الدرجـات
قال له قائل: فهل يجوز أن يكون في هذا الزمان من يوازي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما؟
قال (الشيخ): إن كنت تعني في العمل فلا؛ وإن كنت تعني في الدرجات فغير مدفوع. وذلك أن الدرجات بوسائل القلوب؛ وقسمة ما في الدرجات بالأعمال. فمن الذي حرز رحمه الله تعالى عن أهل هذا الزمان، حتى لا يكون فيهم سابق ولا مقرب ولا مجني ولا مصطفى؟
أو ليس المهدى كائنا في آخر الزمان؟ فهو في الفترة يقوم بالعدل فلا يعجز عنه. أو ليس كائن في الزمان من له ختم الولاية؟ وهو حجة الله تعالى على جميع الأولياء يوم الموقف.
كما أن محمدا صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء فأعطى ختم النبوة، فهو حجة الله تعالى على جميع الأنبياء. فكذلك هو الولي هو آخر الأولياء في آخر الزمان.
قال له القائل: فأين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خرجت من باب الجنة، فأتيت الميزان. فوضعت في كفة وأمتي في كفة، فرجحت بالأمة. ثم وضع أبو بكر مكانه فرجح بالأمة. وضع عمر مكان أبي بكر فرجح بالأمة".
قال (الشيخ): هذا وزن الأعمال لا وزن ما في القلوب، أين يذهب بكم يا عجم؟ ما هذا إلا من غباوة أفهامكم.
ألا ترى أنه يقول: ( خرجت من باب الجنة)؟ فالجنة للأعمال والدرجات للقلوب. والوزن للأعمال لا لما في القلوب. إن الميزان لا يتسع لما في القلوب. فالميزان عدله، وما في القلوب عظمته. وكيف توزن العظمة؟ وقد جاء في الخبر: (أن العبد يتحيز عند الميزان. فيقول له الملك: هل تفقد شيئا من عملك؟ قال: بلى شهادة أن لا إله إلا الله. قال: إنها أعظم من أن توضع في ميزان).
وإنما تقدم الأنبياء الخلق بالنبوة، لا بالأعمال، والأولياء بالصديقية، لا بالأعمال. وإنما تقدم محمد صلى الله عليه وسلم سائر الأنبياء بما في قلبه، لا بالأعمال.
فقد كان عمر يسيرا. ولو كان بالأعمال، لكان عمل عشرين سنة يدق في جنب عمر نوح. وإنما رجح ميزان أبي بكر رضي الله عنه بالعمل. لأنه عمل في أهل الردة ما لم يحلقه أحد. ولم يكن بعده ردة مثلها إلى يومنا هذا، فيعمل مثل عمله. فبه رد الله السلام على الأمة.
فهذا يوازي عمل الأمة ويزيد. أو لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من يعمل بها)؟.
فلما عمل في الردة ما عمل، كان له كعمل الأمة كلها إلى آخرها، والزيادة عمله لنفسه، ولذلك رجح عمله عمل الأمة.
ثم لم يجد- أبو بكر صلى الله عليه وسلم- مهلة حتى يبوأ الإسلام، ويمهد ويصفى، ويوضح السنن، ويمصر الأمصار. ففعل ذلك عمر رضي الله عنه حتى ورد الخلق بعدها على أوسع منهاج وأوضحه. فهذا عمل ليس لأحد وصل إلى مثله ولا سبيل. لأنه لم يكن للإسلام، إلى يومنا هذا، ردة أو غربة كما كان بديا في وقتهما.
ألا ترى إنه في الخبر أنه وزن غيرهما؟ أفلم يكن في الأمة مثل عثمان وعلي رضي الله عنهما. فهل ذكر أنهما وزنا مع الأمة؟
وذلك ليعلم أنهما وجدا أمرا مفروغا منه فلم يبق لعثمان وعلي ألا التمسك به. فجميع من (أتى) بعد أبي بكر وعمر على حياله: كل متمسك بقدره.
ألا ترى في تلك الفتن، إذا قام أحد بالعدل وطمس الجور يلحقهما بالفضل؟ وكذلك قال أنس رضي الله عنه: (ليس لعامل زمان خير عن زمانكم ألا أن يكون مع نبي) فهذا في وقت غربة الحق أفضل.
وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( طوبى للغرباء قيل ومن هم؟ قال: الذين يصلحون عند فساد الناس).
فأما تفاضل اليقين ووصول القلب إلى الله تعالى، فغير مدفوع أن يكون لمن بعدها مثلهما أو أكثر منهما.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (أن أهل الغرف ليرون في أعلى الدرجات كما يرى الكوكب الدرى في الأفق، وأن أبا بكر وعمر منهم). أفليس قد صيرهما من أهل الغرف؟ وأهل الغرف هم أهل عليين، فهم المقربون.
