| الباب الأول الاستقامة في السرائر | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
ملك روحي مراقبة عامة
العمر : 47
| موضوع: الباب الأول الاستقامة في السرائر الخميس ديسمبر 02, 2010 7:43 am | |
| ـ 1 ـ النية
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلىالله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: ” إنّ اللّه كَتَب الحَسَنات والسيئات ثُمّ بيَّن ذلك فَمَن هَمّ بِحَسَنَة فَلَم يَعمَلها كَتَبَها اللّه تَبارَكَ وَتَعالى عندَهُ حَسَنَة كاملة ، وإن هَمّ بها فَعَملها كَتبها اللّه عشر حَسَنات إلى سبعمائة ضِعف إلى أضعاف كثيرة ، وإن هَمّ بِسيئة فَلَم يَعملها كتَبَها اللّه تَعالى عنده حَسَنَة كاملة ، وإن هَمّ بها فَعَمِلَها كَتَبَها اللّه سيئَة واحِدة ” متفق عليه (1) ـ يبدأ الكثير من كتب الحديث بالحديث المشهور الذي قال عنه بعض أئمة الحديث أنه وصل حد التواتر المعنوي(2) ” إنّما ألأعمال بالنيات وإنّما لكُل إمرئ ما نوى ، فَمَن كانت هِجرَتُهُ إلى اللّه ورسولِه فهِجرتُه إلى اللّه ورسوله ، ومَن كانت هجرتُه لدُنيا يُصيبُها أو إمرأة ينكِحُها فهجرته إلى ما هاجر إليه ” (3).ـ فالنية أساس العمل ، تقترن النية الصالحة بالعمل القليل فترفعه ليكون من أقرب القربات ، أما النية السيئة فإذا اقترنت بالعمل الصالح الكثير فإنها تحيله إلى هباء منثور. قال تعالى: ” وَقَدِمنا إلى ما عَملوا من عَمَل فَجَعلناهُ هباء منثورا ” نظر إلى كرم الله تعالى: ينوي المرء فعل حسنة ثم لا يفعلها فيكتبها الله له حسنة ، فإذا فعلها تضاعفت عشرا أو مائة أو سبعمائة أو أكثر من ذلك إلى ما شاء الله بحسب نيته وإخلاصه.وإن نوى فعل سيئة ثم فعلها ، كتبت له سيئة واحدة لاغير. أما إذا لم يفعلها فإن الله يكتبها له حسنة . ولا تعجب من ذلك فإن ترك السيئة هو حسنة بذاته.
هذا الحديث يذكر المؤمن بأن ينوي فعل الخير في كل لحظة يستطيع ذلك ، فإن إستطاع تنفيذ فعل الخير فبها ونعمت ، وإن لم يستطع فإن الله يجازيه على حسن نيته. وهكذا فإن نية المؤمن خير من عمله لأن ما ينويه من خير أكثر مما يستطيع عمله في وقته المحدود وماله المحدود وقابلياته المحدودة . ولذلك على المرء أن يراقب نيته كما يراقب عمله فإذا ما وجد في نيته قصدا لغير الله وجب عليه تصحيح نيته في ذلك. وقد يعجب بعض الناس من بركة عمل صالح لفرد ما حيث تتضاعف الفائدة منه وبذلك ينال صاحبه أجرا عظيما ، بينما لايحصل آخر عمل عملا مشابها على مثل تلك النتيجة ، وما ذلك في أغلب الأحيان إلا بتأثير النية الحسنة ، فأول خطوات الإستقامة تصحيح النية لكي تكون خالصة لله تعالى. والنية الحسنة لا تحيل المعصية خيرا . قيل كان رجل يسرق كل يوم درهما فيشتري به خبزا فيدفعه إلى فقير. فلما إكتشف أمره قال إنه يسرق فيكسب سيئة واحدة فيتصدق فيكسب عشر حسنات ، تمحو إحداهن السيئة فيبقى له تسعا . فهذا الجاهل قد إكتسب سيئة ولم تكتب له أية حسنة ، لأن الصدقة من الحرام غير مقبولة والنية الحسنة هنا لا تجدي نفعا . لكن النية الحسنة في الأمر المباح تحيله عبادة . فالترويح عن النفس بغير نية إذا لم يكن فيه معصية لا إثم ولا ثواب فيه. أما إذا كانت النية في الترويح عن النفس الإستعداد لطاعة الله ، فعند ذلك يصبح الترويح عن النفس عبادة . قال أبو الدرداء إني لأستجم نفسي بشيء من اللهو فيكون ذلك عونا لي على الحق. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: روِّحوا القلوب فإنها إذا كرِهَت عَمِيَت . وفي رواية إذا كلّت عميت أو تعبت. ـ 2 ـ الإخلاص عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلىالله عليه وسلم: ” قالَ اللّهُ تَباركَ وتَعالى أنا أغنى الشُرَكاءِ عَن الشِرك . مَن عَمِلَ عَمَلا أشركَ فيهِ معي غيري تركتُهُ وشِركَهُ ” ( رواه مسلم ) الإخلاص شرط في قبول الله تعالى للعمل الصالح ، قال الله تعالى: ” وَما أُمِروا إلاّ ليَعبُدوا اللّه مُخلِصين له الدينَ ” (5)ـ ، وقال: ” ألا للّه الدين الخالِص ” (6) ، قال الفضيل بن عياض(7): ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعمل من أجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما . وهكذا فإن تمام اليقين بشهادة أن لا إلَه إلاّ الله أن لا ينوي حينما يفعل إحسانا الاّ أن ذلك لله وحده ، ولا يترك فعلا إلا لله ، ولا يتأثر بفعل ما سواء حضر الناس أم غابوا . فإنه ليس لله حاجة بعبادة أحد له ، وهو أغنى الشركاء عن الشرك ، فإذا أشرك العبد في أمر ما بحيث قصد أن يكون لله وللناس فإن الله غير محتاج لذلك العمل . وعلى المسلم أن يراقب نيته وقصده في كل عمل فما كان فيه شركا مع الله تعالى فعليه أن يصحح نيته فيه لكي تكون خالصة لله. كما عليه أن يجتنب الشرك في القول ، كقول أحدهم: هذا لله ولك ، أو قوله إذا أراد الله وأردت ، والحلف برأس المخاطب ، كما عليه أن يجتنب الشرك في الفعل كالذبح تحت أقدام البشر ، أو الركوع أمامهم ، أو الغلو في مدحهم بما يوهم رفعهم فوق مستوى البشر. وعلى المؤمن أن يكون له ، ولو جزءا من عمله خالصا من أي رياء أو منّ على أحد ، من أعمال السر بحيث لا يعلم به أحد إلاّ الله كصدقة السر أو صلاة التهجد منفردا أو إحسان لا يعلم به أحد حتى من يستفيد منه ويجهد نفسه على أن تكون الأعمال الظاهرة الأخرى خالصة من الشوائب قدر إستطاعته فتلك خطوة أخرى على طريق الإستقامة.كما أن عليه أن لا يترك عملا صالحا من أجل الناس قال الله تعالى عن المؤمنين: ” يجاهدون في سَبيل اللّه ولا يخافونَ لومَة لائِم ” (8) فهو لا يرى لغير الله إرادة أو إستطاعة لضرر إلاّ بإذنه وكلما إزداد المؤمن إيمانا كلما وضحت عنده تلك الحقيقة وفتح الله له بحيث يرى براهين جديدة تطمئن إليها نفسه. كتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية رضي الله عنه: سلام عليك ، أما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ” مَن أرضى الناسَ بِسَخَطِ اللّهِ وكَلَهُ اللّهُ إلى النّاسِ ، ومَن أسخَطَ النّاس بِرِضاءِ اللّهِ كَفاهُ اللّهُ مَؤنَةَ النّاسِ ” (9).ـ ـ 3 ـ التقوى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتّقِ اللّه حيثُما كنتَ وأتبِع السيئةَ الحسَنَة تَمحُها وخالِقِ الناسَ بِخُلُق حَسَن ” (رواه الترمذي وقال حديث حسن)(10 و 11) حث الله تعالى في القرأن الكريم على التقوى في أيات كثيرة: ” ياأيّها الّذين أمنوا إتقوا اللّه حقّ تُقاتِه ولا تَموتُنّ إلاّ وأنتُم مسلمون ” (12) ، ” ياأيّها النّاسُ اتّقوا ربّكُم إنّ زلزلة الساعة شيء عظيم ” (13) ، ” ياأيّها النبيّ إتّق اللّه ولاتُطِع الكافرين والمُنافقينَ إنّ اللّه كانَ عَليما حَكيما ” (14).ـ وكلمة التقوى مشتقة من الوقاية ، فالتقوى هي إطاعة الله خشية عذابه ، وهي عمل بطاعة الله على نور من الله مخافة عقاب الله. ويدعو الملائكةُ للمؤمنين كما يحكي لنا القرآن الكريم: ” وقِهِم السّيئات وَمَن تَقِ السّيئات فقد رَحِمتَهُ ” (15) ، وعلى المسلم أن يدعو الله على الدوام أن يقيه الوقوع في السيئات والآثام ، أليس هو الذي يدعو ربه في كل ركعة من ركعات صلاته: ” إهدِنا الصِراطَ المُستَقيم ” (16). وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو: ” اللّهُمّ إني أسألُكَ الهُدى والتُقى والعفاف والغنى ” (17).ـ إن مكان التقوى هو القلب ، لكن الدليل على مايضمره القلب هو الأعمال الظاهرة على الجوارح ، فمن ادّعى التقوى وكانت أعماله تناقض قوله فقد كذب . ويختلف مقدار ما يفرض الله على المرء من تقوى بحسب إستطاعته ، قال الله تعالى: ” فاتّقوا اللّهَ ما استَطَعتُم ” (18). والسبيل إلى التقوى هو مراقبة النفس ومنعها عن إتباع أهوائها بما يناقض أوامر الله تعالى ولكي تنقاد إلى ما أمر به وعدم الغفلة سواء في حالة الإنقياد الى أمر الله أو إجتناب نواهيه ، قال تعالى: ” إنّ الّذينَ اتَّقوا إذا مَسَّهُم طائِف مِنَ الشيطانِ تَذَكَّروا فإذا هُم مُبصِرون ” (19).ـ ـ 4 ـ محبة الله ورسوله عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” ثلاث من كُنّ فيهِ وَجَد بهنّ حَلاوَة الأيمان:أن يكونَ اللّه ورَسولُه أحبّ إليه مما سِواهُما ، وأن يُحِبّ المَرءَ لا يُحبّه إلاّ للّه ، وأن يَكرَه أن يعودَ في الكُفرِ بَعدَ أن أنقَذَهُ اللّهُ منه كَما يَكرَهُ أن يُقذَفَ في النّار ” (متفق عليه) محبة العبد لربه نور يقذفه الله في قلوب من يحب من عباده الصالحين حتى أن العبد ليجد حلاوة ذلك فلا يعبأ بما يلاقي من أذى في سبيل الله. إسمع قوله جل شأنه: ” ياأيّها الذين آمنوا مَن يَرتَدّ منكُم عَن دينِهِ فَسوفَ يأتي اللّه بِقوم يُحِبُّهُم ويُحِبّونَهُ أذِلّة على المُؤمنينَ أعِزَة على الكافرين ، يُجاهدونَ في سَبيلِ اللّه ولا يَخافونَ لومة لائِم ، ذلك فَضلُ اللّه يُؤتيهِ مَن يشاء واللّه واسِع عليم ” (20). وهكذا فإن محبة العبد لربه مقترنة بمحبة الله تعالى لعبده. ومحبة العبد لربه دليل على معرفته به ، قال الحسن البصري رضي الله عنه: من عرف ربه أحبه ، ومن عرف الدنيا زهد فيها ، والمؤمن لا يلهو حتى يغفل ، فإذا تفكر حزن. ولكن ما الدليل على صدق من يدعي محبة الله تعالى؟ إن جواب ذلك في كتاب الله: ” قُل إن كُنتُم تُحِبّون الله فاتّبِعوني يُحبِبكُم الله ويَغفر لَكُم ذنوبَكُم ، واللّه غَفور رَحيم ” (21) ، قال ذو النون المصري رضي الله عنه(22): من علامات المحب لله عز وجل متابعة حبيب الله صلى الله عليه وآله وسلم في أخلاقه وأفعاله وأوامره وسننه. ومن يصدق في محبته لله ولرسوله يرخص عنده كل غال في سبيل الله. إستمع قوله تعالى: ” قُل إن كانَ آباؤكُم وأبناؤكُم وإخوانُكُم وأزواجُكُم وعشيرَتُكُم وأموال اقتَرَفتُموها وَتِجارة تَخشونَ كسادَها ومَساكِنُ تَرضونَها أحَبّ إليكُم منَ اللّه ورسولِه وَجِهاد في سبيله فتَربّصوا حتى يأتي اللّه بأمرِه واللّهُ لا يَهدي القومَ الفاسِقينَ ” (23). وقد أحسن من قال: تعصي الإله وأنت تزعم حبــه لعمري إن ذا في القياس شنيع لو كان حبك صادقا لأطعتــه إن المحـب لمــــن يحب مطـيـع أتى أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال متى الساعة؟ قال له صلى الله عليه وآله وسلم: ” ماأعددتَ لها؟ ” قال ما أعددت لها كثير عمل ولكني أحِبّاللّه ورَسولِهِ ، قال: ” أنتَ معَ مَن أحبَبتَ ” (24) ، ففرح الصحابة بتلك البشرى فرحا شديدا لأن هذا الحديث بشرى عظيمة لمن أحب الله ورسوله ، فإن حب الله ورسوله لا يدانيه في الثواب عمل آخر. وعلى المؤمن أن ينظر إلى محبة الكفار لآلهتهم وأوليائهم مما سوى الله فيكون أشد حبا لله مما يحبون ، قال تعالى: ” ومِنَ النّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دونِ اللّهِ أندادا يُحِبّونَهُم كَحُبّ اللّه والّذين آمنوا أشَدّ حبا للّه ” (25).ـ ـ 5 ـ التوبة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” لَلّهُ أشَدّ فَرَحا بِتوبَة عبدِهِ من أحَدِكُم سَقَطَ عَلى بَعيرِهِ ، وَقَد أضَلّهُ بأرض فلاة ” (متفق عليه)ـ هكذا يحب الله توبة عبده ، لذا عليه أن يتوب بعد كل ذنب أومعصية ، وليس ذلك فحسب بل عليه أن يجدد التوبة مرة بعد أخرى ، ” إن اللّه يُحِبّ التوّابين ويُحِبُّ المُتَطَهّرين ” (26) ، فالتواب هو الذي يجدد التوبة مرة بعد أخرى وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ” إنّي لأستَغفِرُ اللّهَ في اليومِ والليلَة أكثَرَ من سَبعينَ مَرّة ” (27). وإذا كان هَذا حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الإستغفار والتوبة وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فكم علينا أن نستغفر الله؟ ومع ذلك تجد بين المسلمين من يغفل عن ذلك نسيانا أو إهمالا أو إستهانة . وللتوبة شروط ، فإن كانت متعلقة بأمر هو لله فقط فشروطها ثلاثة هي الإقلاع عن الذنب والتصميم على عدم العودة فيه والندم على فعله.أما إذا كانت متعلقة بحق آدمي فلها شرط رابع هو أن يسترضي صاحبها . ولا تتم التوبة إذا فُقد أي شرط من شروطها. إن حقوق الله تعالى أعظم من أن يقوم بها العباد ، وإن نعم الله أكثر من أن تحصى: ” وإن تَعُدّوا نعمةَ اللّهِ لا تُحصوها (28)ـ " ولكن على المؤمن أن يصبح تائبا ويمسي تائبا . فالتوبة والإستغفار دأب الصالحين فقد سبقهم إلى ذلك الأنبياء والمرسلون . فآدم وحواء عليهما السلام: ” قالا ربّنا ظَلمنا أنفسَنا وَإن لَم تَغفِر لنا وَتَرحمنا لَنَكونَنّ من الخاسرين ” (29) ، ويونس عليه السلام: ” فنادى في الظلُماتِ أن لا إلَه إلاّ أنتَ سُبحانَكَ إني كُنتُ من الظالمين ” (30) ، فالإنسان معرّض في حياته إلى النسيان والوقوع في الأخطاء ، فكل إبن آدم خطّاء ، وخير الخطائين التوابون . وكلما كان إستدراك الخطأ أسرع ، كلما كان ذلك أفضل . فإذا أعقب الذنب إستغفارا سريعا ، كان ذلك أدعى لقبول التوبة . إن الأرض لتشهد لأي عمل يُرتكب عليها فهي تشمئز من ذنوب العباد ، وتطرب فرحا بالأعمال الصالحة فتشهد له بذلك يوم القيامة ، فعلى المرء أن يحرص على أن لا يترك أرضا عمل فيها بمعصية الله إلاّ بعد أن يتبع ذلك بطاعة لله فيها ، ” إن الحَسَناتِ يُذهِبنَ السيِئات ” (31) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ” أتبِع السيئةَ الحَسَنةَ تَمحُها ” (32).ـ وعلى المسلم أن يعلم إن من الذنوب ما تكون عاقبته للمرء خيرا من الطاعات ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إنّ العبدَ ليُذنِب الذَنبَ فيدخلَ بهِ الجَنّة ” ، قيل يارسول الله ، كيف ذلك؟ قال: ” يكون نُصبَ عينيهِ ، تائِبا منه فارّا ، حتى يدخُلَ الجَنّةَ ” (33) ، فالمؤمن ليس ملَكا ولا نبيا معصوما من الخطايا لكنه يقظ يعمل جهده في أن لا يعصي ربه ، فإذا أذنب أو أخطأ تاب وأناب فيكون ممن يحبهم الله تعالى. يحكى عن السري السقطي(34) رضي الله عنه أنه قال: منذ ثلاثين سنة أنا في الإستغفار من قولي الحمد لله مرة . قيل له وكيف ذلك؟ قال وقع ببغداد حريق ، فاستقبلني رجل فقال لي نجا حانوتك ، فقلت الحمد لله ، فمنذ ثلاثين سنة أنا نادم على ما قلت حيث أردت لنفسي خيرا مما حصل للمسلمين. ـ 6 ـ جهاد النفس عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: ركبت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما فقال لي: ” يا غلام إني مُعَلِّمك كلمات ، إحفَظ اللّه يحفَظك ، إحفظِ اللّه تَجِدهُ تِجاهَكَ ، وإذا سألتَ فَلتسألِ اللّه ، وإذا إستَعَنتَ فاستَعِن باللّه ، واعلَم أن الأمّةَ لو إجتمَعوا على أن ينفعوك لَم ينفعوكَ إلا بشيء قد كتبهُ اللّهُ لكَ ، ولو إجتَمَعوا على أن يَضّروك لم يضُّروك إلا بشيء قد كَتَبَهُ اللّهُ عَليكَ ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُحُف” (رواه أحمد و الترمذي) حفظ العبد ربه هو إلتزامُ أوامره وإجتناب نواهيه ، وحفظ الله تعالى عبده هدايته ومضاعفة ثوابه وتجنيبه الآثام وتيسير أموره . قال تعالى: ” والّذينَ جاهدوا فينا لَنَهدينّهُم سُبُلَنا ” (35) وقال أيضا: ” ومَن يَتَّق اللّهَ يَجعَل لَهُ من أمرهِ يُسرا ” (36). وكلما إزداد المؤمن تقوى ، كلما إزداد عون الله له وتسديدهُ لخطاهُ ، فإذا أحَسَن وجد الثواب سريعا كإجابة الدعاء أو تيسير المزيد من الصالحات أو وقايته من السيئات ، قال تعالى:” فأما من أعطى وإتّقى وصَدّقَ بالحُسنى فسنُيَسِّرَهُ لليُسرى ”(37).ـ أما إذا غفل المؤمن التقي فأخطأ ، فإن تسديد الله له يكون بتذكره لخطئه بشكل ما ، قال الله تعالى: ” إن الّذين إتّقوا إذا مَسَّهُم طائف من الشيطان تذَكّروا فإذا هُم مبصرون ” (38).ـ فتمام اليقين أن لايرى المؤمن نافعا إلا الله ولا ضارا غيره ، ولا مجيبا يستحق أن يسأل إلاّ هو ، ومنه الهداية وحده لا شريك له في كل ذلك ، فإذا استسلم العبد لله كان البلاء عنده نعمة لرفع الدرجات وكسب المزيد من الحسنات وتكفير السيئات ، وصار الرخاء عنده إختبارا يخشى أن لا يستطيع أن يؤدي شكره. فالمؤمن قوي اليقين بالله يرى أن الله تعالى فعّال لما يريد وأنه وحده الذي يستحق السؤال ويقدر على الإجابة . وعليه أن يسدد ويقارب ما إستطاع ويعمل الخير ولا يقول إن كان الله كتبني شقيا فأنا شقي وان كان كتبني سعيدا فأنا سعيد ، فعليه أن يعلم أن التوفيق لعمل الخير هو بشرى من الله أنه من السعداء فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ” إعمَلوا واتَّكِلوا ، وكُل مُيَسَّر لِما خُلِقَ لَهُ ، فَمَن خُلِقَ لِلنَعيمِ فييسرَهُ لِلنَعيمِ ، وَمَن خُلِقَ لِلجَحيم فييسرَهُ لِلجَحيمِ ” (39).ـ ـ 7 ـ الرضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إن أعظم الجزاء من عِظَم البلاء ، وأن اللّه تَعالى إذا أحَبّ قوما إبتلاهُم ، فَمَن رَضي فَلَهُ الرضا وَمَن سَخِطَ فَلَهُ السُخط ” (رواه الترمذي وقال حديث حسن) قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إرض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ، وإجتنب ما حرم الله عليك تكن من أورع الناس ، وأدّ ما إفترض الله عليك تكن من أعبد الناس ، ولا تشكُ من هو أرحم بك (الله عزوجل) إلى من لا يرحمك (الناس)ـ ، وإستعن بالله تكن من أهل خاصته. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد فإن الخير كله في الرضا ، فإن إستطعت أن ترضى وإلاّ فاصبر. وقيل للامام الحسين رضي الله عنه إن أبا ذر يقول: الفقر أحب إليّ من الغنى ، والسقم أحب إليّ من الصحة ، فقال: رحم الله تعالى أبا ذر ، أما أنا فأقول من إتّكل على حسن إختيار الله تعالى له لم يتمن غير ماإختاره الله عزوجل له. وقال أبو علي الدقاق(.4): وليس الرضا أن لاتحس بالبلاء ، إنما الرضا أن لا تعترض على الحكم والقضاء. ويكون العبد راضيا حق الرضا إذا سرّته المصيبة كما سرّته النعمة. كان صلى الله عليه وآله وسلم يدعو: ” أللّهُمّ إنّي أسألُكَ الرضا بعد القضاء ” (41) ، وواضح أن الواجب على العبد أن يرضى بالقضاء الذي أمر الرضاء به ، إذ ليس كل ما هو بقضائه يجوز للعبد أو يجب عليه الرضا به ، كالمعاصي ومختلف أنواع محن المسلمين... ويعني ذلك أنه عند وقوع المعصية والمحنة يكون الواجب هو العمل على تغييرها لا الخنوع والرضا بها . ويمكن للعبد أن يستشعر رضاء الله عنه إذا كان هو راضيا عن ربه في حالات الضراء والسراء على السواء ، قال تعالى ” رضِيَ اللّهُ عَنهُم ورَضوا عَنهُ ” (42).