وقفات على قوله تعالى : إنّ الله وملائكته يصلون على النبي

قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]

في هذه الآية العظيمة أعظم التكريم والتبجيل للنبيّ الكريم صلّى الله عليه وسلّم، فخصّهُ الله بالصلاة عليه وملائكته، وإنّما التعظيم في صلاة الله تعالى على نبيّه الكريم وقد يسعُ معنى الصلاة عليه معانٍ كثيرة كالرّحمة والتعظيم والتشريف والتكريم، ولكنّنا نحملُها هنا كما حملها بعض العارفين أنّها التجلّي عليه صلى الله عليه وسلم.

فإنّ ذلك التجلّي من الله هو غاية التعظيم والتشريف، إذ جعلهُ الله مجلى الصفات الحقيّة ومظهر الذات العليّة فكان العبد الكامل الذي قام بحقّ العبودية والنبيّ الخاتم الذي منّ الله عليه بختم النبوّة، والنبوّة أعظمُ من الولاية لأنّ الله تسمّى بالوليّ وما تسمّى بالنبيّ، أي أنّ الشرف كلّ الشرف في تلك الخصيصة التي خصّ الله بها عباده، وهي النبوّة وهي زيادة عبودية واختصاص في النّسبة العبدية. فإنّ غاية التشريف للعبد في فنائه بربّه وبقائه به، أي تجرّده من نفسه وآنيته وتجلّي الله عليه سبحانه، فإنّ السّبب الموجب للكمال الحقّي والتجلّي الذاتي والصفاتي الربّاني هي خصيصة العبودية لله والفناء في ذاته سبحانه.

هنا لتفهم هذه الإشارة التي لفتَ إليها العارف بالله المحقّق الشيخ الأكبر في خصيصة النبوّة، لأنّ تميّز العبد بالعبدية كما ذكرنا فما تسمّى الله بالنبيّ، وقد تسمّى الوليّ.

فذابَ المحبّون المحقّقون في صفةِ العبدية والفناء والانمحاق في ذاته سبحانه، حتّى قال الشيخ الأكبر وأهل التحقيق هناك مقامُ نبوّة غير تشريعية غير تلك النبوّة المخصوصة بالأنبياء عليهم السلام، وهي مقامُ القربة : خصّ الله بها هؤلاء المحقّقين الأولياء الذين قاموا بحقّ العبدية والعبودية : فمنّ الله عليهم بنبوّةٍ خاصّة رحمةً منه وفضلاً، وقد علِمَ صدقهم وشدّة فنائهم فيه، وهي دون النبوّة التشريعية والخاصّة بالأنبياء عليهم السلام. ورأوا هؤلاء المحقّقون في اشتراكهم في مسمّى الوليّ مع الله منغّصاً عليهم، وأفئدتهم وأرواحهم هائمة في ربّها فنتْ حتّى ودّت أن تتجرّد من كلّ اشتراكٍ مع الوليّ العظيم العزيز سبحانه. فافهم.

فما كانَ أعظمَ من مقام النبوّة، ومن ختْم النبوّة لأنّها مقامُ العبودية المحضة والفناء الأكبر والانمحاق في ذاته سبحانه. وقد تفضّلَ الله على عبده ونبيّه بهذا المقام وهذا الختْم فوقعَ له التجلّي الذاتي التامّ الكامل، وتجسّد في هذه الآية العظيمة : إنّ الله وملائكته يصلّون على النبيّ ..

هنا تفهمُ فضل الأنبياء وخصوصيتهم التي خصّهم الله بها .. عليهم السلام، وفضل خاتم النبيين وسيّد المرسلين، فإنّ الولاية في النبيّ أعظم منها في الوليّ بما ذكرناهُ، فالولاية هي الوجه الإلهي للنبوّة، وهذا الوجه الإلهي والتجلّي والانمحاق لا يكونُ إلاّ بتمام العبدية وشرائط العبودية، والنبوّة مزيدُ اختصاصٍ في العبدية والعبودية، فإنّهم كما قالوا : الولاية أعلى من النبوّة في الأصل، فإنّ هذا هو السّببُ عينُه في كونِ النبيّ ولايته أعلى من الوليّ. فإنّهُ لا وليّ في الحقيقة إلاّ الله سبحانه، وولاية العباد حصّلها الأولياء بتحقيق شرائطها من العبدية والعبودية، والنبوّة هي اختصاصٌ في هذه العبودية فما اشتركَ العبدُ في مسمّاها مع الله سبحانه. فافهم ما أشرنا إليه فإنّه نفيسٌ في بابه.

قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]

في هذه الآية الكريمة كما سبق أن ذكرنا، غاية التكريم والتشريف والتعظيم للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وفيها إنباءٌ أنّه المثلُ الأعلى والقدوةُ المثلى للكمال الإنساني والبهاء الربّاني، إنّ الله يُصلّي على النبيّ ويتجلّى عليه بحُلل الجمال والكمالِ فهو سرّ انفلاق الأسرارِ الجبروتية وتدفّقُ الأنوار الملكوتية على الهياكل الإنسانية، إنّهُ حلّةُ الحقيقة المحمديّة، فقد تجلّتْ فيه في غاية كمالها وأعلى صفاتِها وأخلاقها، فنَسبَها السّاداتُ المحقّقونَ إليه اسماً : الحقيقةُ المحمديّة، فهو مظهرُ كمالِها ومجلى بهائها وفيوضِها، هو السيّدُ الأحمدُ المحمّد المحمود صلواتُ الله وسلامهُ عليه، فقالَ الله تعالى بعد تقريرِ الصلاة عليه وملائكته الكرام المطهّرين، يا أيّها الذين آمنوا بي ربّاً وبمحمّدٍ نبيّاً ورسولاً وبالإسلام ديناً صلّوا على المثل الأعلى والأنموذج الإنسانيّ لتظهرَ فيوضُهُ القدسية وأنواره الملكوتية على هياكلكم، وتُشرقَ بجمالِ أنوارهِ قلوبكم وتتطهّرَ بأسرارِ جلالِ تجليّاتِ الله عليهِ أرواحُكم.

صلّوا عليه وسلّموا تسليما لتتجلّى الحقيقةُ المحمديّة فيكم وترتفعوا عن أوحالكم وطينكم، فإنّهُ بهِ صلواتُ الله وسلامه عليه تتطهّرُ الأرواحُ وتشرقُ القلوب وتزكو النّفوس.

فهذا ارتباطٌ وثيقٌ بين صلاة الله على الحبيب المحبوب سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلّم وطلبِ الله من المؤمنين أن يُصلّوا عليه ويُسلّموا تسليما، فهذا تقريرٌ أنّهُ المثلُ الإنسانيّ الأعلى للتجليّاتِ القدسية والأقدسية، وأنّهُ متى ما صلّى المؤمنُ عليه فإنّهُ يصلّي على نفسه بصلاة الله عليه، وأنّ سرّ الحقيقة المحمديّة المودع في المؤمن يتجلّى ويُشرِقُ أكثرَ ما يكونُ بالصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم، وأنّ ذلك تقرير لما قاله تعالى في محكم التنزيل : {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّه} الحجرات:7
في ذواتكم وفي أسراركم يا أيّها الذين آمنوا فاجتهدوا في الصلاة والسلام عليه فإنّهُ لذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ((من صلّى عليّ مرة صلّى الله عليه بها عشرا)) رواه مسلم.
فالآيةُ تُقرّرُ ذلك ضمنياً، أنّ صلاة المؤمن عليه صلّى الله عليه وسلّم هي صلاةُ المؤمن على نفسه من الله سبحانه، فإنّهُ صلّى الله عليه وسلّم مظهرُ الحقيقة المحمديّة ومجلى كمالِها وصفاتها العليا، وأنّه المثلُ الأعلى والإنسانُ الكامل الذي تتجلّى بواسطته تجليّات الكمال والجمال على البشريّة والمخلوقات.

لذلك كانت أورادُ السّادة الصوفية : ترتكزُ على الإستغفار أوّلاً ثمّ الصلاة على النبيّ ثانيا ثمّ كلمة التوحيد ثالثاً.
وقال المشايخ رضي الله عنهم : الإستغفارُ هو استغفار ظاهر، ثمّ الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو استغفار باطنٌ ثمّ تأتي بعد ذلك كلمة التوحيد لا إله إلاّ الله.

فإنّهُ لا يُعرَفُ الله سبحانه إلاّ بواسطة صفاته وأسمائه، وجامع الصفات والأسماء هو سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلّم، فكانَ التجلّي على العبد لتظهرَ فيه الحقيقة المحمديّة هو بابُ التوحيد والتفريد الحقيقي والدخول لكلمة التوحيد : لا إله إلاّ الله.

فافهم سرّ الصلاة والسّلام عليه، فإنّهُ تعظيمٌ للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو في الحقيقة تعظيمٌ واستغفارٌ باطنٌ وتوحيدٌ لله تعالى.
استغفارٌ باطنٌ من الوجودِ المعلول النّاقص عن مرتبة الفناء في الذات العليّة والبقاء به سبحانه عزّ وجلّ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً فالصلاةُ هي التجلّي والسلام هو التثبيت وقابلية التجلّي.

وصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه دائما أبدا.