بهن )) يعني بسببهن، (( حلاوة الإيمان)) ليست حلاوة سكر ولا عسل ، وإنما هي حلاوة أعظم من كل حلاوة . حلاوة يجدها الإنسان في قلبه ، ولذة عظيمة لا يساويها شي ، يجد انشراحاً في صدره ، رغبة في الخير ، حباً لأهل الخير . حلاوة لا يعرفها إلا من ذاقها بعد أن حرمها .
(( أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما )) وهنا قال أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ولم يقل : ثم رسوله ؛ لأن المحبة هنا لرسول الله عليه الصلاة والسلام هنا تابعة ونابعة من محبة الله سبحانه وتعالى .
فالإنسان يحب الرسول بقدر ما يحب الله ، كلما كان لله أحب ؛ كان للرسول صلى الله عليه وسلم أحب .
لكن مع الأسف أن بعض الناس يحب الرسول مع الله ولا يحب الرسول لله .
انتبهوا لهذا الفرق . يحب الرسول مع الله ولا يحب الرسول لله . كيف ؟ تجده يحب الرسول أكثر من محبته لله ، وهذا نوع من الشرك . أنت تحب الرسول لله ؛ لأنه رسول الله ، والمحبة في الأصل والأم محبة الله عز وجل، لكن هؤلاء الذين غلوا في الرسول صلى الله عليه وسلم ، يحبون الرسول مع الله لا يحبونه لله ، أي يجعلونه شريكاً لله في المحبة ؛ بل أعظم من محبة الله . تجده إذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم اقشعر جلده من المحبة والتعظيم ، لكن إذا ذكر الله فإذا هو بارد لا يتأثر .
هل هذه محبة نافعة للإنسان ؟ لا تنفعه ، هذه محبة شركية ، عليك أن تحب الله ورسوله ، وأن تكون محبتك للرسول صلى الله عليه وسلم نابعة من محبة الله وتابعة لمحبة الله ، (( أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله )) هذا الشاهد . تحب المرء لا تحبه إلا لله . لا تحبه لقرابة ، ولا لمال ، ولا لجاه ، ولا لشيء من الدنيا ، إنما تحبه لله .
أما محبة القرابة فهي محبة طبيعية . كل يحب قريبه محبة طبيعية ، حتى البهائم تحب أولادها ، تجد الأم من البهائم والحشرات تحب أولادها حتى يكبروا ويستقلوا بأنفسهم ، ثم تبدأ بطردهم .
وإذا كان عندك هرة انظر إليها كيف تحنو على أولادها وتحملهم في أيام البرد ، تدخلهم في الدفء ، وتمسكهم بأسنانها ، لكن لا تؤثر فيهم شيئاً ؛ لأنها تمسكهم إمساك رحمة ، حتى إذا فطموا واستقلوا بأنفسهم ، بدأت تطردهم ؛ لأن الله يلقي في قلبها الرحمة ما داموا محتاجين إليها ، ثم بعد ذلك يكونون مثل غيرهم .
فالشاهد أن محبة القرابة محبة طبيعية ، لكن إذا كان قريبك من عباد الله الصالحين ، فأحببته فوق المحبة الطبيعية فأنت أحببته لله .
((أن يحب المرء لا يحبه إلا الله ، وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه ؛ كما يكره أن يقذف في النار)) يعني : يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه .
وهذه ظاهرة فيمن كان كافراً ثم أسلم ، لكن من ولد في الإسلام فيكره أن يكون في الكفر بعد أن من الله عليه بالإسلام كما يكره أن يقذف في النار ، يعني أنه لو قذف في النار لكان أهون عليه من أن يعود كافراً بعد إسلامه ، وهذا والحمد لله حال كثير من المؤمنين . كثير من المؤمنين لو قيل له : تكفر أو نلقيك من أعلى شاهق في البلد أو نحرقك لقال : احرقوني . ألقوني من أعلى شاهق ولا أرتد من بعد إسلامي .
وهذا مراد الردة الحقيقية التي تكون في القلب ، أما من أكره على الكفر فكفر ظاهراً لا باطناً ، بل قلبه مطمئن بالإيمان ، فهذا لا يضره لقوله تعالى : ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ ) [النحل: 106 ،107] ، لما قيل لهم : نقتلكم أو اكفروا ، فباعوا الآخرة بالدنيا ، وكفروا ليبقوا ، فاستحبوا الدنيا على الآخرة ، وأن الله لا يهدي القوم الكافرين . نسأل الله لنا ولكم الهداية .
وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار .
ثم ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى عليه وسلم قال : (( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله ، اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعنه امرأة ذات منصب وجمال ، فقال إني أخاف الله ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه )) فهؤلاء سبعة وليس المراد بالسبعة العدد ، يعني أنهم سبعة أنفار فقط ، ولكنهم سبعة أصناف ؛ لأنهم قد يكونون عدداً لا يحصيهم إلا الله عز وجل .