ـ إن عدم الرضا بمصائب الدنيا قد يصحبه الجزع. ومن جزع من مصائب الدنيا تحولت مصيبته في دينه ، لأن الجزع نفسه هو مصيبة في الدين ، فالمؤمن يرضى عن ربه وعن ما يقضي به ربه ، فالخير ما يختاره الله لعبده المؤمن لا ما يحبه هو لنفسه. ـ 8 ـ الصبر عن صهيب بن سنان رضي الله عنه(43) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” عَجَبا لأمر المُؤمن إنّ أمرَهُ كلّهُ لهُ خير ، وليسَ ذلك لأحَد إلاّ للمُؤمن ، إن أصابتهُ سَرّاءُ شَكَرَ فكان خيرا لهُ وإن أصابَتهُ ضّراء صَبَر فكانَ خيرا لهُ ” (رواه مسلم) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :ما أصابتني مصيبة إلاّ رأيت أن لله عليّ فيها ثلاث نعم: أن لم تكن المصيبة في ديني ، ولم يكن ما هو أكبر منها فدفع الله بها ما هو أعظم منها ، والثالثة ماجعل الله فيها من الكفارة لما كنا نتوقاه من سيئات أعمالنا. الصبر هو أن يتصرف المرء مع البلاء مثل تصرفه عند العافية . فالله تعالى ما أخذ شيئا أعطاه للعبد إلا ليصبر فيحبه على ذلك ، ” واللّهُ يحب الصابرين ” (44) ، وإذا أحب الله عبدا إختار له ما هو خير له وما تقتضيه مصلحته ، فعلى العبد أن يرضى بذلك ، وكذلك إذا ما أعطى الله العبد فإن ذلك العطاء هو لأجل الشكر فيجازيه الله تعالى على ذلك الشكر حيث وعد الله: ” وسَنَجزي الشاكِرين ” (45). عن الخباب بن الأرت رضي الله عنه(46) قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو متوسِّد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال: ” قد كانَ من قبلَكُم يُؤخذُ الرجل فيُحفَرَ لَهُ في ألأرضِ فيُجعَلُ فيها ، ثُمّ يؤتى بالمنشارِ فيوضَعَ على رأسِهِ فيُجعلُ نصفين ويُمشَطُ بأمشاطِ الحديد ما دون لحمِهِ وعَظمِهِ ، ما يصّدُهُ ذلك عن دينهِ ، واللّه ليُتِمّنّ اللّهُ هذا الأمر حتّى يسيرَ الراكِبُ من صَنعاءَ إلى حَضرَموت لا يخافُ إلاّ اللّه والذئبَ على غَنَمِه ، ولكنّكم تَستَعجلونَ ” (47). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” ما يُصيبُ المُسلم من وَصَب (الوصب هو المرض) ولا هَمّ ولا حَزَن ولا أذى ولا غَمّ حتى الشوكَةُ يُشاكَها إلاّ كَفّرَ اللّهُ بها من خَطاياهُ ” (48).ـ والصبر التام هو الثبات مع الله وتلقي بلاءَهُ بالرحب والدعة . قال تعالى: ” ياأيُّها الّذينَ آمنوا إصبِروا وصابروا ورابطوا واتّقوا اللّهَ لعلَّكُم تفلحونَ ” (49) فاصبروا بنفوسكم على طاعة الله وصابروا بقلوبكم على البلوى ورابطوا بأسراركم على الشوق إلى الله. فالمؤمن يصبر ويوصي غيره من المؤمنين بالصبر لئلا يكون من الخاسرين: ” والعَصرِ إنّ الإنسانَ لَفي خُسر إلاّ الّذينَ آمَنوا وعَمِلوا الصالِحاتِ وتواصوا بالحَقّ وتواصوا بالصَبرِ ” (50) ، وكان دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حالة السراء: ” الحَمدُ لِلّهِ الّذي بِنِعمَتِه تَتُمّ الصالِحاتُ ” وفي حالة الضراء: ” الحَمدُ لِلّهِ على كُلّ حال ” (51).ـ ـ 9 ـ التوكل عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:” لو توَكّلتُم على الله حَقّ توَكُّلِهِ لَرَزَقَكُم كما يَرزُقُ الطيرَ تَغدو خِماصا وتَروحُ بِطانا ” (الترمذي وقال حديث حسن وصححه الحاكم)(52) معناه تذهب في أول النهار ضامرة البطون من الجوع وتعود آخره ممتلئة البطون . والتشبيه بذهاب الطير بحثا عن قوتها يشير بوضوح إلى أن التوكل على الله حق التوكل هو البحث عن الرزق لا القعود إنتظار أن يأتِ الرزق إلى الإنسان كما يظن ذلك بعض الجهال . وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الأعرابي الذي ترك ناقته بغير عقال ظنا منه أن ذلك هو التوكل على الله فقال له: ” إعقِل وَتوَكّل ” (53). التوكل هو الثقة بما في يد الله واليأس مما في أيدي الناس. قال عبدالله بن المبارك(54): من أخذ فلسا من حرام فليس بمتوكل . وسئل أحد الصالحين(55) عن التوكل فقال: إن كان لك عشرة آلآف درهم وعليك دانق دين لا تأمن أن تموت ويبقى دينك في عنقك ، ولو كان عليك عشرة آلآف درهم دين من غير أن تجد له وفاء لا تيأس من الله تعالى أن يقضيها عنك . فالتوكل على الله يكون بفقدان الثقة بالمال ، فالغني المتوكل يتوكل على الله لا على ماله ، والفقير المعدم يثق بالله ويرجو عنايته ويتوكل عليه ولا يفقد الثقة به بسبب عدم توفر المال لديه. قال اللّه تعالى: ” وتوكّل على الحيّ الّذي لا يموتُ ” (56) وقال أيضا: ” وعلى اللّه فليتوكّل المُؤمنون ” (57) وقال: ” ومَن يتوكّل على اللّه فَهُوَ حَسبُهُ ” (58).ـ وروي أن موسى عليه السلام قال يارب ممن الداء والدواء ؟ فقال تعالى مني ، قال موسى فما يصنع الأطباء ، قال: يأكلون أرزاقهم ويطيبون نفوس عبادي حتى يأتي شفائي أو قضائي. فالمؤمن متوكل على الله آخذ بالأسباب لأن رب الأسباب قد أمره بالأخذ بها لكن قلبه معلق بالله تعالى لا بالأسباب. ـ 10 ـ القناعة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” قد أفلح من أسلَمَ ورُزقَ كفافا وقَنّعَهُ اللّهُ بما آتاهُ ” (رواه مسلم) القناعة متعلقة بالرضا ، فإذا رضي العبد عن ربه قنع بما قسم الله له وقلبه مطمئن مرتاح لذلك . والقناعة تناقض التكالب على الدنيا سعيا وراء متاعها الزائل ، سواء كان حلالا أم حراما . فالمؤمن يقنع بالحلال ولو كان قليلا ، ويمقت الحرام ولو كان كثيرا . وقناعته لا تقعده عن الكسب ولا عن أخذ ما هو صالح من غيره ، لكنها تناقض الحسد لمن آتاه الله رزقا وفيرا ، وتناقض تكليف النفس فوق طاقتها طمعا في المزيد من متاع الدنيا ، وتناقض الكسب مع التفريط بفرائض الله وعبادته. والقناعة يحتاجها الغني والفقير وكذلك يحتاجها من كان رزقه كفافا بين الغنى والفقر ، لأن القناعة في القلب ولا علاقة لها بما في اليد من مال. ومن قنع بما آتاه الله وجد طمأنينة القلب والسعادة ، قال الله تعالى: ” مَن عَمِلَ صالِحا مِن ذَكَر أو أنثى وهو مُؤمن فلنحيينهُ حياة طيبة ” (59). قال كثير من أهل التفسير: الحياة الطيبة في الدنيا هي القناعة . وقيل أيضا في قوله تعالى: ” إن الأبرار لفي نعيم ” (60) هو القناعة ، وفي قوله تعالى ” وإن الفجار لفي جحيم ” (61) هو الحرص في الدنيا. وقد ذم الله تعالى التكاثر في متاع الدنيا وعدّه من الملهيات: ” الهاكُمُ التَكاثُرُ حَتّى زُرتُم المقابِرَ ” (62). وهكذا يفلح من قنع بما آتاه الله تعالى وكان رزقه كفافا على قدر حاجته ، وسطا بين الغنى والفقر ، وهو أفضل من كليهما ، لأن خير الأمور أوسطها ، فرب غني ألهاه غناه عن معرفة ربه ورب فقير شغله فقره وإكتساب قوته عن عبادة ربه. ـ 11 ـ الزهد عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال يا رسول الله دلّني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال: ” إزهد في الدُنيا يحبّكَ اللّهُ وإزهد فيما عند الناسِ يُحبّك الناس ” (إبن ماجه وغيره بأسانيد حسنة)(63) ضرب الله تعالى أمثلة عديدة للدنيا ” كماء أنزلناهُ من السماء فاختَلط به نباتُ الأرضِ ” فأصبَحَ هَشيما تَذروهُ الرياحُ ” (64)ـ ووصفها بأنها لعب ولهو وأنها متاع الغرور(65) وحذر منها ” فلا تغُرّنّكم الحياةُ الدُنيا ” (66).ـ قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: ” كن في الدُنيا كأنكَ غريب أو عابرَ سبيل ” ، وكان إبن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك (67 ـ) قيل في شرح ذلك أن لا يتعلق القلب بالدنيا ، إلاّ كما يتعلق الغريب في غير وطنه حيث لا ينبغي له أن يشتغل بما لا ضرورة له. والدار الآخرة هي وطن المؤمن وليست الدنيا. قال سفيان الثوري(68): الزهد في الدنيا ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباء ولكنه قصر الأمل. يحكى أن شيخا معروفا بالزهد كان يسكن في بغداد ، أتاه أحد تلامذته مستأذنا إياه بالسفر في حاجة إلى الشام ، فقال له إن هناك رجلا صالحا فيها ، فإذهب إليه وأقرئه مني السلام وإطلب منه أن يدعو لي ، فتخيل التلميذ في ذهنه حال ذلك الرجل أن يكون أزهد من شيخه ، فلما ذهب التلميذ إلى الشام ، سأل عن الرجل فأرشد إلى قصر مهيب فعجب أن يكون الرجل المقصود هو صاحب هذا القصر ، ولما أستأذن على الرجل وجده محاطا بالأبهة والخدم ، لكنه وجده متواضعا كريما . فلما أبلغه تحيات الشيخ البغدادي ، سأله ألم يطلب شيئا قال بلى طلب أن تدعو له ، فرفع الرجل يديه إلى السماء وقال: أللهم أخرج حب الدنيا من قلبه. فازداد التلميذ عجبا على عجبه ، ثم ودّعه عائدا إلى بغداد. ولما زار شيخه سأله عن سفره وفيما إذا كان قد لقي الرجل الصالح ، قال نعم ولكنه إستحيى أن يخبره بمضمون دعوته ، فسأله الشيخ وهل طلبت منه أن يدعو لي قال نعم قال فما كانت دعوته قال قال أللهم أخرج حب الدنيا من قلبه ، قال صدق والله يا ولدي ، لايغرنك مظهر الزهد علي ، أترى ما حولي من المتاع ، فنظر التلميذ فلم يجد سوى حصير وإبريق ماء ورأى متاعا باليا لا يكاد يؤبه له ، قال فإن قلبي معلق بهذا المتاع حتى إني لأستيقظ في الليل ألتمس الإبريق خشية أن يكون قد سرق. قال الإمام أحمد بن حنبل: الزهد على ثلاثة أوجه: ترك الحرام وهو زهد العوام ، وترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص ، وترك ما يشغل العبد عن الله وهو زهد العارفين . وقال الفضيل بن عياض: جعل الله الشر كله في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا وجعل الخير كله في بيت واحد وجعل مفتاحه الزهد. وقال الحارث المحاسبي(69): خيار هذه الأمة الذين لا تشغلهم آخرتهم عن دنياهم ولا دنياهم عن آخرتهم ، ولذلك كان الإمام علي رضي الله عنه يقول: إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا . أما الزهد فيما عند الناس فهوعدم الطمع بما في أيديهم ، والقناعة بما قسم الله تعالى من رزق وعدم التكالب على الدنيا بجمع الحلال والحرام والشبهة ، بل تحرّي ما هو حلال خالص وإن كان قليلا وقليل من يفعل ذلك اليوم . وعلى المؤمن أن لا ينظر إلى من هو فوقه في الأمور الدنيوية بل ينظر إلى من هو دونه حتى يزداد شكرا لله تعالى ، ولا ينظر في أمور الآخرة إلاّ إلى من هو فوقه كي يُقتدى بهم فيزداد تقوى(70).ـ ـ 12 ـ الخوف عن أنس رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال: ” عُرِضَت عَليّ الجَنَّةُ والنّار فَلَم أرَ كاليومِ ولو تَعلَمونَ ماأعلَمُ لضَحِكتُم قَليلا ولَبَكيتُم كَثيرا ” ، فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أشد منه ، غطوا رؤسهم ولهم خنين (متفق عليه) الخنين: هو البكاء مع غنة وانتشاق الصوت من الأنف. المؤمن يخاف أن يؤاخذه الله تعالى بأخطائه وتقصيراته ، ولهذا فهو يخاف سوء الخاتمة فهو يدعوه: ” ربّنا لا تُزِغ قُلوبَنا بَعد إذ هَديتَنا وَهَب لَنا مِن لَدُنكَ رَحمَة إنّكَ أنتَ الوَهّابُ ” (71). فخشية الله إذا دخلت قلب المؤمن كانت له رقيبا تنبهه كلما إشتط أو غفل . وقد دعى الله تعالى عباده إلى خشيته فقال: ” وخافوني إن كنتُم مؤمنين ” (72) وقال: ” وإيّايَ فارهبونِ ” (73)ـ ، وكل تلك الخشية مع حسن العمل ، قالت عائشة رضي الله عنها: قلت يا رسول الله ” ألّذينَ يُؤتونَ ما أتوا وقلوبُهُم وجِلَة ” ـ(74) أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر قال: ” لا ولكنّ الرَجُلَ يصومُ ويُصلّي ويتَصَدّق ويَخافُ أن لا يُقبَلَ منهُ ” (75)ـ قال الإمام علي رضي الله عنه: لا تخف إلاّ ذنبك ، ولاترجُ إلاّ ربّك ، ولا يستحي من يسأل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم. فالوجل من الله والخوف منه دليل معرفة العبد بالله وليس دليل سوء السريرة ، خاصة وأن العبد لا يدري ماذا قد كتب الله عليه أن يرى في مستقبل حياته. فكم من امرىء قد عبد الله سنين طوال ثم غوى فصار إلى النار كما يوضح ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إن الرجلَ ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار ، وإنّ الرجلَ ليعمل الزمنَ الطويل بعمل أهل النار ثم يختم عمله بعمل أهل الجنّة ” (76) ، فالمؤمن يخاف من سوءالخاتمة ويدعو الله أن يمنّ عليه بحسن الخاتمة ، لأن الأعمال بخواتيمها . كما يخاف كذلك من الإستدراج ، فحين يرى علامات التوفيق والرخاء والطمأنينة مقبلة عليه ، عليه أن لا يغتر بها ويركن إليها بل عليه أن يكون يقظا على الدوام ، لأن الشيطان يحاول إغواءه كلما فشل في طريق سلك طريقا آخر. والشيطان يسلك مع المؤمن قوي الإيمان سبيلا غير السبيل الذي يسلكه مع ضعيف الإيمان . فالمؤمن الصادق لا يفكر بشرب الخمر ، لذا لا يسلك معه الشيطان سبيل تزيين شرب الخمر ، لكنه يمكن مثلا أن يغويه بالغرور بأنه رجل صالح وقد ضمن دخول الجنة فعليه أن يحافظ على ما هو عليه ولا يبحث عن المزيد من العمل الصالح. إن على المؤمن أن يخاف ذنوبه التي يمكن أن تكون بداياتها بسيطة ، لكنها قد تؤدي إلى غضب الله وعقابه ولا يغتر بسابق أعماله ، فرب زلة واحدة محقت عبادة مدة طويلة ، فهو لا يأمن مكر الله ” فلا يأمَنُ مَكرَ اللّهِ إلاّ القومُ الخاسِرونَ ” (77).ـ ـ 13 ـ الرجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:” جَعَلَ اللّهُ الرَحمَةَ مائة جُزء فأمسَكَ عندَهُ تسعَة وتِسعينَ ، وأنزَلَ في الأرض جُزءا واحدا ، فمِن ذلكَ الجُزءِ يتراحَمُ الخَلائِقُ حَتّى تَرفَعُ الدابّة حافِرَها عن وَلَدِها خَشيةَ أن تُصيبَهُ ” (متفق عليه) لقد خبأ الله تعالى تسعة وتسعين بالمائة من رحمته يرحم بها عباده يوم القيامة . فحسن الظن بالله تعالى مطلوب على الدوام ما لم يتخذ المرء من ذلك ذريعة لكي يستحل المحارم ويرتكب الآثام ، وإذا ما وعظه أحد أو نهاه عن ذلك قال إن الله غفور رحيم . قال الله تعالى: ” قُل يا عِباديَ الّذين اسرفوا على أنفُسِهِم لا تَقنَطوا مِن رَحمَةِ اللّه إنّ اللّه يَغفِرُ الذُنوبَ جَميعا ” (78)ـ. والرجال بحسب أعمالهم ثلاثة: رجُل عمل حسنة فهو يرجو قبولها ، ورجل عمل سيئة ثم تاب فهو يرجو المغفرة ، والثالث الرجل الكاذب يتمادى في الذنوب ويقول أرجو المغفرة. قال أحد أصحاب(79) الإمام مالك بن أنس: دخلنا عليه في العشية التي قبض فيها فقلنا يا أبا عبد الله كيف تجدك ؟ قال ما أدري ما أقول لكم ، غيرأنكم ستعاينون من عفو الله تعالى ما لم يكن لكم في حساب ، ثم ما برحنا حتى أغمضناه رضي الله عنه. وهكذا تكون الثقة بالله تعالى وخاصة في تلك اللحظات . ورؤي مالك بن دينار في المنام فقيل له ما فعل الله بك ؟ فقال قدمت على ربي عزوجل بذنوب كثيرة محاها عني حسن ظني به تعالى. عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ” إنّ اللّهَ تعالى ليضحَكُ من يأس العبادِ وقنوطهم وقرب الرّحمَةِ منهُم ” (80). هذا وإن اليأس من رحمة الله تعالى من أكبر الذنوب ، قال تعالى: ” إنّهُ لا ييأسُ من روح اللّهِ إلاّ القومُ الكافرون ” (81).ـ إن الموازنة بين الخوف والرجاء مطلوبة على الدوام ، فالخوف يردع عن إرتكاب الذنوب والرجاء يشجع الإنسان على التوبة والإقلاع عن الذنوب . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لو نودي يوم القيامة أنه لن يدخل الجنة إلاّ واحد لرجوت أن أكون أنا ، ولو نودي أنه لن يدخل النار إلاّ واحد لخشيت أن أكون أنا . فالمؤمن قبل إرتكاب ذنب يخشىالله ويخافه من سوء العاقبة ، أما إذا ارتكب ذنبا فهو يسرع في التوبة ويرجو أن يغفر الله له ويلح في الدعاء ويوقن بالإجابة ويجعل الذنب نصب عينيه يستغفر الله منه كلما تذكره ويرجو رحمة ربه فإنها قريب من المحسنين. | |
|
| |
ملك روحي مراقبة عامة
العمر : 47
| موضوع: الباب الثاني الإستقامة في الاصول الخميس ديسمبر 02, 2010 7:46 am | |
| ـ 14 ـ التمسك بكتاب الله
عن أبي موسى الغافقي قال إن آخر ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ” عَليكُم بِكِتابِ اللّه ، وسَتَرجِعونَ إلى قوم يُحِبّون الحديثَ عنّي ، فمَن قال ما لَم أقُل فلِيتَبَوّأ مَقعَدَهُ مِنَ النارِ، وَمَن حَفِظَ عَنّي شيئا فلِيُحَدّثهُ”ـ (رواه أحمد)
كان من آخر ما أوصى به رسول الله أصحابه التمسك بكتاب الله تعالى ففيه خبر الأمم السالفة وفيه التحذير من غوائل ما سيقع وفيه حكم ما بيننا وفيه الترغيب والترهيب وفيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق وفيه الأحكام لكل الأزمنة والأمكنة فهو كلام رب العالمين الذي يعلم ما يصلح للناس في دنياهم وأخراهم . فالقرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي وإليه يرجع المسلمون كلما أشكل عليهم أمر من أمور دنياهم أو أخراهم . والمؤمن ينظر إلى القرآن صاحبا ومؤنسا ، يقرأه على الدوام ويتفكر في عبره وأمثاله ويتعلم فقهه وأحكامه ويطبق أوامره ويجتنب نواهيه وهو باق كما أنزله الله على نبيه لأن الله تعالى تعهد بحفظه: ” إنّا نحنُ نَزَّلنا الذِكرَ وإنّا لَهُ لَحافِظونَ ” (1).ـ
إن من القرآن ما هو واضح المعنى لكل من يفهم اللغة العربية من عامة الناس وعلمائهم . فالمؤمن الذي يتكلم العربية مهما كان مستوى علمه يستطيع أن يفهم من آيات القرآن بعض أحكامها فيطيع الأوامر وينتهي عن النواهي . ومن الآيات ما يجب الرجوع فيه إلى التفاسير المعتمدة وإلى أولي العلم لفهم المعنى أو الأحكام المبنية على تلك الآيات . والمؤمن بالإضافة إلى ذلك يعتني بالقرآن ظاهريا كتطبيق قواعد التجويد عند تلاوته. ويزداد علما فيما يخدم فهم القرآن من علوم اللغة العربية وعلم القراآت . فالقرآن حبل الله الممدود بين الله وعباده ومن أحب الله بصدق ، أحب كتابه وإحترمه إحتراما عميقا يفوق بكثير إحترام أي كتاب آخر ، ثم تظهر آثار هذا الإحترام بشكل عملي واضح على أعماله وتصرفاته وأخلاقه ومعاملته ، وذلك ركن عظيم من أركان الإستقامة في المنهج الذي على المؤمن أن يتخذه ويسير عليه.
