حديث حارثة مشهور عند السادة الصوفية، يستأنسون به ويستشهدون على حصول علوم المكاشفة للمتقين. روى البزار عن أنس والطبراني عن الحارث بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل حارثة: "كيف أصبحت يا حارثة؟" قال: أصبحت مؤمنا حقا! قال صلى الله عليه وسلم: "انظُرْ إلى ما تقول! فإن لكل حق حقيقة. فما حقيقة إيمانك؟" قال: عزَفَتْ نفسي عن الدنيا فاستوى عندي حجرُها ومدَرها. وسهرت ليلي وأظْمَأْتُ نهاري. وكأني أرى عرش ربي بارزا. وكأنِّي أرى أهل الجنة وهم يتزاورون فيها. وأهل النار يتضاغَوْن فيها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عبد نوَّر الله قلبَه! قد عرفت يا حارثة فالزم!".
ما عبر عنه الصحابي بقوله: "كأني أرى" جاء من بعده رجال صرّحوا وقالوا رأينا ونرى. ليس من الغريب أن يكرم الله بعض أحبابه بمطالعة ما يغيب عن الخلق عادة، لكن من الفتنة لبعض الناس أن يسمعوا ما لا يفهمون. الأصل أن يكشف لقلب الذاكر الصادق ما هنالك لقوله صلى الله عليه وسلم لحنظلة بن الربيع وأبي بكر الصديق: "لو كانت قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطرق". الحديث رواه مسلم والترمذي.
"إذا كان القلب معمورا بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت بخلاف القلب الخراب المظلم. قال حذيفة بن اليمان: "إن في قلب المومن سراجا يُزْهر(...). وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور به، وعرف حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف. وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم"[1].
الأصل انكشاف الحقائق لقلب المومن الذاكر، لكن الفتنة في البَوْحِ بعلوم القلب، لأن الناس تتفاوت استعدادا للنور، وتتفاوت قوةَ إيمان. فينطق هذا مخبراً عن مبلَغ إدراكه الكشفي إلى الخَلِيِّ المظلم القلب الخراب فيكذِّب ويجادل. ويكتُب ذاك في مرحلة من مراحل سلوكه جازما في الحكم على مسألة، ثم يناقِضُ حكمَهُ الأول بعد أن تصفو مرآتُه ويقوى سراجُه تماما كما يحدث لعالم الظاهر يتغير اجتهاده حسب جمعه للأدلة وقدرته على الاستنباط.
والناظر في كتب السادة الصوفية أصحاب القلوب يرى خبر البوّاحين، وخبر الكاتمين لعلوم الولاية، لكنه لا يجد تناقضا عند الكُمَّل المتمكنين فيما يُبدون من علوم، حاشا الخطأ المحتمل الذي يطرأ على عين القلب كما يطرأ على عين العقل، إما في أصل الإدراك أو في التأويل.
كان الصحابة رضي الله عنهم أقوى وأرسخَ في العلم، قلَّما تجد عندهم عبارة ينبو عنها فهمُ عامة الناس. قال الإمام علي كرم الله وجهه: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبّون أن يُكْذَب الله ورسولُه!". أخرجه البخاري. عليٌّ الإمام الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت أخي في الدنيا والآخرة". وقال له: "أنت مني بمنزلة هرون من موسى". كما رواه البخاري ومسلم. عليٌّ الإمام الذي تنتهي إليه وإلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما معظم أسانيد التربية الصوفية كان بحراً زخّارا بعلوم الولاية لكنه لا يبوح، ويوصي بالكتمان.
ويتناقل أهل العلم والصلاح الوصيّة بكتم علوم القلب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "الحال تعتري كثيرا من أهل المحبة والإرادة في جانب الحق وفي غير جانبه، وإن كان فيها نقص وخطأ فإنه يغيب بمحبوبه عن حبه وعن نفسه(...). وقد يقول في هذا الحال: أنا الحق! أو سبحاني! أو ما في الجبة إلا الله! وهو سكران(...)، وذلك السكر يطوَى ولا يُرْوَى"[2].
