مما لا شك فيه أن السبحة تعتبر رمزا دينيا وإرثا فنيا في تراثنا العربي والإسلامي ، تستخدم لغرض ديني عظيم ألا وهو ذكر الله تعالى . فذكر الله عبادة ، والسبحة تذكرنا إن نسينا مصداقًا لقول نبي الأمة صلى الله عليه وسلم :" نعم المذكّر السبحة " .
وكلمة "السبحة" اشتقت في جانبها اللغوي والديني من لفظة " التسبيح " وتوسعت معاجم اللغة في شرح كلمة التسبيح وأصلها.
ففي القاموس المحيط للفيروز ءابادي قال :" سبحان الله ": تنزيهًا لله من الصاحبة والولد . أي أُبرّئ الله من السوء براءة . وسبّح تسبيحا: قال سبحان الله . و"سُبّوح " " قُدّوس" : ويُفتحان : من صفاته تعالى لأنه يُسبَّح ويُقدَّس .
و" السبحات " : بضمتين : مواضع السجود .
و" السُبْحَة " : خرزات للتسبيح تُعَدّ .
والتسبيح : الصلاة , قال تعالى : " فلولا أنه كان من المُسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " .
قال ابن منظور في لسان العرب : السُبحة : الدعاء , وصلاة التطوع , والنافلة .
السبحة في القرءان والحديث
وردت كلمة التسبيح في القرءان الكريم في مواضع متعددة وبمعانٍ مترافقة مع غيرها .
فمثلاً قوله تعالى : " وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبّح بحمده " , جاء الأمر الإلهي بالتوكل ثم تسبيح الله .
وقول " سبحان الله " يفيد معنى التنزيه , أي أنزه ربي عن كل نقص وعيب وعن مشابهة المخلوقات .
وأما قوله تعالى : " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " فمعناه أن كل من في السموات والأرض يسبحون الله وينزهونه عن النقائص والعيوب بالرغم من اختلاف لغة التسبيح .
كذلك ورد لفظ التسبيح في أوائل السور مثل سورة الحشر والأعلى , كذلك في أول سورة الحديد الآية الأولى قوله تعالى : "سبّح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم " .
وأحيانا يرد التسبيح لله تبارك وتعالى في أواخر السور كقوله تعالى : " فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ واليه ترجعون " .
ومن ألفاظ التسبيح والذكر : " السّبْحَلة " وتعني قول سبحان الله , أما " الحمدلة " وتعني قول الحمد لله , أما " الحوقلة " فمعناها لا حول ولا قوة إلا بالله , و" البسملة " أي قول بسم الله الرحمن الرحيم , و "التهليلة" أي قول لا اله إلا الله , و" التكبيرة "وهي قول الله أكبر .
ولقد أمرنا الله تعالى بذكره ودعوته بالأسماء الحسنى طلبا للرحمة والثواب والمغفرة . قال تعالى : " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه "
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لله تسعًا وتسعين إسمًا , مائة إلا واحداً , من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر " وروى ابن سعد في طبقاته " أن أبا هريرة كان له خيط طويل فيه من العُقد ألفان , يسبّح الله فيه كل يوم اثنتي عشر ألف تسبيحة " .
وعن التسبيح بالعد على الأصابع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء : " عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس واعقدنَ بالأنامل فإنهن مسؤولات مُسْتَنْطَقات ولا تَغْفُلنَ فَتَنْسَين الرحمة " رواه الترمذي
وروى أحمد وأبو يعلى عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استكثروا من الباقيات الصالحات , قيل وما هي يا رسول الله , قال : التكبير والتهليل والتحميد والتسبيح ولا حول ولا قوة إلا بالله "
وبسبب تأثير السبحة ومكانتها الدينية ,جاء ذكرها في أشعار وأدبيات منذ أكثر من ألف عام .