وقد وصفهم الله تعالى في تنزيله، فقال: ﴿ وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا ﴾ سورة الفرقان: الآية 63. الآية فهل أخبر في الكتاب أو في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن (أهل الغرف) كانوا في أوائل الأمة أو في أواخرها؟.
فإنما وصف أهل الغرف بما يعقل من ظواهر أمورهم، وإنما نالوها بما في باطنهم، ألا ترى أنه قال: ﴿ أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ﴾ سورة الفرقان: الآية 75 فإنما يصبر على هذه الأخلاق والآداب والهيبة، من ملأ الله قلبه معرفة به وشرح صدره بنوره وأحيا قلبه به- والصبر: الدوام والثبات على الشيء- فهل يكون ذلك إلا لمن يكون باطنه مشحونا بما ذكرناه؟
ومما روى عن وهب بن منبه، رحمه الله، أن الملك الذي كلم عزيزا قال له عزيز: (إن الله تعالى كلل حكمه بالعقل وجعله له زينة ونظاما).
فليس لزمان عنده فضيلة، ولا لقوم عنده أثره إنما فضيلته وأثرته لأهل طاعته، حيث كانوا ومن كانوا ومن أين كانوا).
وإن الله وصف هذه الأمة في تنزيله فقال: ﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا ﴾ سورة فاطر: الآية 32.
فذكر عن كعب عن التوراة: (إن أمة محمد رضي الله صلى الله عليه وسلم صفوة الرحمان). فجعلهم على ثلاثة أقسام: ظالم ومقتصد وسابق. ثم قال (تعالى): ﴿ ذالك هو الفضل الكبير ﴾ سورة فاطر: الآية 32.
وفي كل قرن سابقون إلى آخر الزمان. وحظهم الذي سبق لهم من الله واصل إليهم، في كل وقت وزمان.
فمن أدرى هذا الزاعم بقلة علمه، ألا يكون لأحد حظ مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما هل آيس الله الخلق من بعدهما من ذلك؟ أو حرز رحمة إلا عنهما؟ وإنما يذهب إلى هذا الزعم من خفى عليه شأن القلوب مع الله عز وجل، وشخصت عيناه إلى حركات جوارحه.
وقد عظم ذلك في عينه وأعجب به، فصار معتمده.
بل كائن في هذه الأمة من يعرف مقاماتهم وحظوظهم من ربهم، لأن معرفة ذلك إنما تعرف من بحر المعرفة. وأرواح الصديقين متقاربة، وقلوبهم في المحل لديه مؤتلفة، عارف بعضها بعضا في المقام. فإنما يعرف حظ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، من الله (بمعرفته) بخط نفسه من الله تعالى.
وكان أبو بكر حظه من ربه عز وجل، في ملك العظمة وعمر حظه في ملك الجلال، وعلى حظه من ربه في ملك القدس.
قال له القائل: وما تلك الحظوظ؟
قال (الشيخ): حظ أبي بكر الحياء: قال رضي الله عنه (إني لأدخل الكنيف فاقنع رأسي حياء من الله تعالى) وحظ عمر الحق.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه)؟ رضي الله عنه! وعظ علي رضي الله عنه المحبة: ألا ترى إلى جوامع خطبه وحسن ثنائه على ربه؟ والرسول صلى الله عليه وسلم، مقامه في ملك الملك بين يديه، وحظه مثل وحدانيته.
ولا ينقضي الدهر حتى يأتي الله بخاتم الأولياء، وهو القائم بالحجة. فيكون مقامه أقرب المقامات، وحظه منه الفردية. فلم يخفف هذا على من فتح الله له في علم الغيب والمقادير والحظوظ ومقام الأنبياء عليهم السلام.
وإنما يكبر قول هذا، على من عمى بصره عن هذا، وانطبقت عليه حجبه بالشهوات. وكيف يأمل درس هذا من لم يسقط عن قلبه حب الجاه وأحوال الغرة ولذة الرياسة وخوف سقوط المنزلة عن القلوب، ولم يرفع باله عن نفسه، ولم يتخل عن مشيئاته وإرادته؟.
هيهات! هذه عقبة لا يقطعها إلا من أخذ الله عز وجل بيده فولى شأنه حتى صيره من وراء ظهره ثم مكن بين يديه بجوده وكرمه.
حدثنا المؤمل بن هشام، حدثنا إسماعي بن إبراهيم، عن غالب القطان، عن بكر بن عبد الله المزني، قال: (لم يفضل أبو بكر الناس بكثرة صومه ولا صلاته، إنما فضلكم بشيء كان في قلبه).
وحدثنا الحسن بن سوار عن المبارك بن فضالة عن الحسن قال: (لم يغلب عمر الناس بالعمل، إنما غلبهم بالزهد والصبر).