وقال شيخ الإسلام ابن القيم: "ومِن الغيرةِ الغيرةُ على دقيق العلم وما لا يدركه فهم السامع أن يذكر لَه. ولهذه الغيرة قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله! وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ما أنت بمحدِّثٍ قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة!(...). وسئل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن تفسير قوله تعالى: "الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن"، فقال للسائل: وما يُؤَمِّنُكَ أنّي إن أخبرتك بتفسيرها كفرت! فإنك تكذِّبُ بها، وتكذيبك بها كفرك بها"[3].
ولمخافة الفتنة حكم السيوطي مع كثير من العلماء بِحِرْمَة النظر في بعض كتب القوم لمن ليس مصقول القلب. قال بعد أن التمس العذر لما في بعض الكتب: "فلتُ ذلك صونا لك عن الوقيعة في أحد، وحفظاً للِّسان، لا رضىً بالنظر في الكتب المنسوبة إليه، ولا إذنا في قراءتها لكل أحد. ومعاذ الله أن آذن لأحد في ذلك. ثم لا آذن"[4].
نترك إلى فصل مقبل إن شاء الله علوم الحال التي يسكَرُ بها السالك حتى ينطق بما قاله ابن تيمية، ونأخذ مثالا من علوم المكاشفة لنفهم كيف تنشأ الفتنة ومِمَّ تنشأ.
قال الإمام الغزالي: "القلب قد يُتَصَور أن يحصل فيه حقيقة العالم وصورته، تارة من الحواس، وتارة من اللوح المحفوظ(...). فإذا للقلب بابان: باب مفتوح إلى عالم الملكوت وهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة، وباب مفتوح إلى الحواس الخمس المتمسكة بعالم المُلك والشهادة"[5].
ويجيء ابن تيمية فينكر إنكارا شديدا ببيانه الصارم وحكمه القاطع أن اللوح المحفوظ لا يمكن أن يقرأ فيه قارئ. قال رحمه الله : "يقول بعض الشيوخ الذين يتكلمون باللوح المحفوظ على طريقة هؤلاء، إما عن معرفة بأن هذا قولهم، وإما عن متابعة منهم لمن قال هذا من شيوخهم الذين أخذوا ذلك عن الفلاسفة، كما يوجد في كلام ابن عربي وابن سبعين والشاذلي وغيرهم. يقولون إن العارف قد يطلع على اللوح المحفوظ، وأنه يعلم أسماء مريديه من اللوح المحفوظ، ونحو هذه الدعاوي التي مضمونها أنهم يعلمون ما في اللوح المحفوظ. وهذا باطل مخالف لدين المسلمين وغيرِهم من أتباع الرسل"[6].
غفر الله لنا ولابن تيمية ولمن يأخذ كلام أحد ما دون رسول الله صلى الله عليه وسلم مأخَذَ المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لو قال: هذا لا أعرفه لكان أقرب إلى الحكمة بَدَل أن يعمم زاعما أن القول بعلم ما في اللوح المحفوظ ليس من دين المسلمين. يا لطيف!
كان الرجل صادقا، فرقاه الله عز وجل وفتح بصيرته كما فتح للعارفين حتى رأى هو نفسه اللوح المحفوظ في فترة لاحقة من حياته، وحتى قرأ فيه. قال تلميذه ابن القيم: "ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية أمورا عجيبة. وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم. ووقائع فراسته تستدعي سِفْرا ضَخما(...). أخبر الناس والأمراءَ سنة اثنتين وسبعمائة لمّا تحرَّك التتار وقصدوا الشام أن الدائرة والهزيمة عليهم، وأن الظفر والنصر للمسلمين. وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا. فيقال له: قل إن شاء الله! فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا! وسمعته يَقول ذلك. قال: فلما أكثروا عليَّ قلت: لا تُكثروا! كتب الله في اللوح المحفوظ أنهم مهزومون في هذه الكرة، وأن النصر لجيوش الإسلام. قال: وأطعمتُ بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو"[7].
