علم الأنبياء وعلم الأولياء
فهذا وأشباه هذا هو علم الأنبياء وعلم الأولياء بهذا العلم يطالعون تدبيره، وبهذا العلم يقومون بالعبودية له. لأنه من كشف له الغطاء عن هذا النوع من العلم، فإنما فتح له في الغيب الأعلى، حتى لاحظ ملك الملك، بعد أن قوم ثم هذب ثم أدب ثم نقي، ثم طهر ثم طيب ثم وسع ثم عوذ، فتمت ولاية الله له، وصلح في المجلس الأعلى من مجلس الأولياء، بين يديه. يناجيه كفاحا، ويلج مجالسه سماحا ما له من حاجز. فيرجع من عنده مع الفناء الأكبر، فيقوم به بالعبودية محارصة.
فيقال لهذا البائس: إن كنت خلوا من هذا الذي ذكرناه، وفي عمى عنه، فما دخولك في هذا الباب حتى تكدر الماء الصافي؟
فأي جرم أعظم من جرم رجل يلتقط كلام الأولياء حرفا حرفا، ثم يخلطه فيصوغه حكايات، ثم يرمي بها قوم يتزين بذلك عندهم، فيعمى عليهم طريقهم ويفسد عليهم سيرهم؟
(فهذا البائس) لا هو عالم بالطريق، ولا بالمكامن في الطريق، ولا بمنتهى القوم ومنازلهم؛ من شغله بنفسه، وانخداعه لها، وإصغائه إليها، وستره ذلك عن خلقه فهو أبدا في الاعتذار والتزين والقصد؛ لما يعلم أن يكسب بذلك جاها عند الخلق، وأعظم المصائب عنده، الوقت الذي يعمل فيه عملا ينكس به جاهه عند الناس.
فهذا عبد نفسه فمتى يتفرغ ربه؟ ومتى يصلح هذا الله؟ ومتى يصفو طريقه إلى الله تعالى؟
قال له قائل: صف لنا شأن الذين وصلوا، فوقفوا في مراتبهم على شريطة لزوم حفظ المرتبة؛ وما سبب اللزوم؟
وصف لنا شأن الذين وصلوا فرفعت عنهم الشريطة، وفوضت إليهم الأمور. ومن ولي حق؟ ومن ولي الله؟
قال: إن الواصل إلى مكان القربة، رتب له محل، فحل بقلبه هناك، مع نفس فيها تلك الهنات باقية، فإنه إنما ألزم المرتبة، لأنه إذا توجه إلى عمل من أعمال البر، ينال في موضع القربة، ليعتق من رق النفس، مازجه الهوى ومحبة محمدة الناس، وخوف سقوط المنزلة. فعمله لا يخلو من التزين والرياء، وإن دق. أفيطمع أن يترك قلبه مع دنس الرياء والتزين فيحل محل القربة؟
بل يقال له: يشترط عليك، مع العتق من رق النفس، الثبات ههنا، فلا تصدر إلى عمل بدون إذن. فإن أذنا لك، أصدرناك مع الحراس، ووكلنا الحق شاهدا عليك ومؤيدا لك؛ والحرس يذبون عنك.
قال له قائل: وما تلك الحرس؟
قال: أنوار العصمة موكلة به؛ تحرق هنات النفس ونواجم ما انكمن منها. وكل ما ينجم من مكامن النفس، من تلك الهنات أحرقته تلك الأنوار حتى يرجع إلى مرتبته ولم تجد النفس سبيلا إلى أن تأخذ بحظها من ذلك العمل. فيرجع إلى مرتبه طاهرا كما صدر؛ لم يتدنس بأدناس النفس: من التزين والتصنع، والركون إلى موقع الأمور عند الخلق.
فهذا المغرور، لما وجد قوة المحل، ونور القربة، وطهارته، ظن أنه استولى، ونظر إلى نفسه فلم يجد فيها شيئا في الظاهر يتحرك. ولا يعلم أن المكامن مشحونة بالعجائب روى عن وهب بن منبه، رحمه الله، أنه قال: إن للنفس كمونا ككمون النار في الحجر؛ إن دققته لم تجد فيه شيئا وإن قدحته أورى نارا.
فكان هذا نظرا من الله عز وجل أن رحمه فنقله، في لحظة من محل الصادقين إلى محل الصديقين : من بيت العزة، من سماء الدنيا إلى عساكر حول العرش.
فذهب هذا المسكين إلى شقاء جده، فقال: أذهب فأطوف في البلاد، وأدعو الناس إلى الله تعالى. وأذهب فأعمل أعمال البر، فإنما خلقت للعبودية.
ولكن، أيها البائس هل أجابتك نفسك حين دعوتها، حتى يجيبك الناس؟ وهل صفا قلبك لله عز وجل حتى تصفو عبوديتك؟ وهل خرجت من رق النفس، حتى تدخل في رق الله عز وجل؟ هيهات، هيهات ما أبعدك من الصدق، فكيف من طريق الصديقين؟
قال قائل: ومن تلك أين الأنوار، التي توكل بالحراسة لهذا الذي ثبت في مركزه ولم يصدر عنه إلا بإذن؟
قال: من مجلس الحديث.
قيل: وما مجالس الحديث؟
قال: مجالس المحدثين، أهل الله ونصحاؤه. يحبون أن يصل هؤلاء إلى ما وصلوا فيقطع لهم قطعة من النور، فيحرسهم ذلك النور، ما داموا في تلك الأمور. فكل ما نجم من هنات النفس، في الصدر، شيء وقت مباشرتهم تلك الأمور.
ذلك الشعاع في صدره فخفى على القلب والنفس ذلك الناجم وبطل؛ فمر في أمره مستقيما، غير ملتفت إلى أحد، ثم رجع إلى محله ومركزه نقيا.
وإن صدر عنها بغير إذن، صدر على غرور نفسه، تلذذا بشهوة نفسه في ذلك العمل، وقلة صبره على لزوم المرتبة. فانصرف بلا حرس، فمدت النفس إليه مخالبها فأعابته، فرجع مخدوشا محموشا.
ألا ترى إلى قول رسول الله عز وجل: " لا تسل الأمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها ". وهذا يحقق قولنا بعينه.
فهذا شأن ولي حق الله، وهو مع هذا قد يقال له: ولي الله قد ولى أمره ونقله إلى محل القربة.