ـ 15 ـ إتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ـ” كُل أمتي يَدخُلونَ الجَنّة إلاّ مَن أبى ” ، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: ” من أطاعَني دَخَل الجنّة ، ومن عصاني فَقَد أبى ” ـ
(رواه البخاري)
إتباع السنة الذي يشير إليه هذا الحديث ، ثابت بالقرآن: ” قُل إن كُنتُم تُحِبّون الله فاتّبعوني يُحببكُم اللّهُ ويغفِر لكُم ذُنوبَكُم ”،(2 ” ومَن يُشاقِق الرَسولَ من بعد ما تبيّن لهُ الهُدى ويَتّبِع غيرَ سبيلِ المؤمِنينَ نوَلّهِ ما تولّى ونُصلِهِ جَهَنّمَ وساءَت مصيرا ” ـ(3)ـ. فالسنة مفسرة لأحكام القرآن ، وتتضمن فروضا غير مبينة بالقرآن لا يمكن الأستغناء عنها ، ولا يجادل لتقليل أهميتها إلاّ منافق أو كافر. وعلى المسلم أن يتعلم السنة المطهرة لأنها تفصِّل ما ورد مجملا في القرآن وتبين التطبيق العملي للأحكام والأخلاق. فهي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي.
والمسلم يهرع إلى رسول الله مستفتيا سنته كلما طرأ له أمر ذي بال إذ أن حياته المعنوية قائمة بين المسلمين متمثلة بكتب السنة . وعليه أن يرضى بعد ذلك بحكم رسول الله الوارد في سنته. وهو إن لم يفعل ذلك فهو بحاجة إلى تجديد إيمانه ، قال الله تعالى: ” فلا وربّكَ لا يُؤمِنون حتّى يُحَكِّموك فيما شَجَرَ بينَهُم ثُمّ لا يجدوا في أنفُسِهِم حَرَجا مِمّا قَضيتَ ويُسَلِّموا تَسليما ” ـ(4)ـ.
ويتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحكم سنة خلفائه من بعده ، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: ” عَليكُم بِسُنَّتي وَسُنَّةِ الخُلَفاءِ الراشِدينَ المَهديينَ مِن بَعدي عَضّوا عَليها بالنواجِذِ ” (5) ، فما ورد من تفسير أو حكم أو قضاء عن الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم ، هو مفسر للسنة ومقدم على إجتهاد من جاء بعدهم ، إلاّ إذا تغيرت الظروف واحتاج المسلمون إلى إجتهاد جديد.
وعلى المسلم أن يتعلم الحديث ويحفظ ما تيسر منه ويعمل بما تعلَّم ويعلِّمه غيره ويعتبره دليل عمل تفصيلي بعد القرآن . وإذا سمع أو قرأ الأمر والنهي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فليس له أن يقَدِّم على ذلك رأيا لنفسه أو لأحد من البشر كائنا من كان ، إلاّ أن يعلم حديثا آخر يخصص الأمر أو أكثر إنطباقا على تلك الواقعة . وعلى هذا النهج سار الأئمة المجتهدون رضوان الله عليهم كافة ، فكلهم ورد عنهم أنه إن صح الحديث أخذوا به ولم يقدموا عليه رأيا لهم أو إجتهادا لبشر يخطئ ويصيب . لكن هناك حالات دقيقة من علل في بعض الأحاديث أو إنقطاع سند أو ضعف أو معنى خفي لا يدركه إلاّ المختصون من العلماء ، وهذا هو صلب الفقه. فإن اؤتي المرء قسطا من هذا العلم توصل بنفسه إلى المنهل الصافي وإلاّ أخذ عن الفقهاء ما قرروه من فهم.
ـ 16 ـ الإجتهاد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بعثه إلى اليمن قال له: ” كيفَ تَقضي؟ ” قال أقضي بكتاب الله ، قال ” فإن لم يكُن في كِتابِ اللّه؟ ” قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: ” فإن لَم يَكُن في سُنّة رسول اللّه ” قال أجتهد رأيي ولا آلو ، قال: ” الحَمدُ للّه الذي وَفّقَ رسولَ رسولِ اللّهِ لما يُرضي رسولَهُ ”
(رواه الامام أحمد)
المؤمن قد سَلّم أموره كُلّها بيد الله فما هو إلا عبد ضعيف أمام عظمة الله الواحد الأحد ، فهو يتلقى التشريع من الله ورسوله ، ولا يفضل عليهما لا رأيا إستحسنه عقله ولا فكرة لاقت هوى في نفسه إبتغاء مصلحة دنيوية زائلة ما دامت لا تتفق مع أوامر الله غز وجل أو أوامر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم . أما إذا كان الامر غير وارد في الكتاب وفي السنة المطهرة بعد البحث والإستقصاء ممن إستكمل متطلبات الإجتهاد من علم وتقوى ، فباب الإجتهاد واسع. والفهم من الكتاب والسنة متفاوت بين العلماء ” وفوقَ كُلّ ذي عِلم عَليم ” (6) فالفهم الإجتهادي يحتاج إلى تقوى وصدق مع الله تعالى . ولا يظنن ظان أن هذا الحديث مقتصر على القضاء بين الناس أو المسائل العويصة في الفقه ، فكل مسلم يمارس في حياته اليومية أمورا تفاصيلها غير وارد في الكتاب أو السنة وهو يقرر فيها حسب رأيه ، وهو نوع من الإجتهاد وهو إجتهاد شرعي إن كان مستندا إلى الكتاب والسنة وهو مثاب عليه إن كانت نيته صادقة . فحينما تمر بالمسلم واقعة يحتاج فيها إلى قرار سواء كان ذلك في أمر من أمور الدين أو الدنيا فإنه يبحث سريعا بنفسه أو بسؤال العلماء الأتقياء هل في ذلك الأمر حكم في القرآن فإن لم يجد ففي السنة ، فإن لم يجد إجتهد رأيه بما آتاه الله تعالى من عقل وإستنباط بأفضل ما يستطيع قياسا على ما يعلم مما ورد في الكتاب والسنة ثم يتكل بعد ذلك على الله تعالى وينفذ ذلك.
لقد فصّل الفقهاء المجتهدون في أصول الفقه ووضعوا لهذه الأمة تراثا فقهيا تباهي به الأمم بحق. ولهذه ألأصول الثلاثة (الكتاب والسنة والإجتهاد) ترجع الأصول الأخرى ، رغم كونها تعتبر أحيانا أصولا مستقلة . فالقياس ما هو إلا نوع من الإجتهاد وعمل أهل المدينة (عند الإمام مالك) ما هو إلا سُنة (لقرب عهده من زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم)ـ ، والإجماع هو أعلى درجات الإجتهاد لأنه إجتهاد مجتهدي الأمة مجتمعين . وهكذا تجد أصول هذا الدين راسخة وواضحة في الوقت عينه ، وما على المسلمين سوى الأخذ من هذا المعين الصافي ، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: ” تركتُكُم على المِحَجّة البيضاء ليلُها كنهارِها ، لا يضل عنا إلاّ زائغ ” (7).ـ
ـ 17 ـ إلتزام الجماعة عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يُدركني ، فقلت يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ” نَعَم ” ، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير ، قال: ” نَعَم وفيه دَخَن ” ، قلتُ: وما دخنه؟ قال: ” قوم يَهدونَ بِغيرِ هَديي ، تعرِفُ وَتُنكِرُ ” ، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ” نَعَم ، دُعاة على أبواب جهنم ، مَن أجابَهُم إليها قذفوهُ فيها ” ، قل يا رسول الله صِفهُم لنا ، قال: ” هُم مِن جِلدَتِنا ويَتَكَلَّمون بألسِنَتِنا ” ، قلت: فما تأمُرني إن أدركني ذلك ، قال: ” تلزم جماعة المُسلِمين وإمامَهم ” ، قلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام ، قال: ” فاعتزل تلك الفِرَق كُلّها ، ولو أن تَعَضّ بأصلِ شَجَرة حتى يُدرِكَكَ الموتُ وأنتَ على ذلك ”
(رواه الثلاثة)
قال الله تعالى: ” وتَعاوَنوا عَلى البِرِّ والتَقوى ولا تعاوَنوا على الإثمِ والعُدوانِ ” (8) ولا بد للمسلم أن يتعاون مع غيره من المسلمين في أعمال الخير. أما المنفرد عن جماعة المسلمين حتى ولو كان على علم وتقوى ، فلا يستطيع أن يقوم لا بأمور دينه ولا بأمور دنياه كما يجب . فمثلا الصلاة جماعة أفضل بمرات كثيرة من صلاة المنفرد(9) ، ومن الصلاة ما لا يؤدى إلاّ جماعة ، كصلاة الجمعة . وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: ” يَدُ اللّه على الجَماعةِ وَإنّما تأكُلُ الذئبُ من الغَنَمِ القاصية ” (10) ، فمن إبتعد عن جماعة المسلمين كان فريسة للأفكار الشاذة أو الغلوّ في الدين أو الضلال.
هذا الحديث الشريف لا يكتفي بوصف الداء الذي تنبأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوقوعه بين المسلمين ووقع فعلا بعد وفاته بأزمنة طويلة ، بل يصف الدواء وما على المؤمن أن يفعله في تلك الظروف. فإعتزال الفرق المخالفة لما أنزل الله فريضة حتى ولو إتبع تلك الفرق أكثر الناس ، فليس الحقّ دائما مع الكثرة ، قال الله تعالى: ” وما أكثر الناس ولو حَرَصتَ بِمُؤمنينَ ” (11). والعلاج في حالة عدم وجود جماعة للمسلمين ، وهي حالة من الحالات الشاذة ، هو ليس متابعة الأكثرية الخاطئة ، بل الإعتزال لتلك الفرق الضالّة جميعها . وقد يقول قائل وكيف للإنسان أن يعيش منفردا ومن أين سيكتسب قوته؟ والجواب هو أن المسلم لم يؤمر بمقاطعة الناس ولا المعيشة في الصحاري والقفار ، ولكنه إعتزال الناس في كل ما يسخط الله تعالى ومصاحبتهم في أمور معيشته ودنياه مصاحبة لا تؤثر على أمور دينه. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته رضوان الله عليهم عاشوا أكثر من عشر سنين في مكة قبل الهجرة وهم معتزلون للكفر وأهله رغم أن بعضهم كان يأكل ويشرب في بيتٍ كل من حولهم فيه من الكافرين بل والمغالين في كفرهم وإيذائهم للمسلمين.
وثمة أمر آخر ، هو إجماع الأمة ، فالأمة الإسلامية لا تجتمع إلاّ على الخير والصلاح(12) ، ولذلك فكلما وجد المسلم الأمة قد إجتمعت على أمر من أمور الدين أو الدنيا فعليه التمسكَ به ، ويتمثل إجماع الأمة بصفوة علمائها أوالصالحين من رؤسائها وأمرائها . قال الله تعالى : ” يا أيّها الذين آمَنوا أطيعوا اللّهَ وأطيعوا الرَسولَ وأولي الأمر منكُم ” (13) ، وأولي الأمر هم العلماء والأمراء وإجماع العلماء قد حصل في أمور فقهية وإجتهادية عديدة في السابق فكيف بهم اليوم وقد تقدمت وسائل الإتصال كثيرا . وقد توعد الله من يخالف جماعة المسلمين بقوله تعالى: ” ومَن يشاقِق الرَسولَ مِن بَعدِ ما تَبيَّنَ لَهُ الهُدى ويَتّبِع غيرَ سَبيلِ المُؤمِنين نُوَلِّهِ ما توَلّى ونُصلِهِ جَهَنَّمَ وساءَت مَصيرا ” (14).ـ
ـ 18 ـ عدم إطاعة مخلوق في معصية الخالق عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” لا طاعةَ لِمَخلوق في مَعصِيَةِ اللّهِ تباركَ وتعالى ”
(رواه مسلم والنسائي وأبو داود وابن ماجه وأحمد واللفظ له)
أعطى الله تعالى المثال الواضح والواقعي لعدم إطاعة أوامر الناس إن كانت مخالفة لأوامر الله تعالى ، حتى ولو كان الآمر أقرب الناس ، كالوالدين: ” وإن جاهداكَ على أن تُشرِكَ بي ما ليس لَكَ بِهِ عِلم فلا تُطِعهُما ، وصاحِبهُما في الدُنيا معروفا ”(15).ـ وما قصة الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه مع أمه ببعيدة ، حيث حلفت أن لا تأكل أو تشرب حتى يترك دينه ، فقال لها قولة الحق. فالمؤمن يؤدي : لو كانت لك مائة نفس ونفس فخرجت واحدة بعد الأخرى ، ما تركت ذلك حقوق الناس مؤمنهم وكافرهم ويداري سفهاءهم لكنه لا يطيعهم فيما ليس لله فيه رضا ولا يداهن على حساب دينه. ويستثنى من ذلك الإكراه الذي هو موضوع الحديث الآتي.
وفي كتاب الله محاورة بين أهل جهنم ، السادة المطاعون والأتباع: ” قالَ ادخُلوا في أمم قَد خَلَت مِن قَبلِكُم مِن الجِنّ والإنسِ في النّارِ كُلَّما دَخَلَت أُمة لَعَنَت أختَها حَتّى إذا ادّارَكوا فيها جَميعا قالَت أُخراهُم لأولاهُم رَبَّنا هؤلاء أضَلّونا فآتِهِم عَذابا ضِعفا مِن النّارِ ، قال لِكُل ضِعف ولكن لا تعلمون . وقالَت أولاهُم لأخراهُم فَما كانَ لَكُم عَلينا مِن فَضل فذوقوا العَذابَ بِما كُنتُم تَكسِبونَ ” ـ(16).ـ
وعلى هذا فإن الطريق إلى رضوان الله واضحة جلية هي في طاعة أوامره لأنه هو الإله. أما البشر الذين يأمرون وينهون ، حتى لو تجبروا وطغوا وأخافوا الناس وأرهبوهم فهم زائلون ولا طاعة لهم إن كانت أوامرهم مخالفة لأوامر الله تعالى.
ـ 19 ـ تقدير الرخص بقدرها عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إن اللّهَ تَجاوَزَ عَن أمّتي الخَطأُ والنِسيانُ وما إستُكرِهوا عليه ” .
(رواه إبن ماجه والطبراني عن إبن عباس وثوبان)
المسلم يدعو ربه: ” ربّنا لا تؤاخِذنا إن نَسينا أو أخطأنا ” (17) فيستجيب الله تعالى للصادقين في دعائهم . فقد جبل إبن آدم على النسيان: ” ولَقد عَهِدنا إلى آدمَ مِن قَبلُ فنَسيَ ولَم نَجِد لهُ عَزما ” (18). أما الإصرار على الخطإ فهو ذنب مستقل لا علاقة له بالخطا . قال الله تعالى في مدح المؤمنين: ” إنّ الّذينَ اتَّقوا إذا مسَّهُم طائِف من الشيطانِ تَذَكّروا فإذا هُم مبصِرون ” ـ(19)ـ وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ” كُلّ إبن آدمَ خطّاء ، وَخيرُ الخَطّائين التوابونَ ” (.2).ـ
أما الإكراه ، فيقدر بحسب الظروف. قال الله تعالى: ” إلاّ مَن أُكرِهَ وقَلبُهُ مُطمَئِن بالإيمانِ ” (21). وقد يتوسّع بعض المسلمين في تعدّي حدود ما يدخل تحت حكم الإكراه ، فتراهم يقولون عند إرتكاب بعض الآثام أنهم مجبرون في حين أنه ليس هناك من أجبرهم حقيقة . إن من الإكراه ما هو بدني وما هو معنوي ، فحد الإكراه البدني يعتمد على قابلية المرء البدنية لتحمل ذلك . قيل أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان نحيف البنية قصير القامة جدا ، فكان يقول لو أكرهني شخص بضربي سوطين أو أقول ما يريد مني قوله ، لقلت مثل ما أراد. أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان قوي البنية يخافه الشجعان ، لذلك وبخلاف معظم الصحابة الذين هاجروا من مكة إلى المدينة سرا ، وقف عمر بعد أن طاف حول الكعبة سبعا وعلى ملأ من سادة قريش قال: إنني مهاجر عند الصباح ، فمن أراد أن تثكله أمه فليلحق بي ببطن وادي كذا . فالإكراه الذي إضطر المهاجرين إلى التخفي والهجرة سرا لم يكن إكراها كافيا لعمر بحيث يتبع الأسلوب نفسه. وأساس التقية هو هذا . قال الله تعالى: ” إلاّ أن تتّقوا منهُم تُقاة ” (22) فإتقاء أذى المتجبرين والطاغين خوفا من بطشهم جائز لضعفاء المسلمين كرخصة ، لكن التوسع في التقية بحيث يعيش المرء بوجهين ، وجه مع من يأمنهم ، ووجه مع من يخافهم ولو خوفا بسيطا هو إستخدام للرخصة الخاصة في غير موضعها وقد يؤدي ذلك إلى إقتراب المسلم من تصرف المنافقين والعياذ بالله. ومثال الإكراه المعنوي التعذيب النفسي والإهانات على ملأ من الناس ، وهي مختلفة الوطأة بين الناس بحسب أحوالهم أيضا . أما الأخذ بالعزيمة وعدم الخضوع للإكراه مهما كانت النتائج من أذى دنيوي فهو دأب المجاهدين الصادقين السابقين بالخيرات . قال صلى الله عليه وآله وسلم: ” سيد الشُهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ” (23).ـ
ولقد أجمل الإمام الشافعي النتائج المترتبة على الإكراه بقاعدة فقهية في غاية الإيجاز وتنطبق في حالات الإكراه والمشقة والمرض والضعف وغيرها ، وهي: -كلما ضاق الأمر اتسع- ، فكلما إستجدت ظروف صعبة طارئة أو جديدة تستدعي معالجة على غير العادة ، كلما كانت الشريعة سمحة بحيث تزداد الحدود التي بإمكان المسلم أن يتحرك فيها ويكون معذورا على ذلك ، وينطبق هذا الأمر على الإكراه وعلى المشاق والظروف الطارئة الأخرى . ويستطيع إدراك ذلك من أوتي نصيبا من فهم كتاب الله وسنة رسوله وحظا من الفقه وعند ذلك يمكن أن يفتي لغيره من الناس.
ـ 20 ـ التيسير للمسلمين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” يَسِّروا ولا تُعَسِّروا وبَشِّروا ولا تنَفّروا ”
(رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي)
الدين يسر ، قال تعالى : ” وما جَعَلَ عَليكُم في الدّين من حَرَج ” (24) ، ولذلك شرع الله بجانب الأحكام الأصلية ، أحكاما مخففة للتيسير في الظروف الطارئة ، كقصر الصلاة في السفر والإفطار في رمضان للمريض والمسافر والتيمم لمن لم يجد الماء ، وغير ذلك.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب التيسير ، (وما خُيِّر بين أمرين إلاّ إختار أيسَرَهُما ما لم يكن إثما)(25). و كان سهلا إذا باع ، سهلا إذا إشترى ، سهلا إذا قضى ، سهلا إذا إقتضى (26). وأمرهُ صلى الله عليه أمته بالتيسير في هذا الحديث ، وسيلة تربوية فائقة في هذا الدين إختطّت في القرآن الكريم في منهج يقضي بتدرج الأحكام . وهذا الأسلوب هو ما يجب على المسلم إتباعه في تربية الأطفال ، حيث يجب التيسير ، كلما كان ذلك ممكنا . والأسلوب نفسه يجب إتباعه مع قريبي العهد بالإسلام أو أصحاب الأعذار والحرف الشاقة . فالرخصة ما شُرِعت إلا رأفة من الله بعباده ، فليس لله حاجة في تحمل المرء مشقة لا يطيقها فليس هناك عبادة مقصودها المشقة والحرج . إلاّ أن ذلك لا يعني إتباع الرخص في محلِّها وغير محلها . فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقوم بالليل حتى تورمت قدماه ، ولو إعتمد على إخبار الله له بغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر كعذر لترك قيام الليل لما قامه. وهنا يخطئ بعض الناس في الإستفسار عن مسألة معينة في المذاهب الفقهية المختلفة لكي يأخذوا بأيسرها على الدوام معتبرين أن ذلك هو المقصود من الأمر بالتيسير ، متناسين الظروف المحيطة بتلك الرخصة والحدود المسموح بها وعلاقتها مع غيرها من الأحكام . لذلك فالتيسير ليس معناه التحايل على الأحكام باتباع البدائل السهلة على الدوام ، وإنما أعتبار الحكم المرخص به حكما يجوز الأخذ به إن كان هناك عسر أو مشقة أو ضيق في الوقت أو إكراه أو ما شابه ذلك.