قال ابن القيم: "وكانت الفراسة الجزئية في خلال هتين الواقعتين مثل المطر".
استَغْفِرِ الله يا صاح من متابعتك للعلماء في أخطائهم، يرجعون عنها وتبقى أنت في الظلام. استغفِرْه من متابعتك ابن تيمية وأمثاله في تكفير المسلمين والجزم بأن "هذا ليس من دين المسلمين"، يتوبون هم ويشفع لهم صدقُهم من حيث لا يشفع لك جهلُك وتقليدُك. هو ذاك شيخ الإسلام في خيمته، في عادته، في بشريته، في نسبيته لا يخرجه عنها فراسته وعلمه، يطعم الأمراء والعساكر طعام الفرح بما قرأه في اللوح المحفوظ، تلك القراءة التي كان ينفيها وينسب القائلين بها للزندقة ويرميهم خارج الملة. وأنت، أنت المقلد للرجال بعقل مرموس وقلب مطموس ما حظك من الله! قل لي! أنت مع الدليل والنص لا مع الله! وعلوم الأولياء لا دليل عليها مما تصل إليه يدك القاصرة وهمتك الفاترة. "القوم يشيرون إلى الكشف ومشاهدة الحقيقة. وهذا لا يمكن طلبه بالدليل أصلا. ولا يقال: ما الدليل على حصول هذا؟ وإنما يحصل بالسلوك في منازل السير وقطعها منزلة منزلة حتى يصل إلى المطلوب. فالمطلوب إليه بالسير لا بالاستدلال"[8].
قال الإمام أحمد الرفاعي: "الكشف قوة جاذبة بخاصيتها نورَ عين البصيرة إلى فضاء الغيب، فيتصل نورُها به اتّصالَ الشعاع بالزجاجة الصافية حال مقابلتها إلى فيضه. ثم ينصرف نورُه منعكسا بضوئه على صفاء القلب. ثم يترقى ساطعا إلى عالم العقل، فيتصل به اتصالا معنويا له أثر في استفاضة نور العقل على ساحة القلب فيشرف القلب على إنسان عين السِّرِّ، فيرى ما خفيَ عن الأبصار موضعُه، ودق عن الأفهام تصوُّرُه، واستتر عن الأغيار مرآه.
"أي سادة! إذا صلح القلب صار مَهْبِطَ الوحيِ والأسرار والأنوار والملائكة. وإذا فسد صار مهبط الظُّلَمِ والشياطين. إذا صلح القلب أخبر صاحبه بما وراءه وأمامه، ونبهه على أمور لم يكن ليعلمها بشيء دونه"[9].
وقال الإمام عبد القادر قدس الله سره: "إذا جاء الكشف من الله عز وجل، وثَبَتَّ بين يديه، صار أمرك ضياءً. إذا جاء نور قمر المعرفة كشف ظلمة ليلة القدر. فإذا طلعت شمس العلم بالله عز وجل زالت الأقذار والظلمة في الجملة. يتبين لك ما حولك وما هو بعيد عنك. يتبين لك ويتضح ما كان مشكلا عليك من قبل. يميَّزُ لك بين الخبيث والطيب، بين ما لغيرك وما لك. تفرق بين مراد الخلق ومراد الحق عز وجل.
"ترى باب الخلق وباب الحق عز وجل. فترى هنالك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فياكل القلب من طعام المشاهدة، ويشرب من شراب الأنس، ويُخْلَعُ عليه خِلعُ القبول. ثم يرد إلى الخلق لمصالحهم، وردِّهم من ضلالهم، وهجرِهم لربهم عز وجل، وعصيانهم له. يُرَدُّ مع الحصن الحصين، والحفظ الدائم، والسلامة الدائمة.