ففي أيام "الأمين" العباسي سُجن الشاعر أبو نواس ,وخرج من سجنه أيام المأمون,ولبث في بيته ,حيث أخرجه الفضل بن الربيع من سجنه ,وقال يصف زهده وتقشفه:
أنت يا ابن الربيع الزمتني النُسْكَ
وعَوّدتَنيه والخير عادة
فارعوى باطِلي واقصر حَبلي
وتبدلت عفة و زهادة
لو تراني ذكرت بي الحسن البصري
في حسن سمعته أو قتادة
من خشوع أزينه بنحول
واصفرار مثل اصفرار الجرادة
المسابيح في ذراعي والمصحف
في لبتي مكان القلادة
ولقد طال ما لقيت ولكن
أدركتني على يديك السعادة
وقال الشاعر:
وسبحة أناملي --- قد شغفت بحبها
مثل مناقير غدت --- ملتقطات حَبّها
وقال اخر:
ومنظومة الشمل يخلو بها
اللبيب فتجمع في همته
إذا ذكر الله جلّ اسمه
عليها تغدق من هيبته
تتألف السبحة من حبيبات مثقوبة ذات عدد معين منها 33أو 99 وبعضها يصل الى الألف حبة أو أكثر ,وهي المعروفة باسم "مسبحة الدراويش "أو "سُبَحة صاحب الطريقة "بالاضافة الى "الفواصل"والتي يقال لها في بلاد الشام كلبنان وفلسطين "شواهد"وقطعة ثالثة هي"المنارة " أو "المئذنة"وهي مستطيلة الشكل توجد عند ملتقى طرفي الخيط في السبحة .
وقد يكون خيط السبحة من مواد حيوانية او نباتية او سلك او سلسلة معدنية .
وكل هذا يعني أن كل هذه المواد مثقوبة تصلح لمرور السلك فيها .
وهناك قطعة اضافية في نهاية المنارة تعرف "بالشرابة"او"الكشكول"مع"دلايات"اضافية وهي إما مجموعة خيوط او قطع سلاسل صغيرة تنتهي كل منها بحبة خرز او معدن.
ومن المهم عند صنع السبحة مراعاة بعض التقنيات منها:
1- سهولة ومرونة تحرك الخرزات بين الأصابع وذلك يكون بترك مسافة مناسبة تسمح للحبات بحرية الحركة
2- متانة السلك أو الخيط للحفاظ على الخرزات من الانفراط
3- التناغم بين حجم الخرزات ووزنها, وبين حجم ووزن وطول السبحة
مراحل التصنيع
تمر صناعة السبحة بمراحل عديدة حتى تصل الى يد حاملها خصوصًا السبح المصنوعة باليد .
أما في زماننا هذا,فتنتج المصانع ءالاف السُبح من مواد عديدة ,منها الثمين ومنها مواد زهيدة الثمن كالبلاستيك أو مشتقات البترول.
والمراحل هي:
أولا:اختيار المواد والأحجار حسب اللون والنوعية
ثانيًا:القطع والتثقيب
ثالثًا:الشطف والتنظيف الخراطة
رابعًا:الصقل والتنعيم والتركيب وإضافة الملحقات والخيوط
خامسًا:الزخرفة والتطعيم(كتطعيم خرزات اليُسر بالصدف)
المواد المستعملة
كثيرة هي المواد المستعملة التي تستخدم لصناعة السُبحة ,فهناك مواد من الأحجار الكريمة , ومواد ذات الأصل الحيواني والنباتي أو المواد المركبة أو الكيماوية , وتعددت عبر العصور ابتداء من الحصى الصغير والمثقوب والحبوب الخشبية ونوى البلح والقواقع والطحين والبذور (كالذرة) , وبزور الفاكهة (بزر المشمش والدراقن) , مروراً بالعاج والزجاج والأصداف , والأحجار الكريمة الغالية , كاللؤلؤ والكهرمان , اليسر , والزمرد , والفيروز , والعقيق والياقوت والمرجان وأخيراً الزركون والتوباز والبخور والعنبر وعين الهر والنمر والامشت واللازورد وقرن الغزال وقرن وحيد القرن والملكيت والبازهر والجارنيت والالماس وغيرها العشرات من الأحجار والجواهر . ويصنع من الذهب والفضة سبحات ولكن الأتقياء لا يقتنونها لأنها عند الفقهاء تعتبر مثل الآنية لا يجوز استعمالها .
وهناك سبحات ثمينة من أخشاب كالأبنوس , والصندل وخشب الأرز .
أسواق جديدة
كان لاتساع رقعة الامصار الإسلامية خصوصاً خلال النصف الثاني من الخلافة العثمانية ,وتوسعها الى أوروبا فضل كبير في وصول السبحة الى بقاع لم تصل اليها من قبل إطلاقاً .