من الأمثلة الواضحة على التيسير أن لايطيل الإمام القراءة إن كان بين المصلين شيوخ أو مرضى أو أصحاب حاجات . ولكن له أن يطيل صلاته في جوف الليل . فالصلاة بقدر تحمل أضعف الناس بين الجماعة هي الصلاة الأفضل . وكذلك تتحدد سرعة مشي الركب بسرعة أضعف القوم ، لذلك قيل قائد الركب أضعفهم.
إن خير الأمور أوسطها . فالأخذ بالعزيمة لمن لا يستطيعها يولد نفورا وكرها للدين! والأخذ بالرخص لمن أوتي قوة وقابلية يولد فتورا وضعفا في الأيمان . وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتفرس في وجه السائل فيجيبه أو ينصحه بحسب طاقته ، فيجيب الضعيف غير ما يجيب القوي ، ويجيب حديث العهد بالإسلام غير ما يجيب السابقين الأولين . إن للشطط والغلو مظاهر عديدة ، منها التناوب بين فترات الفتور في العبادة والغلو فيها فترى المرء تاركا للصلاة مسرفا على نفسه حتى إذا جاء رمضان لزم المسجد وهجر الناس أو عبد الله بغير ما فرض الله تعالى أو سن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كصيام زكريا أو صلاة مائة ركعة في يوم مخصوص ، فإذا ما خرج رمضان أو ملّ من العبادة التي فرضها على نفسه عاد لسابق عهده ، فترك فرائض الله وسنن رسوله وتلك هي الغواية.
إن في العبّاد المتعصبين عن غير علم من أفراد الأمة شبه بالنصارى الذين ابتدعوا الرهبانية التى لم يكتبها الله عليهم ، أما ذوي العلم غير المتقين من هذه الأمة ففيهم شبه باليهود ألذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وضرب الله مثلهم: ” كمثل الحمار يحمل أسفارا ” (27). والمؤمن يدعو الله تعالى أن لا يكون من هؤلاء ولا من هؤلاء: ” إهدِنا الصِراطَ المُستَقيمَ صراطَ الّذينَ أنعَمتَ عَليهِم غيرِ المَغضوبِ عَليهِم ولا الضّالينَ ” (28). وفي السنة العديد من الأمثلة على الحث على تخير أوسط الأمور والنهي عن التعصب والغلو. فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ” هلَكَ المُتَنَطِّعونَ ” (29) قالها ثلاثا ، والمتنطعون هم المتشددون في غير موضع التشديد.
ـ 21 ـ عدم إتباع الأغلبية المسيئة
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” لا تَكونوا إمَّعَة تَقولوا إن أحسَنَ النَّاسُ أحسَنّا وإن ظَلَموا ظَلَمنا ولكن وَطِّنوا أنفُسَكُم إن أحسَنَ النّاسُ أن تُحسِنوا وإن أساؤوا أن لا تَظلِموا ”
(رواه الترمذي وقال حديث حسن)
الإمعّة هو الذي لا رأي له فهو يتابع الأكثرية أو كل أحد سواه والمؤمن قوي في إيمانه ، فهو يستحي من الله لكن ليس من الحياء متابعة الناس في الشر. ويعتمد ذلك على عمق الإيمان ، فالمؤمن القوي الإيمان لا يتابع على الباطل أحدا ولو خالف الناس كلهم وحده ، أما من كان أضعف من ذلك فربما جامل الناس ، وعليه عند ذلك أن يتهم إيمانه ، ويستغفر ربه ويتوب إليه.
إن المؤمن قائد في طريق الحق وهو متبوع بالحق غير تابع للباطل . وطريق الإستقامة يحتم عليه أن يميز بين الحق والباطل ، ويفرض شخصيته التي قوامها العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويخالف من خالفهما ولا يخاف في الله لومة لائم . فكم من سنة أميتت أحياها الله على يد فرد مسلم واحد بإصراره على مخالفة كل من كان حوله. وكم من عمل صالح مستمر الفائدة كان أساسه ثبات رجل واحد. لا شك بأن مخالفة الغالبية قد تسبب للمرء صعوبات قد لا يلقاها غيره ، لكن ذلك من الجهاد إن كانت النية خالصة لله ، لا لحب الظهور جريا على قاعدة -خالف تُعرف-. فمن خالف لكي يعرف فهو مرائي كما سيمر بنا . وعلى المؤمن أن يتحمل ما يحصل له من أذى في سبيل الله ، إلاّ أن عليه أن يعرف قدر نفسه فلا يغالي فيشتَط في المخالفة في أمور ليست ذات بال بحيث يرتكب آثاما أكبر من الطاعة التي قام بها ، فكل ما زاد عن حدّه إنقلب إلى ضده . أما في الأمور ذات العلاقة بالمبادئ الأساسية فعلى المؤمن أن يكون على أشد الصلابة ، ولتكن له في رسول الله أسوة حسنة حين ساومه الكفار على التخلي عن دعوته فقال قولته المشهورة لعمه أبي طالب: ” واللّه يا عَمّ ، لو وضعوا الشَمسَ في يَميني والقَمرَ في يَساري على أن أترُك هذا الأمرَ ما تَرَكتُهُ حتى يُظهِرَهُ اللّهُ أو أهلِكَ دونَهُ ” (30).ـ
ـ 22 ـ إجتناب البدع عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” مَن أحدَثَ في أمرِنا هذا ما ليسَ منهُ فهو ردٌ ” .
(متفق عليه)
قال الله تعالى: ” اليومَ أكمَلتُ لَكُم دينَكُم وأتمَمتُ عَليكُم نِعمَتي وَرَضيتُ لَكُم الإسلامَ دينا ” (31). وهكذا فإن دين الله تعالى قد إكتمل قبيل وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو ليس بحاجة إلى إضافة أو تعديل لأن الإضافة تحتاجها المبادئ الناقصة من صنع بني آدم . أما دين الله فقد إحتوى ما يحتاجه بنو آدم إلى يوم القيامة.
لقد أشكل هذا الحديث وغيره من الأحاديث حول البدع على بعض العلماء ، حيث وجدوا أن الأمم الأخرى لديها علوم لم يكن المسلمون على معرفة بها ، ولئلا يدخل إقتباس العلوم تحت طائلة النهي عن الإحداث في الدين ، قالوا إن البدع تدخل في العبادات فقط. أما في غير العبادات فالإحداث جائز. والحق أن الدين (أو ما ورد في هذا الحديث من لفظة: أمرنا هذا) يشمل العبادات والعادات والمعاملات والعقائد وكل شؤون الحياة . فالمسلم يدعو ربه في كل صلاة: ” إنّ صلاتي ونُسُكي وَمَحيايَ وَمَماتي للّهِ رَبّ العالمين ” ولا فرق بين الصلاة وبين اكتساب الرزق والعمل أو الراحة ، فما دام كل ذلك من الحياة فهو لله. أما إقتباس العلوم من الأمم الأخرى فهو ليس من ألإحداث في الدين بل هو من الأمور التي حث عليها الشرع وإعتبرها من فروض الكفايات . وقد أوضح ذلك بعض العلماء بتقسيم الأمور المحدثة إلى أقسام متباينة ، فمن ألأمور المستجدة ما هو فرض ومنها ما هو مستحب ومنها ما هو جائز ومنها ما هو مكروه ومنها ما هو حرام(32). والبدع المشار إليها هنا بلفظ الإحداث في الدين ما ليس منه: ما يقع تحت المكروه أو الحرام كتقليد الأجانب في ما ورد الشرع بخلافه وإستحداث تقاليد جديدة مخالفة للشرع مستندة إلى أسس عصبية أو عنصرية أو طائفية ما أنزل الله بها من سلطان.
إن إستقراء الأوامر التي وردت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم تعطي الفقيه بل وأحيانا المؤمن التقي الذي لديه قسط من العلم ، المقدرة على التمييز بين ما يتفق مع الدين وما يخالفه من الأمور المحدثة وذلك في مختلف جوانب الحياة من معاملات وعادات . أما حينما يتعلق الأمر بجانب العبادات ، فمن العبادات ما هو توقيفي بدقائقه. فليس لأحد أن يبتدع صلاة سادسة في اليوم والليلة ، وليس له أن يزيد عليها ركعة واحدة . لكن باب التطوع والنوافل في العبادات واسع أيضا ، وللمرء أن يختار ضمن الحدود المسموح بها شرط عدم الغلو أو التقصير أو تقليد غير المسلمين في كل ذلك . وهكذا يصبح حديث النهي عن البدع هذا وغيره مساعدا للمسلم على المزيد من البحث في خصائص هذا الدين ضمن مفهوم -في أمرنا هذا- وليس عاملا للجمود على النصوص الحرفية وعدم الأخذ من صالح ما يفرزه تقدم الأمم الأخرى ، بشرط واحد فقط هو عرض كل جديد على الكتاب والسنة بعقل مفتوح ، فإن اتفق معهما أخذه وإن خالفهما طرحه عرض الحائط.
والبدع عدو لدود للسنة ، فكلما انتشرت بدعة أميتت سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لأن كتاب الله وسنة رسوله شاملان لكل جوانب الحياة . فلا تظهر بدعة مخالفة لهما إلاّ وينقص من تطبيق السنة ما يقابلها . لذلك فمحاربة البدع هو إحياء للسنة ، وكذلك فإن نشر السنة هو محاربة للبدع.
ـ 23 ـ مخالفة أهل الباطل عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” خالفوا المشركينَ أحفوا الشواربَ وأوفروا اللّحى ”
(رواه البيهقي)(33)
إن دين الله الحق دين كامل ، فهو ليس بحاجة إلى الأضافة . والأمة تستمد تعاليم دينها من كتاب الله وهدي نبيه عليه وعلى آله الصلاة والسلام . وهي أمة مستقلة تعتز بشخصيتها وإستقلالها ولا ترضى أن تذوب في أهواء غيرها من الأمم . لذلك فلا يرضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يكون المسلمون تبعا لغيرهم يقلدونهم في كل صغيرة وكبيرة . وبناء على هذا سنّ مخالفتهم في عاداتهم ، وإحتفالاتهم و مظهرهم وعباداتهم . فحين قدم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء. ولما علم أن صيامهم هو في ذكرى نجاة موسى عليه السلام من فرعون ، سن صيام عاشوراء ، وقال: ” أنا أحق بِموسى منكُم ” (34) لكنه سنّ صيام يوم قبله أو يوم بعده. مخالفة لهم وتميزا عليهم ، وبذلك يكون هذا الحديث مكملا ومفسرا لحديث النهي عن البدع الذي سبق. وقد قص القرآن الكريم في عشرات الآيات الأفعال السيئة لبني إسرائيل محذرا من فعل ما يشابهها من قبل هذه الأمة.
والحديث يشير في شقه الثاني إلى مثال واحد على مخالفة المشركين ، ألا وهو إعفاء اللحى وإحفاء الشوارب (أي تحديد حافتها بحيث لا يتدلى منها شيء على الشفة العليا). وسنة مخالفة المشركين سنة عامة بمخالفة كل الفرق والمذاهب المخالفة للإسلام وأهل البدع والأفكار المنحرفة والضالة ، للتمايز عنهم ووضع حد فاصل بين المؤمنين الصالحين وبينهم لئلا يلتبس الحق بالباطل على من ليس لديه علم واسع من عامة الناس.أما إذا كان غير المسلمين على حق في أمر ما أو كان لديهم من العلم والمعرفة ما نحتاج فالإقتباس مطلوب شرعا دون أدنى حرج وليس أدل على ذلك من إستعمال النقود الرومانية والفارسية على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لحين سك النقود الإسلامية في زمن عبد الملك بن مروان . ولم يجد أحد منهم ضيرا في ذلك ، وحينما سُكَّت النقود طبعت بالطابع الإسلامي المتميز وبذلك تمت مخالفة نهج الكفار من الفرس والروم.
ـ 24 ـ إتقان العمل عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” إن اللّه يُحبُّ إذا عَمِلَ أحَدَكُم عملا أن يُتقِنَهُ ”
(رواه البيهقي في شعب الإيمان)
إتقان العمل هو عبادة مستقلة عن العمل . فأنت تعمل العمل من أمور الأخرة أو الدنيا مما ليس فيه معصية لله تعالى بنية صالحة فتثاب على ذلك لأن ذلك عبادة . فإن أتيت بذلك العمل على أكمل وجه كان ذلك عملا إضافيا له أجره المستقل ، وهو ما يحبه الله تعالى . فقد خلق الله تعالى ” الإنسان في أحسن تقويم ” (35) وهو ” الذي أحسنَ كل شيء خَلَقَهُ ” (36)ـ. وكذلك يريد لعباده إتقان الأعمال.
إن المسلمين اليوم كثيرا ما يعملون العمل فلا يتقنونه ، وهذا هو أحد أسباب تأخرهم ، في الوقت الذي أخذت الأمم الأخرى باتقان العمل الدنيوي فتقدمت . وإتقان العمل هو غير الحرص على الدنيا الذي نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسسلم عنه في أحاديث أخرى(37). فالمؤمن يتقن العمل إبتغاء وجه الله وهو يعيش في الدنيا وقد أفرغ قلبه من التعلق بها وبمباهجها والحرص عليها . ومن أتقن العمل لقي الجزاء ، وأقل الجزاء هو الجزاء الدنيوي.
فالمؤمن إذا عمل عملا أتقنه لأن الله يحب ذلك ، فهو يُحَضِّرُ كل مستلزماته ويبحث عن مقومات النجاح ويخطط لأكمالها ويتعاون مع غيره في سبيل ذلك ، ويفرغ جهده كله في إنجاح العمل ، وأثناء كل ذلك يتكل على الله تعالى ويدعوه بالتوفيق والسداد ، وهو لا ينتظر من ذلك جزاءً دنيويا لأن نتيجة العمل قد تظهر في حياته وربما بعد مماته ، وهكذا فإن إتقان المسلم للعمل هو عبادة إضافية يرجو ثوابها من الله تعالى.
ـ 25 ـ الإستفادة من الوقت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” إغتَنِم خَمسا قبلَ خَمسٍ: حياتَكَ قَبلَ موتِكَ وصِحَتَكَ قَبلَ سَقَمِك وفَراغَكَ قَبلَ شُغلِك وشَبابَك قَبل هَرَمِك وغِناكَ قبلَ فَقرِك ”
(رواه الحاكم والبيهقي)
الحياة فرص ، وما ذهب منها فلن يعود ، لذلك على الإنسان أن يغتنمها قبل فوات الأوان . ويجمل هذا الحديث الفرص التي على المرء أن يغتنمها قبل فوات الأوان . فإغتنام الحياة قبل الموت يكون بالعمل للآخرة طيلة فترة الحياة وخاصة بعمل ما يبقى أثره بعد الموت من أعمال صالحة وإغتنام الصحة في الأعمال الصالحة قبل أن يمرض الإنسان فلا يستطيع أداء كثير من الواجبات . والفراغ قبل أن يشغل المرء بأمور لم يكن يتوقعها ، وإغتنام فترة الشباب للقيام بالأعمال الصالحة التي تحتاج قوة بدنية لا يستطيع أن يقوم بها الشيخ الهرم ، وللحياة أحوال متباينة من عسر ويسر ، وغنى وفقر فالكيس الغني مثلا من إغتنم فترة الغنى بالإنفاق والصدقات وليس بإنفاق المال على الملذات الزائلة . والشاب المسلم يغتنم فترة شبابه في طاعة الله والمسلم المعافى يغتنم صحته في عمل الخير لأنه لا يعلم متى يأتيه المرض.
في هذا الحديث يعلِّم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين قيمة الوقت التي قلت عند غالبيتهم اليوم ، بينما يستغل غيرهم أوقاتهم في حدود ما يؤمنون به من فلسفات وعقائد من وضع بني آدم . أليس الأحرى بالمسلمين أن يغتنموا كل ساعة بل كل لحظة لما فيه خيرهم في دنياهم وأخراهم؟
قال الله تعالى: ” وما خَلَقتُ الجِنّ والإنسَ إلاّ لِيَعبُدونِ ” (38) فما خلق الله الناس للّهوِ واللعب ولا للغناء والطرب . وقد أمر الله تعالى رسوله بإستمرار العبادة حتى الموت فقال عزوجل: ” واعبُد رَبّكَ حَتّى يَأتيَكَ اليَقين ” (39).ـ
على المرء أن يعلم بأن الواجبات أكثر من الأوقات ، لذلك فلا وقت هناك كي يضيعه في الترهات ، ولو أحصى المرء ما عليه من واجبات تجاه ربه وتجاه مجتمعه وتجاه أهل بيته وأقربائه بل وتجاه نفسه في دنياه وآخرته ، لما فرط في لحظة واحدة في عمل غير مجد من لهو ولعب . وقد يظن البعض أن التمسك بذلك يضفي على الحياة جفافا وصرامة وتعقيدا . وهذا غير صحيح ، فليس المقصود بإستغلال الوقت عدم تخصيص وقت للراحة والمزاح الذي لا يدخله الكذب ولا الترويح عن النفوس ، فكل ذلك من العبادة إن أخلصت النية ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمزح ولا يقول إلاّ الحق(40) وقد مر بنا تحت الحديث (1) قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: روحوا القلوب فإنها إذا كرهت عميت ، وما ساعة الراحة إلاّ ساعة عون للنفس على العبادة فهي ضرورية كضرورة النوم لجسم الإنسان.
ـ 26 ـ دوام العمل الصالح عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” أحَبّ الأعمالِ إلى اللّه أدومُها وإن قَلّ ”
(متفق عليه)
إعتاد بعض الناس على كثرة العبادة في رمضان من صيام نهاره وكثرة صلوات النوافل كالتراويح وغيرها ، فإذا إنقضى رمضان ترك العبادة وربما حتى الفريضة ، ويعلل ذلك بكثرة الأحاديث التي تمتدح العبادات في رمضان وأن فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. وهذا حق ، لكن دوام العمل المفروض أفضل من ذلك ، فقد فرض الله تعالى الصلاة وجعلها بأوقات محددة ، ” إن الصَلاةَ كانَت على المُؤمنينَ كِتابا موقوتا ” (41). وفي دوام ذكر الله تعالى خير كثير ، وبالخلق الحسن وهو من الأعمال الدائمة يبلغ المرء درجة العبد الصائم القائم . وفي حديث الحال المرتحل الذي يقرأ القرآن على الدوام(42)ـ إشارة إلى فضل العمل المستمر على المتقطع حتى وإن كان العمل المتقطع أكثر من العمل المستمر ، فالله سبحانه وتعالى يبارك بالعمل المستمر ويرفع من مكان صاحبه لأنه تعالى يحب دوام العمل الصالح. فالمؤمن شخص سوي دائم العمل غير متذبذب بين الإفراط والتفريط ويتبع في حياته منهجا واضحا على وتيرة واحدة متسقة يكمل بعضها بعضا . فالعمل القليل بالإستمرار يكمل بعضه بعضا فيتكون العمل الكثير ، وعند ذلك يبارك الله فيه فتظهر فوائده. أما العمل المتقطع فربما تضمحل آثاره بعد فترة فإذا ما عاد المرء اليه إحتاج وقتا إضافيا لكي يعود إلى المستوى الذي ترك العمل عنده. فقراءة جزء من القرآن كل يوم أفضل من القراءة سبعة أجزاء في يوم واحد وتركها ستة أيام ، وقس على ذلك.
ـ 27 ـ التسامح عند الإختلاف عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم الأحزاب: ” لا يُصَلّيَنّ أحَد إلاّ في بَني قُريظة ” فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها ، وقال بعضهم: بل نصلي لم يُرد منا ذلك . فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يعَنّف واحدا منهم .
(رواه الشيخان)
الإختلاف متوقع بين بني آدم طالما إختلف الناس في قابلياتهم على الفهم . قال الله تعالى: ” ولا يَزالونَ مُختَلِفينَ إلاّ من رَحِمَ رَبّك ولذلك خَلَقَهُم ” (43). لكن الله تعالى دعى المسلمين إلى الإعتصام بحبل الله وعدم التفرق في الدين : ” ولا تكونوا كالّذينَ تَفَرّقوا وإختَلَفوا من بعد ما جاءَهُم البيّنات ” (44). فالله سبحانه وتعالى يريد ان يكون المسلمون يدا واحدة غير مختلفين يسامح بعضهم بعضا غير متعصبين لرأي شخصي أو إجتهاد ولا تبني آرائهم على تعصب لجنس أو نزعة قبلية أو عنصرية أو طائفية . وهكذا فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حينما عرف بإختلاف صحابته في فهمهم لأمر أمرهم به هو ، رضي عن إجتهاد كلا الفريقين لأن كليهما إستند في فعله على أمر رسول الله ولم يستند لا إلى رأي رجل يخطئ ويصيب ولا إلى هوى نفسه أو مصلحة شخصية . كما أن كُلا من الفريقين رضي من الفريق الآخر بفعله فلم يخاصم أحدهما الآخر أو يجبره على إتباع رأيه فيحدث الشقاق وتباعد القلوب . وهكذا فإن الأختلاف في الإجتهاد مقبول . كما يشير الحديث إلى حرص الصحابة رضوان الله عليهم على معرفة الحق بإحتكامهم إلى أولي العلم منهم (وكان في حالتهم هذه هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه) الذي علمهم بأن هذا القدر من الإختلاف أمر متوقع ولا بد منه وهو مقبول وعليهم أن يقبلوه.
