** كيف نستعد للموت؟ **
أخي الحبيب:
أما وقد عرفت أن لحظة الاحتضار، لحظة امتحان، الموت ما منه فَوْت ، الموت أمرٌ محتوم وقدرٌ سابقٌ معلوم كيف تكتحل عينك بنوم حتى ترى حالك بعد اليوم، وكيف تبيتُ وأنت مسرور وأنت لا تعلم عاقبة الأمور.
** قال القرطبي رحمه الله : وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم، وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك، مستعداً لذلك .
أين استعدادك للقاء ملك الموت؟.. أين استعدادك لما بعده من أهوال.. في القبر.. وعند السؤال.. وعند الحشر.. والنشر.. والحساب.. والميزان.. وعند تطاير الصحف.. والمرور على الصراط.. والوقوف بين يدي الجبار جل وعلا؟!.
** وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه صيد الخاطر :
الواجب على العاقل أخذ العدة لرحيله ، فإنه لا يعلم متى يفجؤه أمر ربه ، و لا يدري متى يستدعى ؟
وإني رأيت خلقاً كثيراً غرهم الشباب ، و نسوا فقد الأقران ، و ألهاهم طول الأمل .
وربما قال العالم المحض لنفسه : أشتغل بالعلم اليوم ثم أعمل به غداً ، فيتساهل في الزلل بحجة الراحة ، و يؤخر الأهبة لتحقيق التوبة ، و لا يتحاشى من غيبة أو سماعها ، ومن كسب شبهة يأمل أن يمحوها بالورع .
وينسى أن الموت قد يبغت . فالعاقل من أعطى كل لحظة حقها من الواجب عليه ، فإن بغته الموت رؤى مستعداً ، و إن نال الأمل ازداد خيراً .
إخواني الأيام لكم مطايا ،فأين العدة قبل المنايا ،أين الأنفة من دار الأذايا، أين العزائم أترضون الدنايا ،إن بلية الهوى لا تشبه البلايا ،وإن خطيئة الإصرار لا كالخطايا، وسرية الموت لا تشبه السرايا ،وقضية الأيام لا كالقضايا، راعي السلامة يقتل الرعايا، رامي التلف يصمي الرمايا ،ملك الموت لا يقبل الهدايا ،يا مستورين ستظهر الخبايا، استغفروا الله خجلاً من العثرات، ثم اسكبوا حزناً لها العبرات ،عجباً لمؤثر الفانية على الباقية ولبائع البحر الخضم بساقية، ولمختار دار الكدر على الصافية ،ولمقدم حب الأمراض على العافية ،أيها المستوطن بيت غروره تأهب لإزعاجك ، أيها المسرور بقصوره تهيأ لإخراجك، خذ عدتك وقم في قضاء حاجتك قبل فراق أولادك وأزواجك ، ما الدنيا دار مقامك بل حلبة إدلاجك.
ولله درُ من قال :
إلى كم ذا التـراخي والتمادي *** وحادي الموت بالأرواخ حـادي
فلو كنا جمــــادا لا تعظنا *** ولكنا أشــــــد من الجماد
تنادينــــا المنية كل وقت*** وما نصغي إلى قول المنــادى
وأنفاس النفوس إلى انتقاص*** ولكن الذنــــوب إلى ازدياد
إذا ما الزرع قارنه اصــفرار*** فليس دواؤه غير الحصــــاد
ولله درُ من قال :
فما لك ليس يعمل فيـك وعظ*** ولا زجر كأنك من جمـــــاد
ستندم إن رحلت بغيــر زادٍ*** وتشقى إذ يناديك المنــــادي
فلا تأمن لذي الدنيـا صلاحا*** فإن صلاحها عين الفســــاد
ولا تفرح بمـــال تقتنيه*** فإنك فيه معكوس المــــراد
أترضى أن تكون رفيــق قوم*** لهم زاد وأنت بغيــــر زاد؟!
** ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه "عدة الصابرين" عن يزيد بن ميسرة قال: كان رجل ممن مضى جمع مالاً فأوعى، ثم أقبل على نفسه وهو في أهله فقال: أنعم سنين!! فأتاه ملك الموت فقرع الباب في صورة مسكين، فخرجوا إليه فقال: ادعوا لي صاحب الدار. فقالوا: يخرج سيدنا إلى مثلك؟! ثم مكث قليلاً. ثم عاد فقرع الباب وصنع مثل ذلك وقال: أخبروه أني ملك الموت. فلما سمع سيدهم قعد فزعاً، وقال: لينوا له الكلام. قالوا: ما تريد غير سيدنا بارك الله فيك؟ قال: لا. فدخل عليه فقال: قم فأوص ما كنت موصياً فإني قابض نفسك قبل أن أخرج. قال: فصرخ أهله وبكوا. ثم قال: افتحوا الصناديق، وافتحوا أوعية المال. ففتحوها جميعا، فأقبل على المال يلعنه ويسبه يقول: لعنت من مال، أنت الذي أنسيتني ربي، وشغلتني عن العمل لآخرتي حتى بلغني أجلي.
فتكلم المال فقال: لا تسبني! ألم تكن وضيعاً في أعين الناس فرفعتك ؟ ألم ير عليك من أثري؟ أما كنت تحضر مجالس الملوك والسادة فتدخل، ويحضر عباد الله الصالحون فلا يدخلون؟ ألم تكن تخطب بنات الملوك والسادة فتنكح، ويخطب عباد الله الصالحون فلا ينكحون؟ ألم تكن تنفقني في سبيل الخبث فلا أتعاصى؟ ولو أنفقتني في سبيل الله لم أتعاص عليك.. أنت ألوم مني، إنما خلقت أنا وأنتم يا بني آدم من تراب، فمنطلق ببر، ومنطلق بإثم.. هكذا يقول المال فاحذروا.
كان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة: الرحيل الرحيل. فلما توفي فقد صوته أمير المدينة، فسأل عنه فقيل: إنه قد مات فقال:
ما زال يلهج بالرحيل وذكره *** حتى أناخ ببابه الجمال
فأصابه مستيقظاً متشـمراً *** ذا أهبة لم تلهه الآمـال
وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى ربك عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ مَن الموت طالبه.. والقبر بيته.. والتراب فراشه.. والدود أنيسه.. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر.. كي يكون حاله؟ ) ثم يبكي رحمه الله.
أورد ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة عن محمد بن السماك قال : يا بن آدم أنت في حبس منذ كنت أنت محبوس في الصلب ثم في البطن ثم في القماط ثم في المكتب ثم تصير محبوساً في الكد على العيال فاطلب لنفسك الراحة بعد الموت لا تكون في حبس أيضاً .
أورد ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة عن أبي حازم أنه كان يقول اضمنوا لي اثنين أضمن لكم الجنة عملاً بما تكرهون إذا أحبه الله وتركا لما تحبون إذا كرهه الله وقال انظر كل عمل كرهت الموت لأجله فاتركه ولا يضرك متى مت يا رضيع الهوى وقد آن فطامه يا طالب الدنيا وقد حان حمامه أللدنيا خلقت أم بجمعها أمرت .
أورد ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه التبصرة عن ابن عبد الوهاب قال : قال رجل لداود الطائي أوصني فدمعت عيناه وقال يا أخي إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة ً بعد مرحلة حتى ينتهي ذلك إلى آخر سفرهم فإن استطعت أن تقدم كل يوم زاداً لما بين يديك فافعل فإن انقطاع السفر عن قريب والأمر أعجل من ذلك فتزود لنفسك واقض ما أنت قاض فكأنك بالأمر قد بغتك إني لأقول لك هذا وما أعلم أحداً أشد تقصيراً مني ثم قام وتركه .
يا عظيم الشقاق يا عديم الوفاق ، يا من سيبكي كثيراً إذا انتبه وفاق والتفت الساق بالساق ،إلى ربك يومئذٍ المساق ، أين صديقك المؤانس أين رفيقك المجالس أما نزل تحت الأطباق ، من لك إذا رحلت كما رحلوا ، كيف تكون وأهوال القبر لا تطاق .