حدثنا عبد الله بن عاصم حدثنا الجماني، حدثنا صالح المزنى عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بدلاء أمتي يدخلوا الجنة بكثرة صوم ولا صلاة وإنما دخلوا الجنة بسلامة الصدور وسخاء الأنفس وحسن الخلق والرحمة لجميع المسلمين).
وقد كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال الحبشي رضي الله عنه. فوصفه رسول الله بما وصف: (أن قلبه معلق بالعرش) و(أنه أحد السبعة الذين بهم تقوم الأرض) بل (هو خيرهم).
حدثنا بذلك داود بن عمار القيسي، عن عبد الحميد بن عبد العزيز بن أبي داود، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن بلال في الأمة حين وزنوا؟ فكيف رجحهم أبو بكر، وبلال خير السبعة الذين تقوم بهم الأرض؟ إنما ذلك ليعلم أن الوزن هناك للأعمال لا بما في القلوب والصدور. والوسائل غدا عند الله تعالى بالقلوب. والسبق لها، ومما يدل على ما قلنا، حين شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر بميكائيل وعمر بجبرائيل.
وشبه أبا بكر أيضا بإبراهيم، وعمر بنوح صلوات الله عليهم أجمعين. وقال: ( لو كان بعدي نبي لكان عمر رضي الله عنه) فمنزله عمر قريبة من منزلة أبي بكر: فكيف يجوز أن يرجحه أبو بكر وهو مع جميع الأمة؟.
وحدثنا رزق الله بن موسى البصري، حدثنا معن بن عيسى، حدثنا بن مالك عن صفوان بن حكيم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة يرون أهل الغرف كما يرى الكوكب الدري في أفق السماء.
قالوا: يا رسول الله تلك منازل فلا يبلغها إلا هم. فقال: بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين).
وتصديق ذلك قوله تعالى: ﴿ سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين ءامنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ﴾ سورة الحديد: الآية 21، ( فهذه جنة السابقين عرضها كعرض السماء والأرض).
وقال تعالى: ﴿ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ﴾ سورة آل عمران: الآية 133 ( وهذه جنة المتقين عرضها السماوات والأرض، وذلك أنه إذا طويت السماوات وسيرت الجبال جذبت الجنة جذبا إلى الفضاء الذي في السماوات والأرض.
وأما جنة السابقين فإنها تمتد في الفضاء فوق السماوات والأرض إلى حدود عليين حول العرش. فلذلك قال تعالى، عن جنة السابقين: (عرضها كعرض السماء والأرض) وعن جنة المتقين: (عرضها السماوات والأرض).
قال له قائل: فالمؤمنون كلهم آمنوا بالله وصدقوا المرسلين.
قال الشيخ: هذا كمال الإيمان والتصديق. والمؤمنون هم الذين وصفهم الله في كتابه، فقال، عز من قائل: ﴿ أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ﴾ سورة الأنفال: الآية 4. وتصديق المرسلين، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، انه قال ذات يوم: بينا رجل من بني إسرائيل يسوق بقرة، إذ ركبها. فقالت البقرة: إنما خلقت للحرث! فقال القوم: سبحان الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمنت به أنا وأبو بكر وعمر؛ وليسا في القوم).
فهل كان قولهم: (سبحان الله!) ألا من التعجب؟ وهل التعجب إلا من سقم في التصديق؟ أو لا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشهد لأبي بكر وعمر بالتصديق ولم يشهد لغيرهما؟
فتصديق المرسلين أغمض مما يحسبونه. وإنما برز أبو بكر على جميع أصحابه بتصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك سمي صديقا. والصديق ما لم يكن له قلب الصديقين له يصل إلى تصديق المرسلين.
وهو قلب قد اصطفاه الله تعالى وطهره ومكن الصدق له هناك ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر) ألا ترى أن سارة لما قالت: ﴿ إن هذا لشيء عجيب ﴾ سورة هود: الآية 72، فقالوا: ﴿ أتعجبين من أمر الله ﴾ سورة هود: الآية 73.
ومريم لما بشرت بالمسيح صدقت، فأثنى الله عليها فقال: ﴿ وصدقت بكلمات ربها وكتبه ﴾ سورة التحريم: الآية 12، وسماها في تنزيله: ﴿ صديقة ﴾ سورة المائدة: الآية 75.
والحمد لله وصلى الله على من لا نبي بعده محمد خاتم الأنبياء المخصوص بالمقام المحمود وحده وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
ونسأل الله تعالى ونضرع إليه في اقتفاء سنن ختم أولياء الذات وروح الكلمات التامات وأن يجمعنا به ويوصلنا بسببه وصلة يتلوها شاهدها بتحقيق بينتها أنه وهاب جواد محسان والحمد لله رب العالمين.