يعود إختلاف الفقهاء إلى عدد من الأسباب: أحدها هو إختلاف أفهام الناس من نص معين (آية من كتاب الله أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) كما كانت الحالة في إختلاف الصحابة في هذا الحديث ، وقد يكون سبب الإختلاف هو عدم ثبوت نص عند بعض بينما ثبت عند آخرين . وقد يكون الإختلاف سببه إختلاف الأقاليم والمواقع وأعراف الناس والتي على الفقيه أن يراعيها . كما أن الإختلاف يكون أحيانا نتيجة أخذ الأول بالرخصة والثاني بالعزيمة . وكل هذه الأسباب مقبولة وليست مدعاة للتناحر والتعصب والفِرقة . وما ظهرت الطائفية بين المسلمين إلا حينما تعصب أتباع المذاهب إلى فتاوى وتفاصيل وتركوا إتفاقهم على أصول الدين الرئيسة . وهكذا فالمؤمنون الصادقون يتعاونون فيما إتفقوا عليه ويعذر بعضهم بعضا فيما إختلفوا فيه.
إن إختلاف الصحابة المذكور في الحديث كان بالحقيقة نتيجة أخذ الفريق الأول بالنص الحرفي لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والفريق الثاني بالمفهوم العام حيث فهموا من النص أن المقصود الأصلي هو الإسراع في السير للوصول قبل نهاية وقت العصر وليس المقصود هو تأخير وقت الصلاة . ومثل هذا الإختلاف كثير الوقوع في فهم أحكام تفصيلية من آيات أو أحاديث صحيحة . وقد تكون أحيانا حجة التمسك بالنص أقوى أو التمسك بالمفهوم في حالات أخرى أقوى ، إلاّ أنه يجب على الدوام عدم الشذوذ والخروج في التأويل عن حد ما تحتمله اللغة العربية عند الإستنباط من النص وفي الوقت نفسه عدم التمسك بحرفية جامدة بعيدة عن روح الدين وأصوله السمحة.
لقد إختلف الفقهاء بعد جيل الصحابة فتكونت المدارس الفقهية ، ونشأت المذاهب المختلفة ، وكان أئمة تلك المذاهب على درجة عالية من التقوى والتسامح ، لكن بعض المتأخرين تعصبوا لأحد المذاهب وغالوا في إثبات صحة كل ما ورد في ذلك المذهب وخطأ كل ما ورد فيما سواه وتقديس كلام أئمة المذاهب كتقديس حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فظهرت الفرقة والتناحرات المذهبية التي تزدهر دائما في أوقات التدهور والإنحطاط. لقد كانت الفتن والخلافات المذهبية تعج بالعالم الإسلامي أيام الغزو الصليبي واحتلالهم القدس ، حتى أن الدماء سالت في بغداد في خلاف أتباع المذهبين الشافعي والحنبلي بسبب قنوت بعضهم في صلاة الفجر وعدم قنوت الآخرين . وما طرد الصليبيون إلاّ بعد يقظة المسلمين ونبذهم الخلاف والتعصب.
إن على المؤمن أن لا يتعصب لمذهب معين ، وله أن يتبع أحدها ، فذلك من اليسر في الدين ، لكن عليه أن لا يعتقد أن المذهب الآخر هو ضلال وخروج عن الدين ، وله أن يأخذ برأي المذهب الآخر إن عرف دليل الطرفين واقتنع بدليل أحدهما . كما أن للمؤمن أن يأخذ الحكم مباشرة من نصوص أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون تقيد بمذهب معين شرط أن يكون على علم بدرجات صحة الحديث وعلله مع علم بأصول الفقه والناسخ والمنسوخ وأساليب اللغة العربية . ولقد ورد عن أئمة المذاهب الفقهية أنهم قالوا إن صح الحديث لديهم أخذوا به. وعلى من يأخذ الأحكام من الحديث مباشرة أن لا يتعصب لأستنباطه لأن من خالفه من أئمة المذاهب ربما كانت حجتهم قوية وراجحة ، فكلهم من رسول الله ملتمس غرفا من البحر أو رشفا من الديم.
ـ 28 ـ الإستشارة والإستخارة عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا الإستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن يقول: ” إذا هَمّ أحدُكُم بالأمرِ فلِيَركَع رَكعَتينِ مِن غيرِ الفَريضة ثُمّ ليَقُل: اللّهُمَ إنّي أستَخيرُكَ بِعِلمِكَ وأستَقدِرُكَ بِقُدرَتِكَ وأسألُكَ مِن فَضلِكَ العَظيم فإنّكَ تَقدِرُ ولاأقدِرُ وتَعلَمُ ولا أعلَمُ وأنتَ علاّمُ الغُيوبِ ، اللّهم إن كُنتَ تَعلَمُ أنّ هذا الأمرَ خير لي في ديني وَمَعاشي وعاقِبَة أمري (أو قال عاجِلِ أمري وآجِلِهِ) فاقدِرهُ لي ويَسِّرهُ لي ثُمّ بارِك لي فيهِ وإن كُنتَ تَعلَمُ أنّ هذا الأمرَ شَرّ لي في ديني وَمَعاشي وعاقِبَةَ أمري (أو قال عاجِلَ أمري وآجِلِهِ) فاصرِفهُ عَني واصرِفني عَنهُ واقدِر لي الخيرَ حيثُ كانَ ثُمّ رَضِّني به ، ثم قال " ويُسَمّي حاجَتَهُ ”
(رواه البخاري)
إذا مر بالإنسان أمر من أمور دينه سأل أهل العلم ، وإن أشكل عليه أمر من أمور دنياه إستشار من يثق به عقلا وعلما ونصيحة ، فما ندم من إستشار وأمر الله تعالى بالمشورة حتى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان ينزل عليه الوحي فقال: ” وشاورهُم في الأمرِ فإذا عَزَمتَ فَتوَكَّل على اللّهِ ” (45) ، وحث المؤمنين على المشورة: ” وأمرُهم شورى بينَهُم ” ـ(46). ومن إستنصحه أخاه فلينصحه وليشر عليه أفضل ما يصل إليه جهده فالمشورة أمانة ومن قصّر فيها فقد خان الأمانة . ولكن مع كل جهد الإنسان وما يسمع من مشورة ، قد يصل إلى حالات من عدم التأكد في أي الأمور أفضل له ، لأنه لا يعلم ما يخبؤه المستقبل الذي علمه عند الله تعالى ، وهنا تكون الإستخارة.
فالإستخارة تحكيم عملي من المؤمن للشرع في ما ليس بإمكانه التأكد منه من أموره والدعاء من الله تعالى بالتسديد والهداية للأفضل في الدنيا والآخرة ثم بعد ذلك التوكل على الله فيما تؤول إليه النتائج بحيث لا يلوم نفسه ولا غيره فيما يقرر فينعم بعد ذلك بالرضى عن النتائج حتى ولو كانت النتائج مكروهة إلى نفسه: ” وعسى أن تَكرهوا شيئا وهو خير لَكُم وعَسى أن تُحِبّوا شيئا وهو شَرّ لَكُم واللّهُ يَعلَمُ وأنتُم لا تَعلَمونَ ” (47).ـ
فالمؤمن كلما مر عليه أمر ذي بال يريد أن يقرر فيه ، يصلي ركعتي الإستخارة ويدعو بهذا الدعاء ، وبعد ذلك يرضى عن النتائج ويعتقد أن فيها الخير طالما قد دعى الله تعالى وهو موقن بالإجابة بأن ييسر له الأمر الذي فيه الخير ويرَضيه به. | |
|
| |
ملك روحي مراقبة عامة
العمر : 47
| موضوع: رد: الباب الأول الاستقامة في السرائر الخميس ديسمبر 02, 2010 7:49 am | |
|
ـ 29 ـ المحافظة على الفرائض
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” قال اللّه عز وجَلّ: من أذَلّ لي وليّا إستَحَلّ محارَبتي وما تَقَرّبَ إليّ عَبدي بِمِثلِ أداء الفرائض وما يَزالُ العَبدُ يَتَقَرّبُ إليّ بالنوافِلِ حتّى أحبُّه ، إن سألني أعطيتُهُ وإن دعاني أجبتُهُ ، ما تَرَدَدتُ عن شيء أنا فاعِلُهُ تَرَدُدي عن وفاتِهِ لأنّهُ يكرَهُ الموتَ وأنا أكرَه مساءتَهُ ”
(رواه البخاري في الرقائق وأحمد واللفظ له)
المحافظة على الفرائض رأس مال المؤمن ، ومن ضيع رأس ماله بارت تجارته ، قال محمد بن منازل(1) لم يضيع أحد فريضة إلا إبتلاه الله تعالى بتضييع السنن ، ولم يبل أحد بتضييع السنن إلا أوشك أن يبتلى بالبدع. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ثلاث صاحبهن جواد مقتصد: فرائض الله يقيمها ويتقي السوء ويُقِلّ الغفلة ، وثلاث لاتحقرن خيرا تبتغيه ولا شرا تتقيه ولا يكبرن عليك ذنب أن تستغفره وإياك واللعب فإنك لن تصيب به دنيا ولن تدرك به آخرة ولن ترضي به المليك وإنما خلقت النار لسخطه وإني أحذرك سخط الله عزوجل.
أداء الفرائض أساس القربات عند الله. فالصلوات الخمس في أوقاتها وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت لمن إستطاع إليه سبيلا ، هذه الفرائض ، إذا خلصت فيها النية لله تعالى لا يعدلها عمل آخر يقرب من الله تعالى . أما النوافل فترفع من مكانة العبد عند ربه حتى يصطفيه الله ويجعله من خاصة عباده الصالحين الذين يحبهم ويحبونه. فإن بين الناس من أحب امرؤا أحب أن يفعل ما يدخل السرور إلى نفسه. والله سبحانه إذا أحب عبدا ودعاه ذلك العبد بدعوة يحب أن يستجيبها الله له ، فإن الله يجيب دعاءه. ولكن الله تعالى قد كتب أمورا لا ينفع فيها دعاء داع. فلو طلب شخص من الله أن يخلده في هذه الحياة فلن يستجيب الله لمثل هذا الدعاء لأن مشيئته عز وجل قد سبقت ذلك الدعاء بحدود أجل ذلك الشخص ، فإذا جاء الأجل فلا يتأخر ساعة ولا يتقدم ، والله يكره أن يفعل ما يكرهه حبيبه المؤمن بقبض روحه ، لكنه لا بد فاعل.
إن لكل فريضة من الفرائض ما يشابهها من النوافل لسد النقص فيها ولزيادة التقرب إلى الله تعالى بعبادة تماثل ما فرض. فهناك نوافل من الصلوات وهناك صدقة التطوع فوق الزكاة وهناك العمرة وحج التطوع بعد الفريضة ، فإذا أدّى العبد الفرائض وازداد من النوافل تقرب من الله فيحبه الله ويكون من جملة أولياء الله الصالحين الذين لهم مكانتهم عند الله تعالى من إجابة الدعاء وقبول الشفاعة وحسن الثواب يوم القيامة والدفاع عنهم في الحياة الدنيا . ففي بداية هذا الحديث تهديد من الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لمن يعادي أولياء الله الصالحين . وسنأتي على تفصيل أكثر لذلك في الحديث ـ(60)ـ
ـ 30 ـ المراقبة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يامحمد... أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” الإسلامُ أن تَشهَد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأن محمدا رسولُ اللّه ، وتقيمَ الصَلاةَ ، وتؤتي الزّكاة ، وتَصومَ رَمضانَ ، وتَحجَ البيتَ إن إستطعتَ إليهِ سَبيلا ” ، قال صدقت ، فعجبنا له ، يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان ، قال: ” أن تؤمِنَ باللّه ، وَملائكتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليومِ الآخِرِ ، وتؤمِنَ بالقَدَرِ خيرِهِ وشَرّه ” ، قال: صدقت . قال فأخبرني عن الإحسان ، قال: ” أن تَعبُدَ اللّهَ كأنّكَ تَراهُ ، فإن لَم تَكُن تَراهُ فإنّهُ يَراكَ ” ، قال فأخبرني عن الساعة ، قال: ” ما المَسؤولُ عنها بأعلمَ من السائلِ ” قال فأخبرني عن أماراتها ، قال: ” أن تَلِدَ الأمَةُ رَبَّتَها ، وأن تَرى الحُفاة العُراةَ العالَةَ رعاء الشاءِ يَتَطاوَلونَ في البُنيان ” ، ثم إنطلق فلبث مليا ثم قال: ” يا عمر... أتَدري مَن السائلُ؟ ” قلت الله ورسوله أعلم ، قال: ” فإنّهُ جبريلُ أتاكُم يُعَلّمَكُم دينَكُم ”
(رواه مسلم)
في هذا الحديث علم كثير يستحق أن تكتب فيه الكتب ، لكن ما نود ذكره هنا هو أن أساس العبادات هو مراقبة الله تعالى فإنه يَرى ولا يُرى ، ومن عبد الله وكأنه يرى الله تعالى فقد بلغ مرتبة الإحسان . وهذه المراقبة لاتكون بالدعوى والكلام بل هي في قلب المرء ، ومن راقب الله في سره هداه الله إلى الأعمال الصالحة ويسرها له ، فمراقبة النفس ما هي إلاّ مجاهدتها أن ترتكب ما لا يرضاه الله تعالى.
قال الله تعالى: ” والذينَ جاهَدوا فينا لنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا ، وإنّ اللّهَ لَمَعَ المُحسِنينَ ” (2) وقد كان أشد الناس مراقبة لله تعالى بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أصحابه الكرام فقد ورد عن أنس رضي الله عنه أنه قال: إنَّكُم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر ، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الموبقات(3). وقال ذوالنون المصري علامة المراقبة إيثار ما آثر الله تعالى وتعظيم ما عظَّم الله تعالى وتصغير ما صغّر الله تعالى . ذلكم هو الفرق بين جيل الصحابة وتابعيهم وبين ما أعقبهم من أجيال: فلقد عبدوا الله تعالى بإخلاصهم ومراقبتهم لأنفسهم قبل أن تتحرك جوارحهم بالعبادة فأكرمهم الله تعالى بالهداية والتسديد في هذه الحياة الدنيا ولأجر الآخرة أكبر.
ـ 31 ـ المحافظة على الصلاة عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
” ما من امرئ مُسلِم تَحضُرهُ صلاة مَكتوبَة فيُحسِنَ وُضُوءها وخُشوعَها ورُكوعَها إلاّ كانت كَفّارَة لِما قَبلَها من الذُنوبِ ما لم تُؤتَ كَبيرة وذلك الدَهرَ كلَّه ”
(رواه مسلم)
قال الله تعالى: ” إن الصّلاةَ كانَت على المُؤمنينَ كِتابا موقوتا ” (4) ، وللتوقيت حكمة بالغة في تطهير المؤمن وتذكرته مرة بعد أخرى خمس مرات كل يوم وليلة في الصلوات الخمس ومرة كل أسبوع في صلاة الجمعة ومرتين في السنة في صلاتي العيدين ومرات في كل حادث خاص كالجنازة والكسوف والإستسقاء. وقد تكررت آيات الأمر بإقام الصلاة عشرات المرات في القرآن الكريم . وإقام الصلاة هو ليس أداؤها قياما وقعودا بل هو تنفيذ أركانها من خشوع وتفكر وتدبر لآيات الله تعالى ثم إنعكاس ذلك بعد أدائها على فعله وتركه خارجها من إتباع لأوامر الله تعالى وإنتهاء عما نهى عنه. فلا عجب إذا كانت الصلاة وسيلة لتطهير العبد مما يعلق به بين الصلوات من شوائب الدنيا وغفلة وصغائر الذنوب . أما إذا ارتكبت الكبائر فتلك ذنوب كبيرة لا تكفي الصلوات الخمس لتطهيرها . والمؤمن الصادق أصلا مجتنب للكبائر فهو يرجو أن يمنّ الله عليه بالمغفرة مرة بعد أخرى كل صلاة من الصلوات المكتوبة . وذلك الدهر كله ، فهو طاهر من الذنوب مستعد للقاء ربه أية لحظة قدّر الله عليه الموت فيها.
والمسلم المستقيم يعبد الله كأنه يراه ، والعبادة هنا تشمل المعنيين: المعنى الإصطلاحي من صلاة وصيام وزكاة ، وما سنذكره من عبادات أخرى في هذا الباب ، كما تشمل العبادة بمعناها العام وهي إخلاص النية لله في كل عمل من أعمال الدنيا والآخرة إبتغاء مرضاة الله تعالى . فإذا استشعر المسلم أن الله يراقبه على الدوام كأنه يرى الله تعالى ، فإنه جعل في داخل نفسه ناصحا مراقبا له يسدده كلما أخطأ ، وينصحه كلما إحتاج إلى نصيحة ، وهداه إلى الصراط المستقيم كلما أشكلت عليه الطرق ، والله تعالى أقرب للمرء من حبل الوريد وهو الهادي إلى سواء الصراط.
لقد وصف الله الصلاة: ” وإنَّها لَكَبيرَة إلاّ على الخاشِعينَ ” (5) ، فالصلاة عماد الدين ومن تركها فقد هدم دين نفسه ، وأول ما يُسأل العبد يوم القيامة عن الصلاة وكان من جملة آخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمته بالصلاة . فالمؤمن الصادق لا يتهاون بالصلاة أبدا ، ويحرص على أدائها جماعة أول وقتها إن إستطاع وإلاّ منفردا ضمن وقتها المسموح بها ولا يؤخرها إلى نهاية الوقت إلاّ مضطرا ولا بعد خروج وقتها ، وهو يصلي مع الفرائض الخمس السنن الراتبة ويصلي ما تيسر له من النوافل . وأهم ما يجب أن ينتبه إليه المرء في الصلاة هو ما ذكر في هذا الحديث من تحسين للوضوء والطهارة التامة والخشوع التام وإتمام الركوع والسجود.
ـ 32 ـ المحافظة على الطهارة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” الطّهورُ شَطرُ الأيمانِ ”
(رواه مسلم)
الطهور واسع الجوانب بما فيه من طهارة من الحدث وإستنجاء ووضوء وطهارة من النجاسة والنظافة الظاهرة والباطنة . ولقد خلق الله تعالى الماء طاهرا ومطهرا ووفره على سطح الأرض بكثره وخلق منه الكائنات الحية حيث قال: ” وجَعَلنا مِنَ الماءِ كُلّ شيء حيّ ” (6). وحث الله تعالى على المبالغة في التطهر حيث مدح الأنصار فقال: ” يُحبّونَ أن يَتَطَهَروا واللّهُ يُحِبُّ المطَّهِرينَ ” (7).ـ
الطهارة عبادة قائمة بحد ذاتها مستقلة عن الصلاة رغم أنها شرط لها ، لذلك فمن الطهارة ما هو فرض ومنها ما هو سنة أو نافلة . فالوضوء قبل النوم مستحب ، بل كان بعض الصحابة كعبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يُرى جالسا إلاّ طاهرا ، كما أن غسل اليدين مستحب قبل الطعام وبعده ، والإستنزاه من البول واجب فحين مر صلى الله عليه وآله وسلم على قبرين ذَكَرَ أن أحدهما يعذب في قبره لأنه كان لا يتنزه من البول(8). ومن الأمور التابعة للطهارة الختان وقص الأظافر وقص الشارب ونتف الإبط ، وكل ذلك من حث الإسلام على النظافة ، كما أن غسل الميت وشرط طهارة المكان الذي يصلى فيه والثياب التي يلبسها أثناء الصلاة ، كل ذلك مما أوجبه الله مما له علاقة بالطهارة.
والمبالغة في الطهارة أمر مستحب ، لكن الوسوسة غير ذلك فمتى عرف المرء أنه قد أتم جزءا من أمور الطهارة عليه أنلا يعود إلى ما يشكك الشيطان فيه من ظن بأنه ربما يكون قد أغفل ذلك . كما أن التبذير في إستخدام الماء في الوضوء أو الإستحمام أو الإستنجاء مكروه جريا على أصل كراهة التبذير بصورة عامة: ” إن المُبَذرين كانوا إخوانَ الشياطين وكانَ الشيطانُ لرَبّهِ كَفورا ” (9). وللطهارة عند عدم وجود الماء بديل هو التيمم والذي هو فعل لتأكيد القصد رغم أنه لا أثر ظاهر له في إزالة النجاسة ، وهذا يشير إلى إختلاف مفهوم الطهارة عن النظافة ، فالطهارة والنظافة متداخلتان أحيانا ومختلفتان في أحيان أخرى . ولو لم يكن في الطهارة سوى الفوائد التي لها علاقة بالنظافة لكفى بذلك أمرا يستحق أن يفخر به المسلم . ومن عاش في بلد فيه كثرة من غيرالمسلمين واطلع على دقائق أحوالهم وما ينتشر بينهم من أمراض عرف مقدار النعمة التي أنعم الله بها على المسلمين بأمور الطهارة وما يتعلق بها.
