الوصية رقم (1)
ذكرى الوصية ذكرى وضياء للمريد والسالك والواصل
قال رحمه الله:
وصى الإله وأوصَت رُسْلُه فلِذا
كان التأسّي بهم من أفضلِ العملِ
لولا الوصيةُ كان الخلقُ في عَمَهٍ
وبالوصيةِ دار الملك في الدولِ
فاعمل عليها ولا تُهملْ طريقَتَها
إنَّ الوصيةَ حُكمُ الله في الأزلِ
ذكرت قوماً بما أوصى الإلهُ بهِ
وليس إحداثُ أمرٍ في الوصيةِ لي
فلم يكُن غيرُ ما قالوهُ أو شرعوا
من السلوك بهمْ في أقومِ السُّبُلِ
فهدْيُ أحمدَ عينُ الدين أجمَعُهُ
وملّةُ المصطفى من أنوَرِ الملل
لم تطمس العين بل أعطته قوتها
حتى يقيم الـذي فيه مــن الميل
وبعد هذه الأبيات أبياتٌ أربعة عشرَ تُطوى ولا تُروى لأنها مما غمضت عبارتها، ودقّت معانيها فخفيت، ولا احسب يقدر على بلوغ مراميها إلا الكُمّل من الرجال.
الوصية رقم (2)
اجتماع الكلمة قوة:
قال الله تعالى في الوصية العامة:{شَرَعَ لَكُمْ من الدِّينِ ما وَصَّى به نُوحاً والَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وما وَصَّيْنا به إِبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].
فأمر الحق سبحانه بإقامة الدين ـ وهو: شرع الوقت في كل زمان وملة ـ، وأن نجتمع عليه ولا نتفرق فيه؛ فإن يد الله مع الجماعة وإنما يأكل الذئب القاصية،وهي البعيدة التي شردت وانفردت عما هي الجماعة عليه.
وحكمة ذلك: أن الله لا يُعقَلُ إلهاً إلا من حيث أسماؤه الحسنى لا من حيث هو مُعرّىً عن هذه الأسماء الحسنى؛ فلا بد من توحيد عينه وكثرة أسمائه وبالمجموع هو الإله، فيد الله ـ وهي القوة ـ مع الجماعة.
أوصى حكيم أولاده عند موته ـ وكانوا جماعة ـ فقال لهم: ائتوني بعصيٍّ! فجمعها وقال لهم: اكسِروها ـ وهي مجموعة ـ فلم يقدروا على ذلك!
ثم فرّقها فقال لهم: خذوا واحدة واحدة فاكسِروها! فكسروها.
فقال لهم: هكذا أنتم بعدي لن تغلبوا ما اجتمعتُم، فإذا تفرقتم تمكن منكم عدوكم فأبادكم.
وكذلك القائمون بالدين إذا اجتمعوا على إقامة الدين ولم يتفرقوا فيه لم يقهرهم عدوٌّ، وكذلك الإنسان في نفسه إذا اجتمع في نفسه على إقامة دين الله لم يغلبه شيطانٌ من الإنس ولا من الجن بما يوسوس به إليه مع مساعدة الإيمان والملَك بلمّته له. ا.هـ.
الوصية رقم (3)
معالم الأرض وجوارح الإنسان تشهد عليه
قال رحمه الله:
إذا عصيتَ الله تعالى بموضع فلا تبرَحْ من ذلك الموضع حتى تعمل فيه طاعةً، وتُقيم فيه عبادةً؛ فكما يشهد عليك ـ إنِ استُشهد ـ يشهَدُ لك، وحينئذ تنتزح عنه.
وكذلك ثوبك إن عصيت الله فيه فكن كما ذكرتُه لك: اعبُدِ اللهَ فيه.
وكذلك ما يفارقك منك من قصّ شارب، وحلق عانة، وقصّ أظفارٍ، وتسريح شعر، وتنقية وسخ... لا يفارقك شيء من ذلك من بدنك إلا وأنت على طهارةٍ وذكرِ الله عز وجل فإنه يُسأل عنك: كيف تركك؟
وأقل عبادة تقدر عليها عند هذا كله: أن تدعوَ الله في أن يتوب عليك عن أمره تعالى؛ حتى تكون مؤدّياً واجباً في امتثالك أمر الله، وهو قوله: {وقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] فأمرك أن تدعوه ثم قال في هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي} [غافر: 60]، يعني هنا بالعبادة: الدعاء.
