الفتور في رمضان
نـحن الآن في رمضان، وكلنا يريد أن يستثمر هذا الشهر ويجتهد في تحصيل أجره، والكثير منا يقول لنفسه إذا جاء رمضان سأجتهد فيه وأعمل بكل قوتي، وما أن يأتي رمضان فإذا بإحساس غريب ينتابنا، وإذا بالفتور يحط على أجسادنا ونفوسنا فتجد قسوة في قلبك وتحجر في عواطفك، وعدم تأثر بالقرآن والمواعظ وتشعر بضيق في صدرك وهمّ يثقل عليك كاهلك، فأنت في ضيق لا تعرف له سببا ولا تجد منه مخرجا.
وتجد وحشة فيما بينك وبين الله، فتستثقل العبادات، وتتهاون في الطاعات، ولا تجد لذة لأنواع القربات وتشكو كما كنت تسمع من يشتكي من قسوة القلب، ومن يقول : ( لا أجد لذة للعبادة ... أشعر أن إيماني في الحضيض ... لا أتأثر بقراءة القرآن ... لا أتأثر بموعظة ... أقع في المعصية بسهولة ... وغيرها من الكلمات..).
إذا كان أصابك شيء من ذلك فاعلم أن السبب في هذا هو ما يسمى بظاهرة ( الفتور أو ضعف الإيمان )، وهو مرض واسع الانتشار يعاني منه كل مؤمن ولو بين الحين والحين، وذلك أن من أصول أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والكتاب والسنة مليئان بالأدلة على هذا الأمر وكذا كتب السلف الصالح، وقد أخبرنا رسولنا الكريم r أن الإيمان يبلى في قلب المؤمن ويحتاج إلى تجديد كما في المستدرك والطبراني: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم)، فالإيمان في قلوبنا يزيد وينقص ثم يزيد وينقص حسب ما يتعرض له المرء من أسباب ضعف الإيمان وقوته أو نقصه وزيادته، وهو ما دل عليه حديث النبي r في الحلية قال: ( ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينما القمر مضئ إذ علته سحابة فأظلم إذ تجلت عنه فأضاء)، فكما أن القمر أحيانًا بينما هو منير في السماء تأتي عليه سحابة تحجب ضوءه ونوره ثم ما تلبث هذه السحابة أن تنقشع فيرجع له ضوؤه فينير السماء، كذلك قلب المؤمن بينما هو سائر في طريق استقامته إذا اعتورته بعض السقطات والهنات ولحظات الضعف بل والمعاصي فحجبت عنه نوره فيبقى الإنسان في ظلمة ووحشة، فإذا سعى لزيادة إيمانه واستعان بالله انقشعت تلك الغمة وعاد للقلب نوره واستقامته.
مظاهر الفتور
معلوم أن الإيمان لاينزع من قلب العبد مرة واحدة وإنما يحمله الشيطان على التهاون في دينه خطوة خطوة فيدب الضعف إلى إيمانه رويدًا رويدًا. ولضعف الإيمان في قلب الإنسان علامات تدل عليه ومظاهر يعرف بها: (قسوة القلب، ضيق الصدر والوحشة من الناس، الوحشة بينه وبين الله، الاستهانة بالمكروهات والمشتبهات،عد م الغيرة على محارم الله، ضعف رابطة الأخوة الإيمانية).
الأسباب
يقول بعض السلف : (من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما ينقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم إيزداد إيمانه أم ينقص، ومن فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان من أين تأتيه). فمن فقه الإنسان أن يراقب قلبه ودينه وينظر من أين يأتيه الفتور، وماهي أسباب ضعف إيمانه.. وقد ذكروا منها:
أولا : الابتعاد عن أجواء الإيمان
وهو أول ما يدخل الفتور به على أهل الإيمان فيتحول عن المسجد، ويستبدل الرفقة الطيبة أو يغيب عنهم، والبيئة لها أثر عظيم، قال الحسن: إخواننا أغلى عندنا من أهلينا، فأهلونا يذكروننا الدنيا وإخواننا يذكروننا الآخرة . وقد قال العالم لقاتل المائة نفس: (ودع أرضك هذه فإنها أرض سوء واذهب إلى أرض كذا فإن فيها قوما يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم).