والطهارة الباطنة وهي الأهم تعني تنزيه الباطن عن الإثم والشر والسوء. فتطهير الظاهر ما هو إلاّ وسيلة من وسائل تطهير الباطن ، فالقيام بأعمال الطهارة يُذَكِّرُ الإنسان بضرورة الإهتمام بطهارة الباطن والتي تهدف إليها معظم العبادات الأخرى ، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في كثير من الآيات مثل قوله تعالى عن ذبح الأضاحي: ” لن ينالَ اللّهَ لُحومُها ولا دِماؤها ولكن ينالُهُ التَقوى منكُم ” (10).ـ
ـ 33 ـ أداء الزكاة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة... قال: ” تعبُدَ اللّهَ لا تُشرِك بهِ شيئا ، وتُقيمَ الصلاةَ ، وتؤتي الزكاة المَفروضَةَ ، وتَصومَ رَمضانَ ” ، قال والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا . فلما ولّى ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ” مَن سَرّهُ أن يَنظُرَ إلى رَجُل من أهل الجَنّةِ ، فليَنظُر إلى هَذا ”
(متفق عليه)
الزكاة المفروضة قرنت بالصلاة في القرآن الكريم في عشرات الآيات ، وقال أبو بكر الصديق حين إمتنع الأعراب عن دفع الزكاة: والله لآقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، وَسُمُّوا بالمرتدين لقولهم عن الزكاة أنها كالجزية ، أو أنهم دفعوها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كنبي فلا تدفع لأحد من بعده. والزكاة عبادة ذات أثر إجتماعي واضح من تكافل وتعاون ومساعدة للفقراء والمحتاجين . وهي لها أثرها على المرء الذي يدفعها نفسه في مقاومة البخل والحرص والشح وحب الدنيا وتعلق القلب بها ، وفي كل ذلك فائدة للمرء نفسه حيث يزداد تقوى وتسمو روحه ويتقرب بذلك إلى الله عز وجل . فالمؤمن الصادق يعتبر المال مال الله قد وكله الله تعالى عليه مدة محدودة (أثناء حياته) ، فهو يستعمله لخير نفسه وذوي قرباه ويبتغي بذلك وجه الله تعالى ، ويؤدي حق الله فيه من زكاة مفروضة ويزداد ما استطاع في الصدقات فوق الفريضة ، فكل ذلك ذخر له في الآخرة . فقد أنفق أبوبكر الصديق رضي الله عنه كل ماله في سبيل الله وأنفق عمر نصف ماله وأنفق غيرهما الكثير.
وفي وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرجل بأنه من أهل الجنة ملاحظة تستحق الوقوف عندها . فصدق الأعرابي ومعاهدته الله سبحانه وتعالى أمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يلتزم بهذه الأركان ، هو الذي جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبر أصحابه بمكانته عند الله تعالى ، وهي كذلك لكل من صدق مع الله والتزم بما يأمره الله به من فرائض أساسية . وتلك هي البيعة الصادقة.
ـ 34 ـ صوم رمضان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” قال اللّه عزّوجَلّ: كُلّ عَمَلِ ابنِ آدم لَهُ إلاّ الصيامُ فإنّهُ لي وأنا أجزي به ، والصيامُ جُنّة ، فإذا كانَ يومُ صَومِ أحدِكُم فلا يَرفُث ولا يَصخَب ، فإن سابّهُ أحَد أو قاتَلَهُ فليَقُل إنّي صائم ، والّذي نَفسُ مُحَمّد بيَدِهِ لَخَلوفُ فَمِ الصائمِ أطيَبُ عِندَ اللّه مِن ريح المِسك . للصائِمِ فَرحَتانِ يفرَحُهُما ، إذا أفطَرَ فرِح ، وإذا لَقيَ رَبّهُ فَرِحَ بِصومِهِ ”
(متفق عليه)
الإستقامة سيطرة الإنسان على تصرفاته بما يوافق الشريعة الغراء ، وما الصيام سوى وسيلة لمساعدته في ذلك ، فإذا إستطاع أن يسيطر على شهواته إنقادت له نفسه ، فكانت مساعدة له في الإستقامة على النحو الذي يرضي ربه. فالصيام عبادة خاصة يجازي الله سبحانه وتعالى عليها جزاء خاصا لأن فيها سرا بين العبد وربه لا يعلمه إلا هو ولهذا نص هذا الحديث الشريف على أن الصيام لله تعالى . وهي عبادة للمسلمين ولمن سبقهم من الأمم حتى التي لم يؤثر ان لها كتاب منزل من عند الله وهي علاج بدني وروحي فريد. فالصيام وقاية من المفاسد ووسيلة لترويض الإنسان على الصبر وتحمل المشاق والشدائد وتحمل الأذى ومقابلة الإساءة بالإحسان وكبح جماح النفس لكي تكون منقادة لمكارم الأخلاق التي يرضى عنها الله سبحانه وتعالى.
إن صيام شهر رمضان تزكية لنفس المؤمن شهرا كل سنة وترويض لها . وهو بحاجة إلى هذه التزكية البدنية لكي تسمو روحه ويستطيع التحكم في شهواته فلا يستعملها إلاّ في طاعة الله تعالى . كما أن البدن نفسه بحاجة إلى هذه العبادة من راحة للمعدة وتنظيم لجهاز الهظم وتغيير للعادة وغير ذلك . وبعد صيام رمضان ، للمسلم أن يصوم تطوعا ما ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كصيام يوم عرفة وعاشوراء ويوما قبله ويوما بعده وثلاثة أيام من كل شهر أو يومي الإثنين والخميس ، وأفضل الصيام صيام داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما.
ـ 35 ـ حج بيت الله الحرام عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” مَن حَجّ فَلَم يَرفُث ولَم يَفسُق رَجَعَ مِن ذُنوبهِ كيومِ وَلَدَتهُ أمُّهُ ”
(رواه الستة إلاّ أبا داود)
الحج خامس الأركان الخمسة ، وهو فريضة في العمر مرة لمن إستطاع إليه سبيلا . وهو مجمع المسلمين السنوي ، وفيه يتشبه الحاج بالأموات الذين سيكون يوما ما واحدا منهم ، فهو تذكرة بالغة للمسلم لكي ينقلب على سالف أيامه إن كان من المسرفين فيها ، ويزداد إحسانا إن كان من الصالحين . والحج هو المؤتمر العام للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، لكي يستشعروا أن ربهم واحد ونبيهم واحد وقبلتهم واحدة وأمتهم واحدة: ” إنّ هذه أمّتُكُم أمّة واحدة وأنا ربُّكُم فاعبُدونِ ” (11)ـ. والمؤمن يتوق إلى زيارة بيت الله الحرام في أول فرصة تسنح له ، ولا يؤخر ذلك ، فرب فرصة تسنح ولا تتكرر ، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: ” تعَجَّلوا الحجّ فإنّ أحدكُم لا يَدري ما يَعرِضُ لهُ ” (12). فالحج للمرة الأولى فريضة وما بعدها نافلة ، فمن إستطاع تكرار الحج بعد الحج فذلك خير. أما العمرة فعلى المؤمن أن يؤديها ولو مرة واحدة مع حجه ، سواء كان مفردا أو متمتعا أو قارنا . فإن إستطاع أن يؤدي غيرها في غير وقت الحج فتلك نافلة وفيها ثواب عظيم.
وحينما تسنح فرصة حج فرضا أو نافلة أو فرصة العمرة ، على المسلم أن يستغلها لزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والسلام عليه فزيارة قبره لمن لم يدركه كزيارته حيا لأن الأنبياء أحياء في قبورهم.
ـ 36 ـ الجهاد في سبيل الله عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال:
” الإيمانُ باللّه والجِهادُ في سَبيلِ اللّه ” .
(متفق عليه)
الجهاد في سبيل الله هو بذل الوسع في سبيل مرضاة الله تعالى ويشمل قتال الكفار والمشركين والمنافقين والبغاة والمحاربين الآخرين ، كقطاع الطرق ودفع المعتدين سواء كان ذلك في ساح القتال أوبالحجج واللسان أو الأموال أو بالدعوة والعلم . ويشمل جهاد المعتدين من إعتدى على العقيدة والشريعة والوطن والعرض والمال . والمجاهد الحق هو الذي ينذر حياته في سبيل الله ويؤثر مرضاته عزوجل على السلامة والراحة وهو يدعو الله أن يبلغه منازل الشهداء ، ومثل هذا يستجيب الله تعالى له ويبلغه منازل الشهداء حتى وإن توفي على فراشه كما قال صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر: ” من سألَ اللّهَ الشّهادةَ بِصِدق بَلّغَهُ منازلَ الشُهداءِ وإن ماتَ على فِراشِهِ ” (13).ـ
الجهاد بعضه أفضل من بعض ، فأفضل الأعمال ساعة حضور الأعداء هو الجهاد ، وعمل المرأة في بيتها هو جهاد ، وكسب الرجل من الحلال إبتغاء التكفف عن سؤال الناس جهاد ، وإتقان العامل واجبه جهاد ومجاهدة النفس وردعها عن الوقوع في الآثام جهاد في سبيل الله. وشرط صدق النية الخالصة في سبيل الله أمر أساس في كل ذلك . وليس القتال حمية أو عصبية أو إبتغاء كسب دنيوي جهاد في سبيل الله ، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: ” مَن قاتل لتكونَ كَلِمَةُ اللّهِ هي العُليا فهُو في سَبيلِ اللّه ” (14).ـ
والمؤمن الحق حين يقرأ في كل صلاة : ” قُل إن صلاتي ونُسُكي وَمَحيايَ وَمَماتي لِلّهِ رَبّ العالَمينَ ” (15) ، يتذكر أن ذلك عهد مع الله ببذل الجهد في الحياة كلها حتى الممات في سبيل الله. وليس معنى ذلك أن يتمنى المؤمن دخول المعارك والحروب بدون هدف واضح بل هو يكره سفك الدماء ، لكن إذا قدّر الله تعالى ذلك صبر وثبت كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: ” لا تَتَمَنّوا لقاء العَدو فإذا لَقيتموهُم فاصبِروا ” (16).ـ
والمجاهد في سبيل الله لا يبالي بنتيجة جهاده لأن النتيجة هي الخير دائما: ” قُل هَل تَرَبّصونَ بِنا إلاّ إحدى الحُسنيينِ ” (17)ـ ، كما إن تحقيق النصر مقترن بنصرة المؤمنين لله عز وجل: ” إن تَنصُروا اللّه يَنصُركُم ويُثَبّت أقدامَكُم ” (18). وما على المجاهد سوى إعداد ما إستطاع من قوة وعدم التهاون في ذلك: ” وأعِدّوا لَهُم ما استَطَعتُم مِن قُوَة ” (19). أما بعد ذلك فإن النتيجة موكولة إلى الله عزوجل وما يختاره هو الخير سواء كان نصرا أو شهادة.
ـ 37 ـ قراءة القرآن عن عبد الرحمن بن شبل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
” إقرأوا القُرآنَ واعمَلوا بِهِ ولا تَجفوا عَنهُ ولا تَغلوا فيه ولا تأكُلوا بِهِ ولاتَستَكثِروا بِهِ ”
(رواه أحمد والطبراني والبيهقي وأبي يعلى)(20)
قراءة القرآن من أفضل العبادات ، وهي واسطة إستقبال أوامر الله تعالى بغية تنفيذها والعمل بما جاء فيها ، ومن أهمل تلاوة كتاب الله فترة دون عذر فقد جفاه. وهَذه التلاوة يجب أن تكون إبتغاء وجه الله تعالى ، لا للمفاخرة والمكاثرة والجاه أو إبتغاء متاع دنيوي زائل . والغلو في القرآن هو التمسك بتعصب بأمور لم يقصدها الشرع كالرهبانية أو الشذوذ في تفسير بعض الآيات قال الله تعالى: ” قُل ياأهلَ الكِتابِ لا تَغلوا في دينِكم غير الحَقّ ولا تَتَّبِعوا أهواَء قوم قد ضلّوا مِن قَبلُ وأضلّوا كثيرا وضَلّوا عَن سواء السَبيلِ ” (21).ـ
العبادة في تلاوة القرآن متنوعة: فالتلاوة بالمصحف ، وعن ظهر قلب ، وترتيله ، وفي الصلاة ، وفي كل أوقات الفراغ ، والإستماع إليه ، وتعليمه وتعلم تفسيره وباقي علومه ، كل ذلك عبادة ، فتعظيم كتاب الله تعالى تعظيم لله والله عنده حسن الثواب . ويأمر صلى الله عليه وآله وسلم إضافة إلى العمل به وعدم الجفاء عنه أو الغلو فيه ، عدم التكسب بتلاوته إبتغاء متاع دنيوي زائل.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى رضي الله عنه: ذكِّرنا ربنا ، فيقرأ عنده القرآن حتى يكاد يتوسط وقت الصلاة فيقال يا أمير المؤمنين الصلاة الصلاة فيقول أولسنا في صلاة؟ إشارة إلى قوله تعالى: ” ولَذِكرُ اللّهِ أكبرُ ” (22).ـ
ـ 38 ـ طلب العلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
مَن سَلَكَ طَريقا يَبتَغي فيه عِلما سَلَكَ اللّهُ له طَريقا إلى الجَنّة وإنّ الملائِكَةَ لَتَضَعُ أجنِحَتَها لِطالِبِ العِلمِ وإنّ العالِمَ ليَستَغفِر لَهُ مَن في السَماواتِ وَمَن في الأرضِ حَتّى الحيتانُ في الماء. وَفَضلُ العالِمِ على العابِدِ كَفَضلِ القَمَر على سائر الكواكِبِ ، إنّ العُلماءَ وَرَثَةُ الأنبياء ، إنّ الأنبياءَ لَم يُورِّثوا دينارا ولا دِرهَما ، إنّما ورّثوا العِلمَ فَمَن أخَذَ بِهِ أخَذَ بِحَظّ وافِر ”
(رواه ابو داود والترمذي واللفظ له)
طلب العلم من أفضل العبادات وهو أفضل من النوافل خاصة إذا عمّ الجهل وقلّ العلماء وانتشرت البدع واتبع الناس الجهلة . وطلب العلم فريضة على كل مسلم ذكرا كان أم أنثى(23) بما يكفيهم من أداء عباداتهم ومعرفة ربهم وإكتساب معيشتهم . أما ما سوى ذلك فهو فرض كفاية يكفي أن يتخصص به بعض الناس وعند ذلك يسقط الفرض عن الباقين ، أما إذا تركه الجميع فالإثم يعم كل من استطاع طلب العلم وقصّر في ذلك ، قال الله تعالى: ” وما كانَ المؤمِنونَ لِيَنفِروا كافّة فَلولا نَفَرَ مِن كُلّ فِرقَة منهُم طائِفَة لِيَتَفَقّهوا في الدينِ ولِيُنذِروا قومَهُم إذا رَجَعوا إليهِم لَعَلَّهُم يَحذَرون ” (24).ـ
وعظ رجل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقال: إنه كان يقال إن إستطعت أن تكون عالما فكن عالما ، فإن لم تستطع أن تكون عالما فكن متعلما ، فإن لم تستطع أن تكون متعلما فأحِبَّهم ، فإن لم تستطع فلا تبغضهم ، فقال عمر: سبحان الله لقد جعل الله لنا مخرجا . وقال سفيان بن عيينة(25):ـ إن كان الرجل ليسمع الكلمة فيصير بها فقيها . وذلك بالطبع إذا وعاها وعمل بها وبلّغها ، فإن من طلبة العلم من يتعلم علما لكنه لا يفقهه ، فيحمله إلى من هو أفقه منه ، ” فرُبّ مُبَلَّغ أوعى من سامِع ” (26). وعن الحسن البصري: كان الرجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يُرى ذلك في تخشُعه وبصره ولسانه ويده وصلاته وحديثه وزهده ، وإن كان الرجل ليصيب الباب من أبواب العلم فيعمل به فيكون خيرا له من الدنيا وما فيها لو كانت له فجعلها في الآخرة.
والمؤمن يستمر بالتعلم حتى يوافيه أجله وهو يتواضع لمن علّمه ويحترم أهل العلم ويجلّهم فصفة العلم منسوبة إلى أحد أسماء الله الحسنى: العليم . وقد مدح الله الذين يعلمون : ” قُل هَل يَستوي الّذينَ يَعلَمونَ والّذينَ لا يَعلَمونَ ، إنّما يَتَذَكَّرُ أولوا الألبابِ ” ـ(27)ـ ، وقال: ” إنَما يَخشى اللّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ ” (28). فطلب العلم ونشره ليس حكرا على طبقة من الناس إتخذوا العلم مهنة . فلقد كان لأئمة هذا الدين من علماء الصحابة والتابعين وتابعيهم حِرَف يكتسبون منها رزقهم ويتعلمون العلم ويعلمونه الناس خالصا لوجه الله تعالى بدون أية أجور. لذلك على المؤمن المحترف أن يعتبر طلب العلم وتعليمه واجبا عليه قدر ما إستطاع ، وليس ذلك حكرا على من تفرغ للعلم واعتبره مهنة يكتسب منها رزقه ، رغم جواز ذلك ، بل هو اليوم ضرورة للتخصص في حقول معينة لا يستطيع إدراكها غير المختصين.
كما أن العلم بشكله العام لا ينحصر في علوم الآخرة وحدها ، بل إن كل علم يفيد الناس في أمور دنياهم ومعيشتهم دخل تحت هذا الباب ، لكن العلوم (الدنيوية والأخروية) بعضها أفضل من بعض ، وبعضها أكثر وجوبا من بعض حسب حاجة الناس إلى ذلك العلم في أمور آخرتهم أولا ثم في أمور دنياهم . ومما يدخل في علوم الآخرة من العلوم المكملة (كالبلاغة والصرف والنحو مثلا) ما هو أقل ضرورة من علوم الدنيا (كالطب إذا كثرت الأمراض واحتاج الناس إلى ذلك). ففي تعلُّم وتعليم هذه العلوم عبادة إن أخلصت النية لله تعالى . فتخريج عدد كاف من الأطباء هو فرض كفاية لا يسقط عن الأمة ما دامت هناك حاجة للمزيد منهم ، وكذلك بقية التخصصات الضرورية.
ـ 39 ـ دوام ذكر الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” يقول الله تبارك وتعالى: إذا ذَكَرني عَبدي في نفسِهِ ذكَرتُه في نَفسي ، وإذا ذكَرَني في ملأ ذكَرتُهُ في مَلأ خير مِن ملأِهِ ، وإذا تَقَرَبَ مني شبرا تَقَرّبتُ مِنهُ ذراعا ، وإذا تَقَرّبَ مني ذراعا تَقَرّبتُ منهُ باعا ، وإذا مشى إليّ هروَلتُ إليهِ ”
(متفق عليه)
ذكر الله على كل حال من أفضل العبادات ، قال الله تعالى: ” الّذين يذكُرونَ اللّهَ قِياما وقُعودا وعلى جُنوبِهِم ” (29) فالذكر لا يعيقه سفر ولا عمل بدني لأن مكانه القلب والمساعد فيه اللسان ، ولذلك قال تعالى: ” فإذا قُضِيَتِ الصلاةُ فانتَشِروا في الأرضِ وابتَغوا مِن فضل اللّه ، واذكُروا اللّهَ كَثيرا لَعَلّكُم تُفلِحونَ ” (30) ، وقال في الجهاد: ” ياأيُّها الّذينَ آمنوا إذا لَقيتُم فِئَة فاثبُتوا واذكُروا الله كثيرا لعلّكُم تُفلِحون ” (31) ، ولفظ الكثرة لافت للأنظار في هذه الآيات وفي غيرها كقوله تعالى: ” والذاكِرينَ اللّهَ كَثيرا والذاكراتِ ” (32). وقد ذم الله تعالى المنافقين رغم ذكرهم الله عزوجل فقال: ” ولا يَذكُرونَ اللّهَ إلاّ قَليلا ” (33). فعلى المؤمن أن يكثر من ذكر الله في كل وقت ، ففي ذلك تذكرة له بربه ومن ثم بطاعته واجتناب معصيته وبعد عن الغفلة . وعلى المرء ان يكثر من ذكر الله في كل أحواله لأنه لا يعلم متى تأتيه المنية وبعد ذلك يتحسر كيف مرت به ساعة لم يشغلها بذكر الله تعالى. قال صلى الله عليه وآله وسلم حين سُئل عن أفضل الأعمال فقال: ” أن تموتَ ولِسانُكَ رَطب بِذِكراللّه عزّ وجَلّ ” (34).ـ
إذا ذكر العبد ربه نال منزلة عالية عند الله تعالى حين يذكره الله تعالى في الملأ الأعلى إن كان ذكر الله في ملأ ، أو يذكره الله في نفسه إن كان ذكره منفردا ويؤكد ذلك قوله تعالى: ” فاذكُروني أذكُركُم ” (35). والعبد الصالح يذكر ربه كلما وجد إلى ذلك سبيلا . يقول الشبلي(36):ـ
ذكــرتـك لا أني نســيتـك لـمـحـة وأيســـر ما في الذكر ذكر لســاني
وكدت بلا وجد أموت مـن الــهوى وهــــام عليّ القـلـب بـالـخـفـقـان
فلما أراني الوجد إنـك حـاضـــــري شـهـدتـك مـوجـودا بكـل مـكـان
فخـاطـبـت مـوجــودا بغير تـكلـــم ولاحـظـت معـلــــــوما بغير عيان
فإذا أكثر العبد الذكر مع تطبيقه أوامر الله تعالى الأخرى واجتناب نواهيه ، وصل مرتبة الإحسان حين يعبد الله كأنه يراه كما مر في الحديث (30)ـ
وهكذا يَعذُب الذكر للذاكر بعد أن يكابده فترة تطول أو تقصر. يقول الحسن البصري: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة والذكر وقراءة القرآن فإن وجدتم وإلاّ فاعلموا أن الباب مقفل (أي بسبب معاصيكم). وإن من الذكر ما يفضل غيره في أوقات معينة . فالتسمية قبل الطعام والحمد بعده ، والتسبيح والتحميد والتكبير عقيب الصلوات الخمس وأذكار الصباح والمساء وغير ذلك من الذكر المسنون أفضل ما يقال في تلك الأحوال . أما الذكر العام الذي يفضل غيره بصورة عامة فهو قول لا إله إلاّ الله. ويشمل هذا الحديث ذكر الله مجتمعا بالتسبيح والتحميد والتهليل بعد الصلوات وقبل الإنصراف أو الذكر بصوت واحد أو الذكر منفردا ، والمؤمن الحق يكون مع الله لحظة ذكره مستجمعا فكره في ما يذكره خاشعا وجل القلب ، فيكون من الذين ” إذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَت قُلوبُهُم ” (37).ـ
ـ 40 ـ الدعاء عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
” الدُعاءُ هُوَ العِبادة ” ثم قرأ قوله تعالى: ” وقال ربّكُم ادعوني أستَجِب لَكُم إن الّذينَ يَستَكبِرونَ عَن عِبادَتي سيَدخُلونَ جَهَنّمَ داخرينَ ” (38).ـ
(رواه أصحاب السنن والحاكم وقال الترمذي صحيح الإسناد)
قال بعض العلماء: لقد ذم الله تعالى قوما تركوا الدعاء في قوله تعالى: ” ويَقبِضونَ أيديَهُم نَسوا اللّهَ فَنَسِيَهُم ” (39) ، ولذلك فإن على المؤمن أن يدعو ربه ويكثر من ذلك سواء إستجيب دعاءه أم لا . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنني أهتم لكي ألهم الدعاء (أي الدعاء المناسب لكل حالة) فإذا ألهمت الدعاء لم أهتم هل أجيب دعائي أم لا . ولئن يدعو المرء فلا يستجاب له خير من أن لا يدعو ، لأن دعاءه هذا هو عبادة يثاب عليها سواء استجيب له أم لا.