أي: من يستكبر عن الذلة والمسكنة فإن الدعاء سماه عبادة، والعبادة ذلة وخضوع ومسكنة {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} [غافر: 60]، أي: أذلاء.
فإذا فعلوا ما أُمروا به جازاهم الله بدخول الجنة أعزاء.
ولقد دخلت يوماً الحمامَ لغُسل طرأ عليَّ سحَراً، فلقيتُ فيه نجم الدين أبا المعالي ابن اللهيب ـ وكان صاحبي ـ فاستدعى بالحلاق يحلق رأسه، فصحتُ به: يا أبا المعالي!
فقال لي من فوره قبل أن أتكلم: إني على طهارة؛ قد فهمتُ عنك!
فتعجّبتُ من حضوره وسرعة فهمه ومراعاته الموطنَ وقرائنَ الأحوال وما يعرفه مني في ذلك، فقلت له: بارك الله فيك، والله ما صحتُ بك إلا لتكون على طهارة وذكر عند مفارقة شعرك!
فدعا لي ثم حلق رأسه.
ومثل هذا قد أغفله الناس! بل يقولون: إذا عصيتَ الله في موضع فتحوَّلْ عنه!
لأنهم يخافون عليك أن تذكّركَ البقعة بالمعصية، فتستحليَها، فتزيد ذنباً إلى ذنب.
فما ذكروا ذلك إلا شفقةً، ولكن فاتهم علمٌ كبير!
فأطع الله فيه، وحينئذ تتحوّلُ عنه؛ فتجمع بين ما قالوه، وبين ما وصّيتُكَ به.
وكلما ذكرتَ خطيئةً أتيتَها فتُبْ عنها عقيبَ ذكرك إياها، واستغفرِ اللهَ منها، واذكُرِ الله عندها بحسب ما كانت تلك المعصية.
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أتبع السيئة الحسنة تَمحُها» [الترمذي وأحمد والحاكم].
و قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ} [هود: 114].
ولكن ليكُن لك ميزانٌ في ذلك تعرف به مناسبات السيئات والحسنات التي تزِنُها. ا.هـ
الوصية رقم (4)
حسن الظن بالله تعالى
قال رحمه الله:
حسِّنِ الظنَّ بربِّك على كل حال، و لا تسئِ الظنَّ به؛ فإنك لا تدري: هل أنت على آخر أنفاسك في كل نفس يخرج منك، فتموت، فتلقى الله على حسن ظن به لا على سوء ظن؛ فإنك لا تدري: لعل الله يقبضك في ذلك النفس الخارج عنك!
ودع عنك ما قال من قال بسوء الظن في حياتك، وحسن الظن بالله عند موتك، وهذا عند العلماء بالله مجهول؛ فإنهم مع الله بأنفاسهم.
وفيه من الفائدة والعلم بالله: إنك وفيت في ذلك الحق حقّه؛ فإن من حق الله عليك الايمان بقوله {ونُنْشِئَكُمْ في ما لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة:61 ]. فلعل الله ينشئك في النفس الذي تظن أنه يأتيك نشأةَ الموت والانقلاب إليه وأنت على سوء ظن بربك فتلقاه على ذلك.
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه أنه عز وجل يقول: «أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيراً» [متفق عليه].
و ما خصّ وقتاً من وقت، واجعَلْ ظنك بالله علماً بأنه يعفو ويغفر ويتجاوز، وليَكُن داعيَكَ الإلهي إلى هذا الظن قوله تعالى: {يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا من رَحْمَةِ الله} [الزمر: 53] فنهاك أن تقنطَ، وما نهاك عنه يجب عليك الانتهاء عنه.
ثم أخبر ـ وخبَرُهُ صدقٌ لا يدخله نسخٌ؛ فإنه لو دخله نسخ لكان كذباً، والكذب على الله محال ـ فقال: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر: 53] وما خص ذنباً من ذنب! وأكّدها بقوله: {جَمِيعاً} ثم تَمّمَ فقال: {إِنَّهُ هُوَ} فجاء بالضمير الذي يعود عليه {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} من كونه سبقت رحمتُهُ غضبَه.
وكذلك قال: {الَّذِينَ أَسْرَفُوا} ولم يعين إسرافاً من إسراف، وجاء بالاسم الناقص الذي يعمُّ كلَّ مسرف، ثم أضافَ العباد إليه؛ لأنهم عباده كما قال الحقُّ عن العبد الصالح عيسى عليه السلام أنه قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ} [المائدة: 118] فأضافهم إليه تعالى وكفى شرفاً شرفُ الإضافة إلى الله تعالى.