ثانيا: الانشغال بالدنيا
والحرص عليها، والسعي وراءها وطلب الجاه فيها، وفي الحديث: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه).(رواه الترمذي)، فطغيان الدنيا على الآخرة مفسد للدين كما روي عن معاذ رضي الله عنه ( يا ابن آدم! أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر بنصيبك من الدنيا فانتظمه انتظاما وإن بدأت بنصيبك من الدنيا فاتك نصيبك من الآخرة وأنت من الدنيا على خطر).
ثالثا: طول الأمل
طول الأمل مفسد للقلب؛ فإن من طال أمله نسي الآخرة، وسوَّف في التوبة، ورغب في الدنيا، وكسل عن الطاعة، وأسرع للمعصية؛ فيقسو قلبه لأن رقة القلب بتذكر الموت والقبر والجنة والنار، وطويل الأمل لا يذكر هذه الأشياء، قال علي رضي الله عنه (إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة).
رابعاً: عدم وجود القدوة
فالقدوة الصالحة لها أثر حي وفعال في قلوب المشاهدين، ولذلك كانوا ينصحون بملازمة أهل الصلاح والورع، وعندما مات أعظم قدوة في الدنيا قال الصحابة: ما هي إلا أن واريناه التراب حتى أنكرنا قلوبنا، وكانوا كالغنم في الليلة الشاتية المطيرة، مع كونهم كلهم قدوات يقتدى بهم.
خامسا: الإفراط في الكلام والطعام والمنام والخلطة
فكثرة الكلام تقسي القلب، وكثرة الطعام تثقل عن العبادة.وكثرة المنام تضيع خيرًا كثيرًا، وكثرة الخلطة لا حد لمفاسدها.
علاج ضعف الإيمان
وبعدما تعرفنا على مظاهر الفتور وضعف الإيمان وأسباب ذلك، لابد أن نتعرض للعلاج حتى يستطيع من ابتلي بشئ من ذلك العودة إلى ماكان عليه من قوة الإيمان والعبادة ومن ذلك:
دوام المراقبة والمحاسبة
فمراقبة القلب الدائمة ومراقبة الحالة الإيمانية تجعل العبد على علم بمكانه من الله، وهل هو في ازدياد أو نقصان، ودوام محاسبة النفس يعيد الأمور إلى نصابها ويجعله يستدرك الأمور قبل استفحال خطرها، ومعالجة الأمر في البدايات أيسر كثيرا من المعالجة في النهايات، والوقاية دائما خير من العلاج )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( اية18 سورة الحشر
تدبر القرآن
فإن ضعف الإيمان مرض قلبي، والله أنزل القرآن شفاء لأدواء القلب والبدن: )وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ( [الإسراء:82]، وإنما يأتي العلاج مع التدبر والفهم )كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ([ص:29]، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما قام ليلة يتلو آية واحدة يكررها )إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ([المائدة:118]، وقد مرض عمر رضي الله عنه من آية قرأها: )إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ([الطور:7]، وسمع بكاؤه وهو يقرأ )قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ([يوسف:86]، وقال عثمان: والله لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام ربنا، ومات علي بن الفضيل من آية سمعها: )وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ([الأنعام:27].ومات زرارة بن أوفى في الصلاة عندما تلى قوله تعالى: )فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ([المدثر:8].
ذكر الله
فهو جلاء القلوب من صدئها وشفاؤها من أمراضها، ودواؤها عند اعتلالها، وهو روح الأعمال الصالحة، والفلاح يترتب عليه )وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ([الأنفال:45]. وهو وصية الله لعباده المؤمنين )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا([الأحزاب:41]، ووصية النبيr للمسلمين (إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فمرني بأمر أعتصم به. قال: لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله)،فالذكر مرضاة للرحمن مطردة للشيطان مزيل للهم والغم، جالب للرزق والفهم، به تطمئن القلوب وتبتهج النفوس وتنشرح الصدور: )أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ([الرعد:28].وترك الذكر قسوة للقلب وأي قسوة، كيف لا وهو نسيان لله، ومن نسي الله نسيه الله.