إن من الصالحين من جعله الله مستجاب الدعوة كما أثر عن بعض الصحابة كسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وغيره ، لكن عدم إجابة الدعاء قد تعني سوء حال الداعي فلا يعبأ الله بدعاءه وقد تعني أن الله قد أخر إجابته إلى يوم القيامة لكي يرفع من مكانته ، خاصة إذا كان الدعاء متعلقا بأمر دنيوي عاجل ، ففي الخبر المروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” إن العَبدَ يدعو اللّهَ تعالى وهو يُحِبُّهُ فيقول ياجبريل أخِّر حاجَةَ عَبدي فإني أحِبّ أن أسمَعَ صوتَهُ ، وإنّ العَبد ليدعو اللّهَ وهُو يُبغِضُهُ فيَقولُ يا جِبريل إقضِ لِعَبدي حاجَتَهُ فإنّي أكرَهُ أن أسمَعَ صوتَهُ ” (40).ـ
من الدعاء دعاء مستجاب كدعاء النبي لأمته ، والوالد لولده ، والمظلوم على من ظلمه ، والأخ لأخيه في الله بظهر الغيب ، والدعاء مستجاب في جوف الليل ، وعند السجود فإن العبد يكون أقرب ما يكون من الله وهو ساجد. وكذلك الدعاء عند شرب ماء زمزم . وأفضل الدعاء ما كان عامّا للمسلمين في مصالح آخرتهم أو دنياهم(41). إن الدعاء العام يشبه الشفاعة ، فإذا لم يكن الداعي صاحب تقوى وصلاح بحيث يستحق أن يستجيب الله لما دعى لغيره ، فإن الله لا يأبه بدعائه. قال أنس بن مالك رضي الله عنه(42)ـ (ورفع ذلك الى النبي في بعض الروايات): ” يأتي على الناس زمان يدعو المؤمن للجماعة فلا يستجاب له ، يقول الله أدعني لنفسك ولما يحزبك من خاصة أمرك فأجيبك ، وأما الجماعة فلا ، إنهم أغضبوني ” . ونعوذ بالله من غضبه. فهذا المؤمن الذي يدعو لقوم لا يستحقون أن يبدّل الله أحوالهم ، لا يستجيب الله لدعائه لهم بل يستجيب دعاءه لخاصة نفسه فقط.
إن على المسلم أن يحفظ بعض الدعاء المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعاء أصحابه والسلف الصالح ، وأن يتخير من دعائه أفضله ولا يدعو على الناس بالشر إنتقاما لنفسه ، بل يكثر من صالح الدعاء لنفسه ولغيره بالهداية والإستقامة.
ـ 41 ـ الإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إنّ أولى النّاس بي أكثرُهُم عَليّ صلاة ”
(رواه إبن حبان والترمذي وقال حسن غريب)
قال الله تعالى: ” إن الله وملائِكَتَهُ يُصَلّونَ على النبيّ يا أيُّها الّذينَ آمَنوا صَلّوا عَليهِ وسَلِّموا تَسليما ” (43). والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاء له بل من أفضل الدعاء وذلك تعظيما لقدره واعترافا بفضله على البشرية أجمع. والصلاة على النبي من الدعاء المستجاب لا محالة لأن مكانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الله عظيمة والله تعالى هو الذي أمرنا بتلك الصلاة فكيف لا يحقق أمرا هو الذي أمر بأن نطلبه منه. قال الشاعر:
أدِمِ الصلاة على النبي محمـــــّد فـقـبـــــولـها حتـم بغـيـر تـردد
أعـمـــــــالنـا بين القبول وردها إلاّ الصلاة على النبي محـــــمد
لذلك قال بعض العلماء أن الصلاة على النبي لا يدخلها الرياء ولا بأس أن يسِرّ المرء بها أو أن يعلنها . فهي تأدية حق له واجب علينا وليس تكرما منا عليه ، لذلك كان مَن ترك الصلاة عليه حين يُذكر إسمه صلى الله عليه وآله وسلم بخيلا: ” البَخيلُ مَن ذُكِرتُ عِندهُ فَلَم يُصَلّ عَليّ ” (44).ـ
ويستحب أن يتضمن كل دعاء الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أول الدعاء وفي آخره ، لأن الله إذا إستجاب الصلاة في أول الدعاء وآخره فهو أكرم من أن يرد الدعاء الذي بينهما.
وتمام الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجب أن تتضمن الصلاة على آله فذلك ثابت بنص الأحاديث الشريفة . ويستحب إضافة الصلاة على صحبه أيضا لما ثبت من إجماع المسلمين على إستحباب ذلك .
ـ 42 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” والذي نَفسي بِيَدِهِ لَتأمُرُنّ بالمَعروفِ وَلَتَنهوُنّ عَنِ المُنكَرِ أو ليوشِكُنّ اللّهُ أن يَبعَث عَليكُم عِقابا مِنهُ ثُمّ تَدعونَهُ فلا يُستَجابَ لَكُم ” .
(رواه الترمذي وقال حسن صحيح)
مدح الله تعالى هذه الأمة بوصفها خير أمة: ” كُنتُم خيرَ أمّة أخرِجَت للنّاسِ ، تَأمُرونَ بالمعروفِ وَتَنهونَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤمِنون باللّهِ ” (45) ، فالآية واضحة بربط سبب التفضيل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإذا ما تركت الأمة ذلك فقد فقدت سبب التفضيل وبذلك إستحقت غضب الله تعالى وعقابه وإبتلائها بعدم إستجابة الدعاء حتى من صالحيها الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما قال تعالى : ” فلولا كانَ منَ القُرونِ مِن قَبلِكم أولوا بقيَّة يَنهونَ عَن الفساد في الأرضِ إلاّ قليلا مِمَن أنجينا مِنهم ” (46). ويعني ذلك أن الذين كانوا ينهون عن الفساد في الأمم السالفة هم الناجون وهم أقلّة.
وقد ذم الله تعالى بني إسرائيل لأنهم تركوا النهي عن المنكر. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إنّ أولّ ما دخل النقصُ على بني إسرائيل أنه كانَ الرجُلُ يَلقى الرَجُلَ فيقول يا هذا إتّقِ اللّه ودَع ما تَصنَعُ فإنّهُ لا يَحِل لَكَ ، ثُمّ يَلقاهُ مِنَ الغَدِ وهُوَ عَلى حالِهِ فلا يَمنَعُهُ ذلك أن يكونَ أكيلَهُ وشَريبَهُ وقَعيدَهُ ، فلمّا فَعَلوا ذلكَ ضَرَبَ اللّهُ قُلوبَ بَعضِهِم بِبَعض ” ، ثُم قال: ” لُعِنَ الّذينَ كَفَروا من بَني إسرائيلَ عَلى لِسانِ داودَ وعيسى بنِ مَريَمَ ذلك بما عَصوا وكانوا يَعتَدون . كانوا لا يَتَناهونَ عَن مُنكَر فَعَلوهُ لَبِئسَ ما كانوا يَفعَلون . تَرى كَثيرا مِنهُم يَتوَلّونَ الذينَ كَفَروا لَبِئسَ ما قَدّمَت لَهُم أنفُسُهُم أن سَخِط اللّهُ عَليهِم وفي العَذابِ هُم خالِدون . وَلو كانوا يؤمِنونَ باللّه والنّبي وما أنزِلَ إليه ما اتّخَذوهُم أولياء ولكنّ كثيرا مِنهُم فاسقون ” (47) ، ثم قال: ” واللّهِ لَتأمُرُنّ بالمَعروفِ ولَتَنهوُنّ عَنِ المُنكَرِ ولَتأخُذُنّ على يَدِ الظالِمِ ولَتُأطِّرُنَّهُ على الحَقّ أطرا ، ولَتَقصُرُنّهُ على الحَقّ قَصرا أو ليَضربَنّ اللّهُ بِقُلوبِ بَعضِكُم على بَعض ثُمّ ليَلعَنَكُم كما لَعَنَهُم ” (48).ـ
وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب واسع لأنّه يشمل باب الدعوة إلى سبيل الله كله: ” أدعُ إلى سَبيلِ رَبِّكَ بالحِكمَةِ والموعِظَةِ الحَسَنَةِ وجادِلهُم بالّتي هي أحسَن ” (49).ـ
إنّ أولَ الصفات التي يجب أن يتصف بها من يأمر بمعروف أن يكون هو نفسه متصفا به ، وإذا ما نهى عن منكر يكون هو نفسه منتهيا عنه ، وإلا كان ممن قال الله تعالى فيهم: ” أتأمُرونَ النّاسَ بالبِرِّ وَتَنسون أنفُسَكُم وأنتُم تَتلونَ الكِتابَ.. ” (50)ـ ، والناس يتعلمون من الأفعال ما لا يتعلمون من الأقوال . وفي أمر رسول الله للمسلمين في صلح الحديبية عظة بالغة . حيث لما فرغ من عقد الصلح وتوقيع الكتاب أمرهم بالنحر والحلق ، فما قام منهم رجل ، حتى قالها ثلاثا حيث لم يتوقعوا أن تكون نهاية عمرته العودة بهذه الصيغة . فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أم سلمة فذكر ما لقي من الناس ، فقالت: يا نبي الله أتحب ذلك؟ أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بُدنك وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج وفعل ذلك ، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غمّا(51).ـ
وهكذا يجب أن يكون دأب من أمر أو نهى وخاصة إذا كان وليا لأمر من أمور المسلمين مهما كان ذلك صغيرا ، فإن طبق الأمر على نفسه إنقاد له الناس بيسر وأطاعوه.
فالمؤمن يأمر بالمعروف وإذا رأى منكرا نهى عنه أو قوّمه بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان(52). ومن رأى منكرا فرضي به كان كمن شارك في فعله ، ومن حضر المنكر فغيره بيده أو بلسانه فله أجر الداعي في سبيل الله ويثاب على قدر نيته ، فإن لم يستطع إنكاره إلاّ بقلبه كان كمن غاب عن ذلك المنكر فلا إثم عليه. لكن مجالسة أهل المنكر ومخالطتهم وعدم الإنكار العلني عليهم تورث قساوة في القلب بحيث يعتاد المرء على المنكر حتى يكاد يظن أنه أمر هين ، وذلك ما دخل على بني إسرائيل.
كما أن من الدعوة في سبيل الله نصح ولاة الأمر أهل السلطان ، فإن كان بينهم ظالما فعلى الأمة أن تأخذ على يده وتنكر فعله وتجبره على العدول عن الظلم ، وهو ما قال عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” ولتُأطرُنّهُ على الحق أطرا ” (فذلك فرض كفاية على الأمة) إن قام به البعض قدر ما فيه الكفاية ، سقط عن الباقين . أما إذا لم يقم به أحد ، أثم الجميع. وهذا هو مقياس إستقامة الأمة أو مدى بعدها عن جادة الحق ، فإن كانت كذلك إستحقت أن لا يستجيب الله دعاء صالحيها ، وأن يعمّها الله بعذاب من عنده ، وما ذلك إلاّ بما قدمت أيديها.
ـ 43 ـ التفكر في خلق الله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال بتّ عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال: ” إنّ في خَلقِ السَماواتِ والأرضِ واختلافِ اللّيلِ والنّهارِ لآيات لأولي الألباب... ” إلى آخر سورة آل عمران ، ثم قام فتوضأ واستنّ فصلى إحدى عشرة ركعة ، ثم أذّن بلال فصلى ركعتين ، ثم خرج فصلى الصبح.
(رواه البخاري)
التفكر في خلق الله تعالى عبادة . وهذا فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنظره إلى السماء وتلاوته هذه الآيات من آخر سورة آل عمران . سُئلت أم الدرداء(53): أي عبادة أبي الدرداء أكثر؟ قالت: التفكر والإعتبار. وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: الفكرة في نعم الله عزوجل من أفضل العبادة . وقال إبن عباس رضي الله عنهما: التفكر في الخير يدعو إلى العمل به والندم على الشر يدعو إلى تركه.
زار الإمام الشافعي ألإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهما وكان الإمام أحمد كثيرا ما يذكر الشافعي بخير بحضور إبنته ، فقررت مراقبته حين يبيت في بيتهم لتعرف شيئا عن عبادته ، فرأته أوى إلى فراشه بعد صلاة العشاء ومكث كذلك حتى نودي لصلاة الفجر فقام وصلى دون أن يتوضأ ، فأخبرت أباها بذلك ، فسأله كيف كانت ليلتك فقال خيرا والحمد لله ، تفكرت في سبعين مسألة من العلم فيها خير للمسلمين . وكان رضي الله عنه يقول: إستعينوا على الكلام بالصمت وعلى الإستنباط بالفكر.
إن إتساع علم الإنسان اليوم يضع على عاتق المسلم واجبا بأن يزيد من تفكره في عجائب خلق الله ليزداد معرفة ويقينا . إن العلم المأثور من قرآن وسنة وآثار من سار على نهجهما ، يؤخذ من الكتب أو السلف الصالح. أما التفكر فيزيد الإيمان رسوخا ويدخل الإطمئنان للقلب ويزيد العلم فوق المأثور. قال تعالى: ” الّذينَ يَذكُرونَ اللّهَ قياما وقعودا وعلى جنوبِهِم ويَتَفَكَّرون في خَلقِ السَماواتِ والأرضِ ، رَبَّنا ما خَلَقتَ هذا باطلا سُبحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّار ” (54). وهكذا يقع على عاتق مفكري هذه الأمة وحكمائها وعقلائها واجب التفكر في مصالح الأمة وعرض نتائج أفكارهم بطريقة يمكن الإستفادة منها إستفادة قصوى . فإن هموم الأمة ومصائبها لا تعالجها إلاّ عقول متفتحة تستمد نورها من تقوى الله ، وتفتح بصيرتها على ما حصلت عليه الأمم الأخرى من علوم . فالبحث العلمي المستند إلى هذين الأساسين والذي يهدف خير الأمة في آخرتها ودنياها هو عبادة لأنه إعمال للفكر وشكر لله على نعمة العقل التي أنعم الله بها على أولي الألباب . كما أن التفكر في عجائب المخلوقات نتيجة ما حصل الإنسان عليه مؤخرا من علوم حديثة يزيد المؤمن ايمانا ويجعل قلبه مطمئنا ويقف مبهورا أمام عظمة الله غير المتناهية ويدرك ضعف الإنسان أمام تلك القدرة الجبارة.
ـ 44 ـ دوام الشكر عن ثوبان(55) رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
” لِيَتَّخِذ أحدُكُم قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة مؤمِنة تُعينُهُ على أمر الآخرة ”
(رواه أحمد والطبراني وإبن ماجه)
الشكر حقيقة هو الإعتراف بنعمة الله تعالى على وجه الخضوع مع الإعتقاد أن الشكر نفسه هو نعمة من الله تستحق الشكر مرة أخرى . قال داود عليه السلام: إلَهي كيف أشكرك وشكري لك نعمة من عندك؟ فأوحى الله إليه الآن قد شكرتني. ويقال أن الشكر على الشكر أتم من الشكر على النعم الأخرى وذلك بأن ترى أن الشكر بتوفيقه يستحق الشكر ، وهذا الشكر يستحق الشكر مرة أخرى... إلى ما لا نهاية . قال الجنيد(56): الشكر أن لا يستعان بشيء من نعم الله تعالى على معاصيه. ومن أسماء الله الحسنى الشكور ، ومعناه أنه يجازي عباده على الشكر ويعطي الكثير من الثواب على القليل من العمل.
الشكر عبادة ، وهو من عبادات القلوب قبل الألسنة ، لكن له دلائل تخبرك بصدق الباطن . من هذه الدلائل كثرة العبادة ، فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم بالليل حتى تورمت قدماه وهو يعلم أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولما سئل عن ذلك قال: ” أفلا أكونُ عَبدا شَكورا ” (57) ومن دلائل الشكر لله تعالى على نعمه الكثيرة عدم إزدراء حتى النعم القليلة ، ومنها أيضا شكر الناس على إحسانهم مهما قلّ فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله. وقد تعهد الله سبحانه وتعالى بالزيادة للشاكرين فقال: ” لَئِن شَكَرتُم لأزيدنَّكُم ” (58) ، ومن دلائل الشكر أيضا إظهار نعم الله على العبد ، فالله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده(59) شرط أن لا يكون ذلك مباهاة أو رياء أو سمعة . والشكر بالأفعال هو أبلغ من الشكر باللسان . فشكر نعمة المال الصدقة ، وشكر الصحة إتعاب البدن في مرضاة الله وشكر نعمة الجاه قضاء حوائج الناس،فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ما أنعم الله على عبد نعمة فأسبغها عليه ، ثم جعل إليه حوائج الناس فتبرم بها إلاّ وقد عرض تلك النعمة للمهالك ” (60).ـ
والزوجة المؤمنة الصالحة هنا خير ما يعين المرء على أمور دينه في الدنيا من حفظ لنفسها وطمأنة لزوجها وحسن تربية لولدها ، وهي نعمة عظيمة تستحق الشكر الكثير لمن أوتيها . ويحث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث على تخير الزوجة المؤمنة لأن ذلك مفتاح لنعم وأعمال صالحة كثيرة أخرى.
ـ 45 ـ دوام فعل الخير عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم فقال: ” أوَ ليسَ قَد جَعَلَ اللّهُ لَكُم ما تَصَدَّقونَ؟ إنّ لَكُم بِكُلّ تَسبيحَة صَدَقَة وَبِكُلّ تَكبيرَة صَدَقَة وَبِكُلّ تَهليلَة صَدَقَة وبِكُلّ تَحميدَة صَدَقَة وَأمر بِمَعروف صَدَقة وَنَهي عَن مُنكَر صَدَقَة وَفي بِضعِ أحَدِكُم صَدَقة ” ، قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته يكون له فيها أجر؟ فقال: ” أرأيتُم لو وَضَعَها في الحَرام أليسَ كانَ يكونُ عليهِ وِزر؟ ” قالوا بلى ، قال: ” فكذلك إذا وَضَعَها في الحلالِ يَكونُ لَه
| |
|
| |
ملك روحي مراقبة عامة
العمر : 47
| موضوع: رد: الباب الأول الاستقامة في السرائر الخميس ديسمبر 02, 2010 7:52 am | |
|
ـ 46 ـ إجتناب الآثام
عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البر والإثم فقال: ” البِّرُ حُسنُ الخُلُق ، والإثمُ ما حاكَ في صَدرِكَ وكَرِهتَ أن يَطَّلِعَ عَليهِ النّاسُ ” .
(رواه مسلم)
إن تعريف الإثم الوارد في هذا الحديث تعريف ينبع من داخل النفس ، لا بحسب فتاوى المفتين أو أهواء أهل ألأهواء. إن من الناس من يقصد هذا العالم أو ذاك المفتي يسأله ويحس بأن ما يطلب الفتوى فيه للشرع جواب معين لا يحبه هو ، فيريد من غيره أن يشجعه على الإثم . فتراه يحاول انتزاع الفتوى من فم غيره تارة بالجدال وتارة بصياغة السؤال بطريقة بحيث يحصل على الجواب الذي يريده. وهذا لا يغني من الحق شيئا ولا يحل حراما ، فالإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس وهو تعريف يستطيع كل شخص أن يميز بواسطته بين الحق والباطل بشرط الصدق مع النفس. كما يدأب بعض الناس على التحايل على الشريعة بفتاوى توافق أهواءهم كما فعل بنو إسرائيل حين منعوا من الصيد في السبت ، فحبسوا السمك وصادوه يوم الأحد وحينما حرمت عليهم أصناف من الأنعام استحلوا شحومها . فمثل هذا التحايل لا يحل حراما ولا يقلل إثما لأن الله تعالى يعلم ما تخفي الصدور.
وبداية المعصية تكون خاطرة عابرة . يقول إبن القيم الجوزية(1) في كتاب الفوائد: دافِعِ الخطرة ، فإن لم تفعل صارت شهوة ، فحاربها ، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمّة ، فإن لم تُدافعها صارت فعلا ، فإن لم تتداركه بضده صار عادة فيصعب عليك الإنتقال عنها.