ونحن لا نتكلم على ما ساق المؤلف الحديث من أجله ؛ لأن هذا سبق لنا وقد شرحناه فيما مضى ، ولكن نتكلم على مسألة ضل فيها كثير من الجهال ، وهي قوله : (( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله )) حيث توهموا جهلاً منهم أن هذا هو ظل الله نفسه ، وأن الله تعالى يظلهم من الشمس بذاته عز وجل ، وهذا فهم خاطئ منكر، يقوله بعض المتعالمين الذين يقولون:إن مذهب أهل السنة إجراء النصوص على ظاهرها فيقال أين الظاهر؟! وأين يكون ظاهر الحديث وأن الرب جل وعلا يظلهم من الشمس ؟! فإن هذا يقتضي أن تكون الشمس فوق الله عز وجل ، وهذا شيء منكر لا أحد يقول به من أهل السنة ، لكن مشكلات الناس و لاسيما في هذا العصر ؛ أن الإنسان إذا فهم ؛ لم يعرف التطبيق ، وإذا فهم مسألة ؛ ظن أنه أحاط بكل شيء علماً .
والواجب على الإنسان أن يعرف قدر نفسه ، وألا يتكلم ـ لا سيما في باب الصفات ـ إلا بما يعلم من كتاب الله سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الأئمة .
فمعنى (( يوم لا ظل إلا ظله )) أو (( يظلهم الله في ظله )) يعني الظل الذي لا يقدر أحد عليه في ذلك الوقت ؛ لأنه في ذلك الوقت لا بناء يبنى ، ولا شجر يغرس ، ولا رمال تقام ، ولا أحجار تصفف ، ولا شيء من هذا . قال الله عز وجل : ( وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ) (106) لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً ) [طـه: 105 ، 107] .
و لا يظل الخلائق من الشمس شيء ، لا بناء ولا شجر ، ولا حجر ، ولا غير ذلك . لكن الله عز وجل يخلق شيئاً يظلل به من شاء من عباده ، يوم لا ظل إلا ظله ، هذا هو معنى الحديث ، ولا يجوز أن يكون له معنى سوى هذا .
والشاهد من هذا الحديث لهذا الباب قوله (( رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه )) يعني أنهما جرت بينهما محبة ، لكنها محبة في الله ، لا في مال ، ولا جاه ، ولا نسب ، ولا أي شيء ، إنما هو محبة الله عز وجل ، رآه قائماً بطاعة الله ، متجنباً لمحارم الله ، فأحبه من أجل ذلك ، فهذا هو الذي يدخل في هذا الحديث : (( تحابا في الله )) .
وقوله : (( اجتمعا عليه وتفرقا عليه )) يعني اجتمعا عليه في الدنيا وبقيت المحبة بينهما حتى فرق بينهما الموت تفرقا وهما على ذلك .
وفي هذا إشارة إلى أن المتحابين في الله لا يقطع محبتهم في الله شيء من أمور الدنيا ، وإنما هم متحابون في الله لا يفرقهم إلا الموت ، حتى لو أن بعضهم أخطأ على بعض ، أو قصر في حق بعض ، فإن هذا لا يهمهم ؛ لأنه إنما أحبه لله عز وجل ، ولكنه يصحح خطأه ويبين تقصيره ؛ لأنه هذا من تمام النصيحة ، فنسأل الله أن يجعلنا والمسلمين من المتحابين فيه ، المتعاونين على البر والتقوى إنه جواد كريم .
* * *
3/377 ـ وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن الله تعالى يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي )) رواه مسلم (219) .
4/378 ـ وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم )) (220) .
5/379 ـ وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( أن رجلاً زار أخا له في قرية أخرى ، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً )) وذكر الحديث إلى قوله : (( إن الله قد أحبك كما أحببته )) رواه مسلم (221) وقد سبق بالباب قبله.
8/382 ـ وعن أبي إدريس الخولاني رحمه الله قال : دخلت مسجد دمشق ، فإذا فتى براق الثنايا وإذا الناس معه ، فإذا اختلفوا في شيء ، أسندوه إليه ، وصدورا عن رأيه ، فسألت عنه ، فقيل : هذا معاذ بن جبل رضي الله عنه فلما كان من الغد ، هجرت ، فوجدته قد سبقني بالتهجير ، ووجدته يصلي ، فانتظرته حتى قضى صلاته ، ثم جئته من قبل وجهه ، فسلمت عليه ، ثم قلت : والله إني لأحبك لله ، فقال : آلله ؟ فقلت ألله ، فقال : آلله ؟ فقلت : ألله فأخذني بحبوة ردائي ، فجبذني إليه ، فقال : أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( قال الله تعالى : وجبت محبتي للمتحابين فيّ ، والمتجالسين فيّ ، والمتزاورين فيّ ، والمتياذلين فيّ )) حديث صحيح رواه مالك في الموطأ بإسناده الصحيح (222) .
قوله : (( هجرت )) أي بكرت ، وهو بتشديد الجيم . قوله : (( آلله فقلت ألله )) الأول بهمزة ممدودة للاستفهام والثاني بلا مد .
