حديثنا اليوم عن المضغه التي إن صلحت صلح الجسد كله و إن فسدت فسد الجسد كله , حديثنا اليوم عن محل نظر الله للعبد. و ابدأ حديثي بقول الله تعالى {يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} و قول الله تعالى {وإن من شيعته لأبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم}, و قول سيد الأنام صلى الله عليه و سلم (إن الله لا ينظر الي صوركم و أجسامكم و لكن ينظر الى قلوبكم و أعمالكم).
يقول الله تعالى في كتابه العزيز {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} 78 النحل، أي أن الله لما اخرج بني آدم من بطن آمه جعل له ثلاث أدوات رئيسة للمعرفه. السمع و البصر و الفؤاد , و لاحظ هنا الترتيب الرباني المحكم فقد جعل السمع أولاً , و هنا إشارة كيف يسن أن يكون أول شيء يقع على أذن المولود هي كلمات التوحيد , فيسن أن يؤذن في أذنه. ثم جعل له وسيلة أخرى للمعرفة و هي البصر لمعرفة الأمور الظاهرة , و الفؤاد لمعرفة الأمور الباطنة و حقائق الأشياء و ذلك للوصول الى الله.
و سلامة البصر دائماً لا تعني سلامة الإبصار , إذ يجب أن تتوفر شروط أخرى للإبصار و أهمها وجود النور أو الضوء. لأنك لو كنت في مكان مظلم فإنك لا ترى شيء رغم سلامة بصرك , و القلب مثل ذلك لا يستطيع الإنسان أن يرى بقلبه دون وجود النور , و أعني به هنا نور الإيمان. فالله تعالى يصف الكافرين بقوله {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
الغافلون لهم الأدوات الثلاثة للمعرفة و لكن كلها معطلة و وصفهم كالأنعام , علماً أن الأنعام ترى و تسمع و لكن ليس هذا السمع و هذا الإبصار المراد به للإنسان الذي يريد الوصول الى الله . قال تعالى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}46 الحج، و تأمل هنا قول الحق {تعمى القلوب التي في الصدور} , و هل القلوب ترى حتى تعمى ؟ , و هنا أقول أن من يولد أعمى البصر , فمهما عظّمت له نعمة البصر التي قد حرم منها فإن ذلك لا يترك في نفسه أثر و لا يشعر بالنقص , لان هذه النعمة غائبة عنه من ولادته.
و كذلك القلب , إن كان ميتاً فكيف به أن يرى النور أو يستشعر الحب اللهي و الإيمان و هو طيلة عمره أعمى , و هنا يحصل الشك و الإنكار و تكون الغشاوة. و يدخل الشيطان عليهم من باب التشكيك فتكثر في عقله وساوس (لماذا و كيف) , الم تسمع قول الله تعالى {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ، رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ، رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} 9 آل عمران.
هؤلاء القوم الذين عميت قلوبهم ارادوا اتباع المتشابه إثارةً للفتنة في الدين و التشكيك فيه و لتأويله كما يشاؤن , و هي أمور لا يعلم تأويلها إلا الله. فالغافل تحدثه نفسه دائما قائلةً لماذا قال الدين كذا أو أمر بذاك و نهى عن تلك , و كل ذلك مما يؤدي الي زيغ القلوب {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا.. الأيه}.
جاء في الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي أن الله تعالى وصف قلوب الكفار بعشرة أوصاف: بالختم والطبع والضيق والمرض والرَّين والموت والقساوة والانصراف والحَمِية والإنكار.
فقال في الإنكار: {قلوبهم منكرة وهم مستكبرون} النحل 22.
وقال في الحمية: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية} الفتح26.
وقال في الانصراف: "ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون" التوبة 127.
وقال في القساوة: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله} الزمر 22. وقال: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك} البقرة 74.
وقال في الموت: {أو من كان ميتا فأحييناه} الأنعام 122. وقال: {إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله}.
وقال في الرين: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} المطففين 14.
وقال في المرض: {في قلوبهم مرض} محمد 29.
وقال في الضيق: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجاً} الأنعام 125.
وقال في الطبع: {وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} التوبة87. وقال: {بل طبع الله عليها بكفرهم} النساء155.
وقال في الختم: {ختم الله على قلوبهم} البقرة 7 .
و السمع و البصر هما أهم رافدين يصبان في وعاء القلب إفساداً أو إصلاحاً. قال صلى الله عليه و سلم (النظرة سهم من سهام إبليس , من امسكه أبدله الله تعالى إيماناً يجد حلاوته في قلبه) السهم هنا أول ما يصيب الإيمان في القلب فيمرضه أو يقتله و السمع كذلك , قال تعالى {سمّاعون للكذب أكالون للسحت}.
إلا ترى أن الإنسان إذا داوم النظر الى ضوء الشمس فان ذلك يؤدي الى تلف بصره و إن استمر ينتهي به الأمر الى العمى , و حال القلب كذلك فالنظر الى الحرام يعمل في القلب ما تعمله الشمس في العين الى ان تعمى القلوب و العياذ بالله.
الشيطان عدو ابن آدم , يزين و يغوي , قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} الانعام 112-113.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا، وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا} الكهف 57-58.
و من أبواب الشيطان في هذا الباب أن يأتي المرء و ينفخ فيه فيقول : الإيمان بالقلب و ليس بالعمل و الأخلاق الحسنه و الأدب هي الدين أصلاً. و هذا قول حق اراد الشيطان به باطلاً , ليبقى الإنسان في غفلته حتى يجيء أجله و لم يؤدي حق الله في العبادة و الطاعة {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم}.
إن القلب هو مدار صلاح الأمر كله (إذا صلح صلح الجسد كله) فتنبه يا أخي من غفلتك و أن كنت من أصحاب القلوب الميته , فسارع لفتح باب القلب و اعبد ربك و تذلل اليه كما يريد لا كما تريد , كي تتفتح القلوب و تتنزل الانوار فتسطع في ارجاء قلبك فتصبح ربانياً , و تحظى بقول الله تعالى (يحبهم و يحبونه).
و ذكر الله هو مفتاح القلوب , قال سيدنا رسول الله عليه أفضل الصلاة و السلام (إن هذه القُلُوبَ تَصْدَأ كما يَصْدَأ الحديد، قيل فما جلاَؤها؟ قَالَ: ذكْرُ الله، وتلاَوة القرآن).
و أعلم أن نقطة الإخلاص أكسير كما قال سيدنا أحمد الرفاعي قدس الله سره , أي انك عزيزي المسلم إن أقبلت على الله بحسن التوجه الخالص , نادماً على ما فات , فحشا لله أن يرد عبده , فالله أكرم من أن يرد قلباً تائباً مقبلاً. {إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا}، {و لن يترهم أعمالهم سيهديهم و يصلح بالهم و يدخلهم الجنة عرفها لهم}.
جعلنا الله من أصحاب القلوب و الضمائر الحية المبصرة إنه سميع مجيب الدعاء و صلي اللهم على سيدنا محمد طب القلوب و دوائها و عافية الأبدان و شفائها و نور الأبصار و ضيائها و على آله و صحبه و سل
منقووووووووووووول