يا من يؤمر بما يصلحه فلا يقبل، أما الشيب نذير بالموت قد أقبل ، أما أنت الذي عن أفعاله تسأل، أما أنت تخلو في اللحد بما تعمل ،ستعلم يوم الحساب عند العتاب من يخجل، يا مبادرا بالخطايا توقف لا تعجل ،يا مفسدا ما بيننا وبينه لا تفعل.
إخواني أيامكم قلائل وآثامكم غوائل، ومواعظكم قوائل وأهواؤكم قواتل، فليعتبر الأواخر بالأوائل، يا من يوقن أنه لا شك راحل ،وما له زاد ولا رواحل، يا من لج في لجة الهوى متى يرتقي إلى الساحل ،هل لا تنبهت من رقاد شامل ،وحضرت المواعظ بقلب قابل ،وقمت في الدجى قيام عاقل ،وكتبت بالدموع سطور الرسائل ،تحف بها زفرات الندم كالوسائل ، وبعثتها في سفينة دمع سائل لعلها ترسى بساحل ،هل من سائل واأسفا لمغرور غفول جاهل، قد أثقل بعد الكهولة بالذنب الكاهل، وضيع في البضاعة وبذر الحاصل ،وركن إلى ركن لو رآه مائل ،يبني الحصون ويشيد المعاقل، وهو عن شهيد قبره متثاقل ،ثم يَدَّعِي بعد هذا أنه عاقل ،تالله لقد سبقه الأبطال إلى أعلى المنازل ،وهو يؤمل في بطالته فوز العامل، هيهات ما علق بطال بطائل
يا كثير الذنوب متى تفضي ، يا مقيما وهو في المعنى يمضي، أفنيت الزمان في الهوى ضياعاً ،وساكنت غرورا من الأمل وأطماعا، وصرت في طلب الدنيا خبيرا صناعا ،تصبح جامعا وتمسي مناعا ،فتش على قلبك ولبك فقد ضاعا ،تفكر في عمرك فقد ذهب نهبا مشاعا، اترك الهوى محمودا قبل أن يتركك مذموما ،إن فاتتك قصبات السبق في الزهد فلا تفوتنك ساعات الندم في التوبة.
يا من أغصان إخلاصه ذاوية ،وصحيفته من الطاعات خاوية ،لكنها لكبار الذنوب حاوية ،يا من همته أن يملأ الحاوية ،كم بينك وبين البطون الطاوية ،كم بين طائفة الهدى والغاوية ، اعلم أن أعضاءك في التراب ثاوية، لعلها تتفرد بالجد في زاوية، قبل أن تعجز عند الموت القوة المقاوية، وترى عنق الميزان لقلة الخير لاوية .يا من أهلكك الغفلات والفتور والغرور ،يا من كان قلبه خربٌ وبور وما فيه من نور ، أما لو تفكرت في قبركِ المحفور ، وما فيه من الدواهي والأمور ، تحت الجنادلِ والصخور،لعلمت موقناً أنك ما كنت إلا في غرور،فتندم ندماً لا يخطرُ على الصدور ، ولا يُكْتَبُ بالسطور ، لكنه ندمٌ لا ينفعُ في أي أمرٍ من الأمور .
لو تصورت النفخ في الصور والسماء تتغير وتمور ،والنجوم تنكدر وتغور والصراط ممدود ولا بد من عبور، وأنت متحير في الأمور،تبكي على خلاف المأمور ستحاسب على الأيام والشهور، وترى ما فعلته من فجور، في النهار والديجور ،ستحزن بعد السرورعلى تلك الشرور،إذا وفيت الأجور وبان المواصل من المهجور، ونجا المخلصون دون أهل الزور، تصلي ولكن بلا حضور ،وتصوم والصوم بالغيبة مغمور، لو أردت الوالدان والحور، لسألتهم وقت السحور،كم يتلطف بك الله يا نقور ، كم ينعم عليك يا كفور ،كم بارزت بالقبيح الرحيم الغفور .