9/383 ـ عن أبي كريمة المقداد بن معدي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إذا أحب الرجل أخاه فليخيره أنه يحبه )) رواه أبو داود ، والترمذي (223) وقال : حديث حسن .
10/384 ـ وعن معاذ رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أخذ بيده وقال : (( يا معاذ والله ، إني لأحبك ، ثم أوصيك يا معاذ : لا تدعن في دبر كل صلاة تقول : اللهم أعني على ذكر وشكرك وحسن عبادتك )) . (224) رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح .
11/385 ـ وعن أنس رضي الله عنه ، أن رجلاًً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فمر رجل به ، فقال : يا رسول الله ، إني لأحب هذا ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (( أأعلمته ؟)) قال : لا قال : (( أعلمه)) فلحقه . فقال : إني أحبك في الله ، فقال : أحبك الذي أحببتني له . رواه أبو داود(225) بإسناد صحيح.
الـشـرح
هذه الأحاديث كلها في بيان المحبة وأن الإنسان ينبغي له أن يكون حبه لله وفي الله ، وفي الحديث الذي ذكره المؤلف رحمه الله حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أفلا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم )) .
ففي هذا دليل على أن المحبة من كمال الإيمان ، وأنه لا يكمل إيمان العبد حتى يحب أخاه ، وأن من أسباب المحبة أن يفشي الإنسان السلام بين إخوانه ، أي يظهره ويعلنه ، ويسلم على من لقيه من المؤمنين ، سواء عرفه أو لم يعرفه ، فإن هذا من أسباب المحبة ، ولذلك إذا مر بك رجل وسلم عليك أحببته ، وإذا أعرض ؛ كرهته ولو كان أقرب الناس إليك .
فالذي يجب على الإنسان ؛ أن يسعى لكل سبب يوجب المودة والمحبة بين المسلمين ؛ وليس من المعقول ولا من العادة أن يتعاون الإنسان مع شخص لا يحبه ، ولا يمكن التعاون على الخير والتعاون على البر والتقوى إلا بالمحبة ، ولهذا كانت المحبة في الله من كمال الإيمان .
وفي حديث معاذ رضي الله عنه إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحبه ، وقوله لأنس لما قال له : إني أحب هذا الرجل . قال له (( أأعلمته )) فدل هذا على أنه منه السنة إذا أحببت شخصاً أن تقول : إني أحبك ، وذلك لما في هذه الكلمة من إلقاء المحبة في قلبه ؛ لأن الإنسان إذا علم أنك تحبه أحبك مع أن القلوب لها تعارف وتآلف وإن لم تنطق الألسن .
وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام :((الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف))(226)لكن إذا قال الإنسان بلسانه ؛ فإن هذا يزيده محبة في القلب فتقول : إني أحبك في الله .
وفي قوله عليه الصلاة والسلام : (( لا تدعن أن تقول في دبر كل صلاة )) يعني : في آخر كل صلاة ؛ لأن دبر الشيء من الشيء كدبر الحيوان ، وقد ورد هذا الحديث بلفظ واضح يدل على أن الإنسان يقولها قبل أن يسلم فيقول قبل السلام : (( اللهم أعني على ذكرك وعلى شكرك وعلى حسن عبادتك ))
------------------------
(217) رواه البخاري ، كتاب الإيمان ، باب حلاوة الإيمان ، رقم ( 16 ) ، ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب خصال من اتصف بهن حلاوة الإيمان ، رقم ( 43 ) .
(218) رواه البخاري ، كتاب الأذان ، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة ، رقم ( 660 ) ، ومسلم ، كتاب الزكاة ، باب فضل إخفاء الصدقة ، رقم ( 1031 ) .
(219) رواه مسلم ، كتاب البر والصلة ، باب في فضل الحب في الله ، رقم ( 2566 ) .
(220) رواه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون ، رقم ( 54 ) .
(221) رواه مسلم ، كتاب البر والصلة ، باب في الحب في الله ، رقم ( 2567 ) .
(222) رواه مالك في الموطأ ( 2/ 593 ) .
(223) رواه أبو داود ، كتاب الأدب إخبار الرجل بمحبته إياه ، رقم ( 5124 ) ، والترمذي ، كتاب الزهد ، باب ما جاء في إعلام الحب رقم ( 2392 ) .
(224) رواه أبو داود ، كتاب الصلاة ، باب في الانتظار ، رقم ( 1522 ) ، والنسائي ، كتاب السهو ، باب نوع آخر من الدعاء ، رقم ( 1303 ) .
(225) رواه أبو داود ، كتاب الأدب ، باب إخبار الرجل الرجل بمحبته إياه ، رقم ( 5125 ) .
(226) رواه البخاري ، كتاب أحاديث الأنبياء ، باب خلق آدم صلوات الله عليه ، رقم ( 3336 ) ، ومسلم ، كتاب البر والصلة ، باب الأرواح جنود مجندة ، رقم (2638)