"يا من لا يعقل هذا أو لا يومن بهذا! أنت قِشر بلا لُب! خشبة مسندة! خشبة نخرة! تصلح للنار إلا أن تتوب وتومن وتصدق"[10].
قلت: إنَّ كشف الحجاب عن أسرار الله وكونه النوراني من ملائكة وأرواح وجنة ونار وأحوال الآخرة وعوالم السعادة ومشاهد السعداء حرام على القلوب المظلمة، قلوب أصحاب الرياضة من المشركين الذين يفتح عليهم من عالم الظلمة. أما عند كشف الغطاء في لحظة الموت، فالمائت يرى ما هنالك من مصير كما قال الله عز وجل: )لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ( (سورة ق، الآية: 22).
قال الشيخ عبد القادر: "ما من مؤمن إلا عند الموت يُكشف عن بصره، فيرى منزله في الجنة، يُشير إليه الحور العين والوِلدان، ويصل إليه من طيب الجنة فيطيب له الموتُ والسكرات. يفعل الحق عز وجل بهم كما فعل بآسية عليها السلام. ومنهم من يعلم بذلك قبل الموت وهم المقربون المفردون المرادون.
"ويلك يا معترضا على الحق عز وجل! لا تهذِ هذيانا فارغا! القضاء لا يرُّده راد، ولا يصدُّه صادٌّ. سلِّم وقد استرحت!(...). إذا تحقق لك الإيمان قدِّمت إلى باب الولاية، فحينئذٍ تصير من عباد الله المحققين لعبوديته. علامة الولي أن يكون موافقا لربه عز وجل في جميع أحواله. يصير كله موافقة من غير "لِمَ" و"كيف" مع أداء الأوامر والانتهاء عن المناهي"[11].
قال الإمام الشافعي في كتم العلم عن غير أهله:
سأكتم علمي عن ذوي الجهـل طاقتي ولا أنـثُــرَ الدَّرَّ الثمـين علـى الغَـنَـمْ
فـإن يسَّــر الله الكــريـم بـفـضـلـه وصـادفـت أهـلا للعلـوم ولِلْحِكَــمْ
بـثـثـت مفـيـدا واسـتـفـدت وِدادهم وإلا فـمـخــزون لـديَّ ومُـكـتَــتَــمْ
فمـن منـح الجهـال علمـا أضـاعـه ومـن منـع المسـتـوجـبيـن فقـد ظَـلَـمْ
وقال في رواية أخرى:
أأنثـرُ دُرّا بيْن سـارِحَـة البَهَـمْ وأنظِـم منثـورا لراعية الغَـنَـمْ!
لعمري لئن ضُيِّعت في شر بلدة فلستُ مُضِـيعاً فيهُم غُـرَرَ الكَلِمْ
لئـن سهـل الله العزيز بلطـفـه وصادفـت أهـلا للعلوم وللحِكم
بثثت مفيدا واستفـدت وِدادهم وإلا فمكـنــون لـديَّ ومُكـتـتـم
ومن منح الجهـال علما أضاعه ومن منـع المستوجبين فقـد ظلم
وقلت:
جِـئْتُ يَا رَبِّ لِبَابِكْ مَا لَنَا حَوْلٌ سِوَى بِـكْ
وطِئَـتْـنَا أَرْجُلُ القَـو مِ وَدَاسَتْنَـا السَّنَــابِكْ
فَانْصُــرِ اللَّهُمْ صَفّــاً أَقْبَلـُوا نَحْـوَ جَـنَــابِكْ
[1] ابن تيمية في "الفتاوي" ج 20 ص 45.
[2] الفتاوي ج 2 ص 397.
[3] روضة المحبين ص 306.
[4] تأييد الحقيقة العلية ص 17.
[5] الإحياء ج 3 ص 18.
[6]. الرد على المنطقيين ص 475.
[7] مدارج السالكين ج 2 ص 489.
[8] المصدر السابق ج 2 ص 347.
[9] البرهان المؤيد ص 102.
[10] الفتح الرباني ص 242.
[11] المصدر السابق ص 293.