الولي والأسرار الإلهية
واعلم: أن من أراد الله هدايته، واكتنفته رأفته ورحمته، ومنحه طريق محبته، فسبيله إذا فتح عليه هذا الطريق أن يرزقه خشيته.
وإنما برزت الخشية من العلم به؛ فإذا علمه القلب خشية، وإنما ينال العلم من الفتح؛ فإذا فتح الله له، شاهد الأشياء ببصر قلبه: فعلمه، فخشيه.
وإذا التزم القلب الخشية حشاه (الله) بالمحبة، فيكون بالخشية معتصما مما كره الله سبحانه، (مهما) دق أو جل، (ويكون) بالمحبة منبسطا في أمور، ذا شجاعة.
فلو ترك (الله العبد) مع الخشية، لا نقبض وعجز عن كثير من أموره، ولو تركه مع المحبة وحدها، لاستبد وتعدى؛ لأن النفس تهيج ببهجة المحبة.
ولكنه تبارك اسمه، لطف به: فجعل الخشية بطانته، والمحبة ظهارته حتى يستقيم به قلبه، فيرى التبسم والانطلاق والسعة في وجه العبد وأموره، وذلك لظهور المحبة على قلبه؛ ومع ذلك، في داخله أمثال الجبال خشية.
فقلبه خاشع، ووجه منطلق، ثم يرقى الله العبد إلى مرتبة أخرى، وهي الهبة والأنس، فالهيبة من جلاله والأنس من جماله.
فإذا نظر إلى جلاله هاب؛ وإذا نظر إلى جماله انبسط وطاب، فلو تركه مع الجلال لعجز عن أموره: كثوب ملقى أو جثة بلا روح، ولو تركه مع الجمال لجاشت نفسه وتعدت.
فجعل الله تعالى الهيبة شعاره والأنس دثاره، حتى تستقيم له نفسه.
ثم يرقيه الله إلى مرتبة أخرى، وهي مرتبة الانفراد: مرتبة القربة العظمى، فمكن له عز وجل بين يديه، ونقاه بنوره، وفتح له الطريق إلى وحدانيته، وأطلعه على بدء الأمر من قوله:( والظاهر والباطن ) سورة الحديد: الآية 3.
وأحياه بنفسه واستعمله، فبه ينطق هذا العبد، وبه يعقل، وبه يعلم، وبه يعمل.
وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه: " فإذا أحببت عبدي كنت فؤاده، فبي يعقل، وسمعه وبصره، فبي يسمع ويبصر، ويده فبي يبطش".
فهذا سيد الأولياء، وأمان أهل الأرض، ومنظر أهل السماء، وخالصة الله، وموضع نظره، وسوطه في خلقه؛ يؤدب بكلامه.
ويرد الخلق إلى طريقه، ويجعل منطقة قيدا لقلوب الموحدين، وفصلا بين الحق والباطل.
فهذا من صنف الذين اجتباهم بمشيئته: لا من الصنف الذين ولي هدايتهم بإنابتهم، فإنهم قد ذكروا في الكتاب، فقال عز من قائل: (الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ) سورة الشورى: الآية 13.
فالمجتبي هو عبد قد جذب الله تعالى قلبه إليه، فلم يعان جهد الطريق، وإنما جذبه طريق اصطفاء الأنبياء، لأن حاله هذه، خرجت له من المشيئة، فأجراه الله على خزائن المنن، ثم أخذ بقلبه فجذبه إليه واصطفاه.
فلم يزل يتولى تربيته، قلبا ونفسا حتى رقي به إل أعلى درجات الأولياء، وأدناه من محل الأنبياء، بين يديه.
وأما المهتدي بالإنابة، فهو عبد أقبل إلى الله تعالى يريد صدق السعي إليه، حتى يصل إليه، فبذل أصدق الجهد؛ فهداه الله إليه لما كان منه من الإنابة.
فهذا عبد، جهده نصب عينيه أبدا؛ وهو حجاب له عن ربه، عز وجل، وإن سبق لظنه أن هذا منة، ونطق بلسانه وتبرىء من جهده، فإن جهده نصب عينيه، لا يخرج علم ذلك من نفسه.
والمجذوب لم يعان شيئا من هذا: فهو على اصطفاه الأنبياء، يمر إلى الله والله يذهب به، وهو لا يهتدي لا لشيء من الطريق، فهو صاحب الحديث والمبشر والمستعمل، فلا شيء يتعاظم عنده من هذه الأقوال.