كما أن انتشار الطرق الصوفية وأهل التصوف في مصر والشام والعراق وشمالي إفريقية وسائر بقاع السلطنة العثمانية ,أدى إلى تعزيز دور السبحة وتعلّق المسلمين بها باعتبارها رمزاً دينياً ,وأداة لذكر الخالق وتسبيحه من بغداد إلى جنوب أوروبا شمالاً ,وصولاً للمحيط الاطلسي في الغرب.
هدية لكل المناسبات
يقدر ثمن كل سبحة حسب شكلها,ومادتها وحجمها ولونها.
وتزدحم المحلات بالاف السبح,خصوصاً المقلدة والرخيصة الثمن,وأكثر ما نجدها بمحلات قرب المساجد, والمراكز الدينية ,مثل (سوق الحميدية) بدمشق ,(وخان الخليلي) و(الست زينب) (والحسين) بالقاهرة,وسوق (المدرسة المستنصرية) ببغداد, وسوق (قباغلي شارصي) في اسطنبول ,وحوانيت مكة المكرمة والمدينة المنورة .
وقد شاع انتشار السبحة ,وأصبح غاية في التوسع خصوصاً بعد إنتاج أنواع عديدة ,لتلائم الاذواق المختلفة والامكانيات المتعددة واهتمت بيوت الازياء العالمية ليتُم انتاجها بأدوات تراثية أصبحت من متطلبات الاناقة النسائية في العصر الحديث ,فصنعت من الاحجار الكريمة سبحات تُباع مع الخواتم والاساور والاقراط كأطقم فاخرة للنساء, أو كمكملات زينة للرجل مع الولاعة والساعة وأزرار القميص المعدينة وخاتم الفضة .
وصارت السبحة الفاخرة من الهدايا المميزة بين التجار وأصحاب النفوذ وطبقة السياسين ,مع العلم أن كثيراً منهم يحملها كنوع من الوجاهة ,أو يعلقها لزينة السيارة فوق المرءاة الامامية .
لكل هذه الاسباب نلاحظ أن انتشار بيعها ابتعد عن الاماكن التقليدية لتباع في متاجر الفنادق الكبرى والاسواق الحرّة في المطارات,وفي محلات الصاغة والمجوهرات المشهورة في باريس ولندن وجنيف وغيرها .
وتبدأ الاسعار من سنتات قليلة ليصل الى خمسة أو ستة الاف دولار حسب نوعية الحجر والمواد المطعمة بالصدف وغيره.
وتعتبر السُبحات هدية محببة من حجاج بيت الله الحرام عند عودتهم الى أحبابهم مع فنجان من ماء زمزم وحبات من تمر المدينة.
لقد تباينت أسعار السبحة حسب مادتها ,وتاريخ صنعها وحجمها ,على الاخص القديمة منها والذي يصل ثمنها الى الاف الدولارات ,حتى إن بعض الخبراء ذكروا أن سُبحة (محمد علي باشا)الموجودة في المتحف المصري تُقدر بمليون دولار.
وذكر ءاخرون أن سبحة الملك السابق لمصر (فاروق)بيعت بمزاد علني في سويسرا وهي من الكهرب الغامق (الكهرمان) ولها شرابة من الالماس والذهب بمبلغ 15 الف دولار.
ومن الطرائف ما يرويه بعض الباعة ومحبي اقتناء السُبح النادرة عن (بورصة) مبالغ معروضة ثمناً لسبحة استعملها أحد السلاطين العثمانيين أو أحد الخلفاء أو الولاة,والتي تعتبر في التاريخ قطع فنية أثرية تراثية يصعب تحديد ثمن لها نظراً لأهمية أصحابها وتأثيرهم في تاريخ الشعوب الإسلامية.
وفي هذا المقام نقول إن السبحة في مجتمعاتنا الحديثة، بالاضافة لكونها رمزاً دينياً، أصبحت عند البعض جزءاً مكملاً لمظهر الرجل، يحملها معه أينما ذهب وفي كل المناسبات فرحاً كان أو حزناً أو اجتماعاً في العمل، ولكن بهذا خرجت عن استعمالها الأصلي لذكر الله وتمجيده والتسبيح بحمده .
أما سبحة الزهاد فهي في الغالب زهيدة الثمن من الخشب أو الصدف أو العظام الطاهرة المأخوذ من حيوان مأكول مذبوح بالطريقة الشرعية