فنســيان ذكـر الله موت قلوبهم
وأجســامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم
وليس لهم حتى النشور نشـور
يقول ابن القيم رحمه الله: "في القلب قسوة لا يزيلها إلا ذكر الله تعالى، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله". قال رجل للحسن البصري: "يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي؟ قال: أذبه بالذكر"، قال مكحول: "ذكر الله تعالى شفاء، وذكر الناس داء".
الدعاء والانكسار بين يدي الله
)وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ([غافر:60]. وأقرب باب يدخل منه العبد على الله باب الافتقار والمسكنة، ولذلك كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ لأن حال السجود فيها من الذلة لله والخضوع له ما ليس في غيرها من الهيئات، قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء))[رواه مسلم]. وهل هناك حال أرجى للقبول من عبد عفر جبهته في التراب خضوعًا للعزيز الوهاب.
-----------------------------------
رمضان يخاطبك
أنا رمضان.. شرفني ربي فأعلى قدري، وامتن عليّ حين خلد ذكري، وبارك فيّ بأن أنزل وحيه في أيامي، فكان بدء الدعوة وإشراق الهدى في ليلة من لياليّ جعلها الله خيرا من ألف شهر ومنح المسلمين نعمة من أعظم النعم فهو يمن عليهم بعتقهم من النار في كل ليلة، ثم يطلق في آخر ليلة مثلما أعتق في الليالي السابقة كلها.
وحظيت عند ربي برتبة عالية ومنزلة راقية حين جعلني مدرسة التربية الإيمانية الروحية، وخصني بصيام جعل جزاءه عنده، فقال عز وجل في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
وأكرمني بنفحات ربانية، ولمسات إيمانية، ورحمات إلهية، تنضح بها لياليّ، وتنطق بها أيامي، وتفوح بها أوقاتي
وطهرّني من كل ما لا يليق بجلال القدر الذي رفعني إليه، فصفد في الشياطين وغلق أبواب النيران، ونشر أجنحة رحمته على عباده، ففتح أبواب الجنان تنتظرهم بلهفة وتحنان
ها أنا جئتكم يا أحبابي.. جئتك يا أمتي.. أظللتكم ببركتي وطهري .. وأرجو منكم إعماري وبري.. جئت أمنحكم فسحة من الزمن توقظون فيها من العزم ما وهن، ومن القلب ما نام وركن، تجددون فيها الإيمان، وتحيون الصلة مع القرآن، تكسبون خيرا كثيرا لا يحصر، وتفرحون بما من ذنوبكم يغفر، جئتكم والسعادة تغمرني … جئتكم وأملي في حسن استقبالكم ينعشني … جئتكم والعودة إلى الله شعاري … جئتكم وهدية الرحمة دثاري.
لكني الآن أرى واقعا غير ما كنت أظنه… أرى نفحاتي طائرة وأوقاتي مهدرة .. أرى ضبابا يعوق بصري، وأسمع ضجيجا يخرق سمعي.
نعم .. لقد أخبروني قبل مجيئي عن بعض أمور عنكم وعني .. لكني لم أصدق ما نقلوه إلي.. خبروني عن استقبال غير لائق .. خبروني عن كاره ومتضايق.. خبروني عن معاص وشرور.. خبروني عن تفريط وتضييع .. أتراكم استصغرتم قدري أو جهلتم حقي أو استحللتم حرمتي وقدسيتي؟أحق ذاك؟ أفعلتموه ؟ ولكني أذكر أن هناك من أيد ثقتي ومنحني الطمأنينة فمن أصدق؟ وعلى من أعول؟ قلبي مع الفريق الثاني وحواسي تشهد بصدق الأول.. ما رأيكم؟ هل يمكن أن تقدموا لي دليلا على أحد القولين؟ هل يمكن أن تعيدوا لي ثقتي في نفسي وفيكم؟ هل يمكنكم أن تروني وتروا الله من أنفسكم خيرا كل الخير؟ هل تحافظون على جلالي؟ هل تتلذذون بجمالي؟ هل تتعرضون لنسائم الرحمة في أجوائي؟ هل تفعلون لي ذلك وأبشركم مقابله بأن الله تعالى يباهي بكم الملائكة ويدخر لكم من الأجر والرضا ما لا يقدمه إلا ربكم الرحيم الكريم؟ أرجو ذلك، وسأرى وأشهد