إن المعاصي التي نهى عنها الله عزوجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم واضحة للمؤمن ، فهو يفر منها ولا يقترب منها . لكن الشيطان لا يدع إبن آدم دون أن يحاول تزيين السيئات له. أما عباد الله المخلصين فهم يقظون على الدوام ، فإذا ما وسوس لهم الشيطان سوءا تذكروا فإذا هم مبصرون ، ” إنّ الّذين اتَّقوا إذا مَسَّهُم طائف مِنَ الشيطانِ تَذَكّروا فإذا هُم مُبصِرونَ ” (2 ، وهذه الوسوسة هي بداية الإثم وهي من الصغائر التي يغفرها الله إن لم يتبعها فعل . فالمؤمن حذر مراقب لنفسه سواء في أقواله أو في أفعاله أو في خواطره. فإذا ما خطر له خاطر سوء ، ذكر الله تعالى وعدل عن فعل المعصية فتكتب له حسنة ، كما مر في الحديث (1).ـ
يجب على المسلم أن يهتم بالإبتعاد عن النواهي التي نهى الله عنها أو نهى عنها رسوله صلىالله عليه وآله وسلم حتى أكثر من إهتمامه بإتباع الأوامر. فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ” فإذا أمَرتُكُم بشيء فأتوا منهُ ما إستَطَعتُم وإذا نَهيتُكُم عن شيء فدَعوهُ ” (3).ـ
ـ 47 ـ إجتناب عقوق الوالدين وقول الزور عن أبي بكرة(4) رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” ألا أُنبِّئُكُم بأكبَرِ الكَبائر - ثلاثا؟ ” قلنا بلى يارسول الله ، قال: ” الإشراكُ باللهِ وعُقوقُ الوالِدين ” ، وكان متكئا فجلس ، فقال: ” ألا وقولُ الزورِ وشَهادَةُ الزور ” فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت. (متفق عليه) الكبائر هى الذنوب العظيمة التي يلحق بالمرء إثم كبير إذا إرتكبها وقد يترتب عليه عقوبة شرعية أو كفارة . وأعظم الذنوب على الإطلاق هو الشرك بالله شركا واضحا كادعاء الولد. قال تعالى: ” إنّ اللّهَ لا يَغفِرُ أن يُشرَكَ بِهِ ويَغفِرُ ما دون ذلك لِمَن يَشاء ” (5). ومن أشرك بالله فقد كفر. ويتبع ذلك من إرتدّ عن الإسلام بإعلانه ذلك ، أو بإنكاره معلوما من الدين كالنبوة أو الملائكة أو التكذيب بآيات القرآن وما شابه ذلك . أما الكبائر الأخرى فقد تم تحديدها في هذا الحديث وفي بعض الأحاديث الأخرى . لكن من بين تلك الكبائر ما هو من أكبرها فليست الكبائر كلها متساوية.
ومن أكبر الكبائر عقوق الوالدين ، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله: ” وقَضى رَبُّكَ ألاّ تَعبُدوا إلاّ إيّاهُ وبالوالِدينِ إحسانا ، إمّا يَبلُغَنّ عِندَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أو كِلاهُما ، فَلا تَقُل لَهُما أُف ولا تَنهَرهُما وقُل لَهُما قولا كَريما . واخفِض لَهُما جَناح الذُّلّ من الرحمَةِ وقُل رَبّ ارحمهُما كما رَبّياني صَغيرا ” (6) ، وفي الوقت الذي دعى الله سبحانه وتعالى إلى عدم تولي الكفار فإنه أوصى بمصاحبة الوالدين في الدنيا بالمعروف وبرهما حتى وإن كانا كافرين واستثنى إطاعتهما إن هما أمرا بالشرك بالله: ” وإن جاهداكَ على أن تُشرِك بي ما ليسَ لَكَ بِهِ عِلم فلا تُطِعهُما وصاحِبهُما في الدنيا مَعروفا ” (7).ـ
أما الكبيرة الأخرى التي ذُكرت في هذا الحديث فهي شهادة الزور وقول الزور ، لما يترتب عليها من كثير آثام مفاسد ، كأخذ الأموال بغير حق والظلم والتباغض والشقاق والخصام وربما الإقتتال . وعلى المؤمن أن يحذر من شهادة الزور وقول الزور أشد الحذر ، فإن ذلك لا ينحصر في الشهادة بين المتخاصمين أمام القضاء فقط ، بل يدخل في كثير من المعاملات التي يتعامل بها الناس وتتضمن أكلا لأموالهم بغير حق أو ظلما للناس. فمن أعان الظالم على ظلمه بكلمة يعلم أنها كذب ، فهي شهادة زور. وإن مدح معتديا فشجعه على عدوانه فهو قول زور... ومشاركة في إرتكاب العدوان وهكذا وقد عُدِّدَت أكبر الكبائر في الحديث الآتي (48) ، وفيه سماها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسبع الموبقات.
ـ 48 ـ إجتناب السبع الموبقات عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” إجتَنِبوا السَبعَ الموبِقاتِ: الشِركُ باللّه ، والسِحرُ ، وقَتلُ النَفسِ الّتي حَرّمَ اللّهُ إلاّ بالحَقّ ، وأكلُ الرّبا ، وأكلُ مالِ اليتيمِ ، والتوَلّي يومَ الزَحفِ ، وَقذفُ المُحصَناتِ المُؤمِناتِ الغافِلات ”
(رواه أبو داود والنسائي والبيهقي)
هنا تعداد لسبع من الموبقات . وتحديد العدد هنا هو ليس حصرها بالسبع تحديدا بل هذه السبعة هي من أكبر الكبائر ، وقد مر بنا أن عقوق الوالدين أيضا من أكبرها رغم أنه غير مذكور في هذا الحديث. وقد سُئل ابن عباس رضي الله عنه عن عددها أهي سبعة؟ فقال هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. وبالطبع فإن كثيرا من الكبائر هذه هي إهمال الفرائض. فالصلاة فريضة وتركها كبيرة ، وكذلك الزكاة فريضة وتركها كبيرة ، والصيام فريضة وتركه كبيرة وحجاب المرأة فريضة وتركه كبيرة... وهكذا.
من الكبائر التي ذكرت هنا قتل النفس بغير حق ، فللنفس حرمة كبيرة ، قال الله تعالى: ” وَمَن يَقتُل مؤمِنا مُتَعَمّدا فَجَزاؤهُ جَهَنّمُ خالِدا فيها وغَضِبَ اللّهُ عليهِ ولعَنَهُ وأعَدّ لهُ عَذابا عَظيما ” (8). واشتراك أكثر من شخص واحد بذلك لا يقلل الذنب عن أي منهم فكلهم قاتل . وقد حذّر صلى الله عليه وآله وسلم من الإعانة على القتل والخصام ، فقال: ” مَن أعانَ على خصومَة لَم يَزَل في سَخَطِ اللّهِ حَتى يَنزِع ” (9). والقتل من الظلم في النفوس. أما الظلم في الأموال فالربا أحدها ، وقد شدد الله على تعاطي الربا في عدة آيات منها قوله تعالى: ” فَإِن لم تَفعَلُوا فَأذَنُوا بِحَرب من الله ورَسولِه ” (10) ، وقد شدد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وعيد آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده(11) ولم يتهاون في اليسير من الربا فكل قرض جرّ نفعا فهو ربا ، وكل الربا محرم حيث قال: ” الرّبا سَبعونَ بابا أهونُها كوَقعِ الرجُل على أمهِ ” (12).ـ
وأكل مال اليتيم هو من أبشع أنواع الظلم ، قال الله تعالى: ” إنّ الّذينَ يأكُلونَ أموال اليتامى ظُلما إنّما يأكُلونَ في بُطونِهم نارا وسيَصلونَ سَعيرا ” (13) ، وإن من المروءة الإحسان إلى الضعفاء كافة ، كاليتيم والمريض والأرملة والشيخ العاجز ، وهو ما تأخذ به الشرائع الدنيوية ، لكن ما يريده الله فوق كل ذلك حسن المعاملة الفردية من كل مسلم ، وهو ما لا تستطيع أن توفره القوانين لأنه أمر ينبع من الأيمان بالله وإبتغاء الثواب منه والخوف من عقابه.
أما الفرار يوم الزحف (في المعركة) هو جريمة بحق الأمة كلها لأن فرار الفرد الذي يكون جزءا من جسد الجيش المقاتل ، قد يتسبب في إدخال الوهن إلى قلوب أفراد آخرين ومن ثم قد يتسبب في خسارة المعركة وما يتبع ذلك من سفك المزيد من الدماء وإستباحة للحرمات وغير ذلك . إنّ عقوبة الإعدام التي تأخذ بها بعض القوانين لمن يفر من المعركة قد لا تجدي نفعا ، لأن الفار يمكن أن يختار بين موت محقق آني وموت مؤجل محتمل فيفر. أما إذا كان قد دخل المعركة مجاهدا في سبيل الله موقنا بأن وراء الفرار عذاب أليم يوم القيامة الذي لا بد أن يلاقيه فإنه سيختار الثبات . قال الله تعالى: ” ومن يولِّهِم يومَئذ دُبُرَهُ إلاّ متحَرّفا لِقِتال أو متَحيّزا إلى فِئَة فقد باء بِغَضَب من اللّهِ ومأواهُ جَهَنَّمُ وبِئسَ المَصيرُ ” (14). وقد رخص الله تعالى الإنسحاب المنظم إن زاد عدد الأعداء عن ضعف عدد المسلمين ولكن لا بد الآن لذلك من ضوابط أخرى بغير عدد الأفراد عند اختلاف المعدات وخاصة عند التباين الشاسع في تدميرها كما في الأسلحة الحديثة.
وقذف المحصنات من الجرائم الإجتماعية الكبيرة لأنها تشيع الفاحشة بين المسلمين ، وتنزع الحياء من المجتمع وتورث الضغائن والأحقاد وربما ارتكاب جريمة القتل . قال الله تعالى: ” إنّ الّذينَ يَرمونَ المُحصَنات الغافلاتِ المؤمناتِ لُعِنوا في الدنيا والآخِرة ولَهُم عَذاب عَظيم ” (15).ـ
أما السحر فإن منه ما هو إستخفاف بحق العقول البشرية ومنه ادعاء باطل بوجود قوى خفية تؤثر في الكون دون إعارة إهتمام لقدرة الله تعالى . ومن السحر المنتشر الآن مايسمى بتحضير الأرواح. وهو بحقيقته ليس تحضيرا لأية روح متوفاة وإنما وسيلة للاتصال مع الجن الذي يسمونه الوسيط والذي لا يوصلهم إلاّ الى جن مثله. أما صدق بعض الأخبار التي تحتويها مثل هذه الجلسات فإن مردَّه إلى أن مع كل إنسان قرين من الجن كما قال تعالى: ” وقيَضنا لَهُم قُرَناء فَزيَّنوا لَهُم ما بينَ أيديهِم وما خَلفَهُم ” (16) ، وهذا القرين الذي كان يعيش مع إمرئ قد توفي ربما يعلم عن ذلك المتوفي شيئا صحيحا قد ينقله إلى بني آدم فيصدقونه فيكل ما يخبرهم به من حق وباطل . إن من بين الجن ملاحدة كما بين الإنس فمن صدَّقهم بما يخبرونه ظنا منه أنه يكلم الأموات فينكرون أي حساب أوعذاب ، فتتزعزع عقيدة المرء وقد توصله إلى الإلحاد. لذلك شددَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في وعيد إتيان السحرة وتصديقهم فقال: ” مَن أتى عَرّافا أو كاهِنا فصَدَّقَهُ بِما يَقولُ فَقَد كَفَرَ بِما أُنزِلَ على مُحَمّد ” (17).ـ
ـ 49 ـ إجتناب الزنا وشرب الخمر والسرقة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:ـ ” لا يَزني الزّاني حينَ يَزني وهُو مؤمِن ، ولا يَسرِقُ السارِقُ حينَ يَسرِقُ وهو مُؤمِن ، ولا يَشرَبُ الخَمرَ حينَ يَشرَبُها وهُو مؤمِن ، ولا يَنتَهِبُ نَهبَة ذات شَرَف يَرفَعُ النّاسُ إليهِ أبصارَهُم حين يَنتَهِبَها وهو مؤمِن ” (رواه الشيخان والنسائي)
حرم الله الزنا وشدد في عقوبة الزناة ، وحرم حتى التقرّب من الزنا أيضا فقال: ” ولا تَقرَبوا الزنا إنّهُ كان فاحشَة وساء سَبيلا ” (18) ، وهكذا فكل ما يقرب من الزنا هو حرام كالقبلة والتبرج وإظهار الزينة المثيرة للشهوة والملامسة ونشر الصور والأفلام الخليعة وقول الشعر الماجن وغير ذلك من مثيرات الشهوات وما يقرب من إرتكاب الفاحشة . ويتبع الزنا في التحريم بل ربما زاد عليه فعل قوم لوط. ولفظ وهو مؤمن في الحديث تشير إلى عظم الذنب ، وأن فاعل هذه المحرمات يخرج بفعله هذا عن حضيرة المؤمنين ، فهو على أحسن تقدير من الذين قالوا أسلمنا بأفواههم ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم.
والسرقة إحتياز مال الغيرالمصون خلسة والنهب هو إحتيازه علانية . ففي حين يخشى السارق العقوبة ، فإن المنتهب لا يخشى العقوبة لذلك يجاهر بفعله ، وقد يكون هو واحدا ممن إستأمنه الناس على دمائهم وأعراضهم وأموالهم ، وربما يعتبر ذلك من الرجولة فيفاخر الناس بفعلته القبيحة . فأموال المسلمين عليهم حرام إلاّ عن طيب نفس منهم . ورغم أن عقوبة السارق في الدنيا أليمة إن إكتشف أمره ، إلاّ أن العقوبة يوم القيامة أشد لمن لم يتب قبل فوات الأوان ، وليس لسارق أو منتهب توبة إلا إذا إستحله صاحبه.
أما الخمر فهي أم الكبائر وقد حرم الله شربها وعصرها وسقيها والجلوس على مائدتها وبيعها وشرائها سواء سميت بإسمها أو بغير إسمها كالبيرة أو النبيذ أو الويسكي ويتبع الخمر في حكمه كل المسكرات والمخدرات سواء في ذلك ما أسكر منه القليل أو الكثير أو ما خدّر. إن نعمة العقل من أكبر نعم الله تعالى ، لذلك فإن إذهاب العقل ولو لفترة قليلة إبتغاء لذة تافهة ، لايليق بالمسلم قإن الله قد كلفه بالإنتفاع بتلك النعمة الكبيرة لا الإستهانة بها.
ـ 50 ـ إجتناب الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:ـ ” إن كذبا عليّ ليسَ كَكَذِب على غيري ، مَن كَذبَ عليّ مُتَعَمّدا فليَتَبوأ مَقعدَهُ من النّار ” (رواه مسلم)
لقد مر بنا كذلك حديث آخر في المعنى نفسه تحت الرقم (14) ، فالكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمدا من الكبائر ، ولا يشفع لمن كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسن نيته إن إدعى أنه يكذب ليرغِبَ الناس في أمر حسن . والأكبر من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الكذب على الله تعالى . قال تعالى: ” فَمَن أظلَمُ ممن كَذَبَ على اللّهِ وكَذّبَ بالصِدقِ إذ جاءَهُ أليسَ في جَهَنَّمَ مَثوى للكافِرينَ ” (19). ومن الكذب على الله ورسوله إختلاق أحاديث أو وضعها أو نسبة شيء إلى الدين إبتغاء كسب دنيوي أو هوى نفس وهو يعلم أن ما يقوله كذبا وهو ما يقوم به بعض المتزيين بزي العلماء اليوم إبتغاء إرضاء أسيادهم لقاء متاع زائل . إن مثل هذا الحديث وغيره ، ورغبة من سلف هذه الأمة بحفظ الدين من أن تدخله الأحاديث الكاذبة التي يمكن أن تُنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد أنشأ السلف الصالح علم رواية الحديث ، وهو علم جليل قيظّ الله له من حفظ لهذه الأمة دينها ، لا بحفظ القرآن فقط ، بل بحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيضا . وقد بيّن علماء الحديث درجة الثقة بالأحاديث وبينوا ما ليس بحديث منها . فالأحاديث الموضوعة ليست بأحاديث ولا يجوز روايتها منسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إن الدقة في نقل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مطلوبة شرعا ، لأن أقواله دين ، وعلى المسلم أن يتأكد ويتحرى الدقة في الدين الذي يتعامل به مع ربه ، فلا ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ ما كان متأكدا من نسبته إليه ، والأفضل أن يعرف مصدره كذلك ، كما يتبع ذلك تفسير معناه على النحو الذي يليق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكل ذلك من الأمانة التي أمر الله بها.
ـ 51 ـ إجتناب الظلم عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” قال اللّهُ تعالى: يا عِبادي.. إنِّي حَرَّمتُ الظُلمَ على نَفسي وجَعَلتُهُ مُحَرَّما بينَكُم فلا تظالَموا ، يا عبادي.. كُلُّكُم ضّال إلاّ مَن هَديتُهُ ، فاستَهدوني أهدِكُم ، يا عِبادي.. كُلُّكُم جائع إلاّ مَن أطعَمتُهُ ، فاستَطعِموني أطعِمكُم ، يا عِبادي ، كُلُّكُم عار إلاّ مَن كَسوتُهُ ، فاستَكسوني أكسِكُم ، يا عبادي.. إنّكُم تُخطِئونَ باللّيلِ والنّهار ، وأنا أغفِرُ الذُنوبَ جَميعا فاستَغفِروني أغفِر لَكُم ، يا عِبادي.. إنَّكُم لَن تَبلُغوا ضُرّي فتَضُروني ولن تَبلُغوا نَفعي فتَنفَعوني ، يا عِبادي.. لو أن أوَلَكُم وآخِرَكُم وإنسَكُم وجِنَّكُم كانوا على أتقى قَلبِ رَجُل مِنكُم ما زادَ ذلك مِن مُلكي شيئا ، يا عِبادي.. لو أنّ أوَّلكُم وآخِرَكُم وإنسَكُم وجِنَّكُم كانوا على أفجَرِ قَلبِ رَجُل مِنكُم ما نَقَصَ ذلك مِن مُلكي شيئا ، يا عِبادي.. لو أن أوّلَكُم وآخِرَكُم وإنسَكُم وجِنَّكُم قاموا في صَعيد واحِد فَسألوني فأعطيتُ كُلّ سائِل مَسألَتَهُ ما نَقَصَ ذلك مما عِندي إلاّ كَما يَنقُصُ المِخيَط إذا أُدخلَ البَحرَ ، يا عِبادي.. إنَّما هي أعمالُكُم أُحصيها لَكُم ثُم أوفيكُم إيّاها ، فَمَن وَجَدَ خيرا فليَحمَدِ اللّه ومَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلومَنّ إلاّ نَفسَهُ ”
(رواه مسلم والترمذي)
من أسماء الله تعالى الحسنى: العدل ، فكل ما يحكم الله به هو العدل ، ليس فيه ظلم قيد أنملة ، ولا يرضى من عباده بعضهم على بعض إلاّ بالعدل . فالظلم ظلمات يوم القيامة . إن دواعي ظلم البشر بعضهم لبعض كامنة في أنفسهم يثير نوازعها الشيطان . فالأثرة والأنانية وحب العلو والتسلط من الأسباب الرئيسة للظلم ولكن المؤمن الذي يُحب لأخيه ما يحب لنفسه(20 ، والذي لا يرضى الظلم لنفسه كيف يرضاه لغيره؟ المؤمن يضع نفسه مكان المظلوم فلا يعامله إلا بما يحب أن يعامَل هو به. فلا يمنع الناس حقوقهم التي فرض الله أداءها لهم ، وهو ينصر المظلوم ما إستطاع إلى ذلك سبيلا ولو بكلمة رجاء عند من ظلمه ، ولو بالدعاء إن لم يستطع غير ذلك . ولكن يجب أن يكون الدعاء بعد محاولة نصرته ثم عدم الإستطاعة . أما الغافل عن نصرة المظلوم وهو مستطيع ذلك فهو من جملة من ظلمه. وعلى ذلك فنصرة المظلوم فرض كفاية إذا قام بها بعض المسلمين سقط الإثم عن الجميع وإن لم يقم بها أحد أثم من كان مستطيعا دفع الظلم ولم يساعد في دفعه. قال صلى الله عليه وآله وسلم : ” إتَّقوا دَعوةَ المَظلومِ وإن كانَ كافرا فإنَّهُ ليسَ دونَها حِجاب ” (21)ـ
وقال سعيد بن المسيب: لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلاّ بإنكار من قلوبكم لئلا تحبط أعمالكم الصالحة . وجاء رجل إلى سفيان الثوري ، فقال: إني أخيط ثياب السلطان هل أنا من أعوان الظلمة؟ قال بل أنت من الظلمة أنفسهم ، ولكن أعوان الظلمة من يبيع الإبرة والخيوط.
والظلم متعدد الأشكال ، فظلم النفس بتعريضها لمقت الله تعالى وغضبه بعدم إطاعة أوامره ، وظلم الأهل والولد بعدم إعطائهم حقهم أو إطعامهم الحرام أو عدم العدل بينهم ، وظلم الأمير لرعيته بعدم إعطائهم حقوقهم أو إيثار نفسه وخاصته عليهم وعدم المساواة بينهم وعدم تطبيق شرع الله بينهم ، وظلم المرأة عدم إطاعة زوجها وعدم الإهتمام بتربية أولادها ، وظلم ألأجير من استأجره بعدم إتقان عمله ، وهكذا . وكل هذه الأبواب مما حرم الله تعالى من الظلم.
وقد مر أن من أكبر أنواع الظلم: ظلم الضعفاء الذين لا يستطيعون أخذ حقوقهم كالأرملة واليتيم . وأن من أكبر أنواع الظلم الأخرى شهادة الزور وقول الزور قال تعالى: ” والّذين لا يشهدونَ الزورَ وإذا مَرّوا باللّغو مَرّوا كِراما ” (22) ، واليمين الغموس التي تغمس صاحبها في جهنم حين يحلفها وهو يعلم أنه كاذب إبتغاء إقتطاع حق غيره سواء إستفاد من ذلك هو أو غيره من الظلمة.
ـ 52 ـ العدل بين الرعية عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” ما من والٍ يلي رعية من المسلمين ، فيموت وهو غاش لرعيته ، إلا حرم الله عليه الجنة ”
(أخرجه البخاري)
قال الله تعالى: ” ولا تحسَبَنّ اللّهَ غافِلا عَمّا يَعمَلُ الظالِمون . إنَّما يؤخِّرُهُم لِيوم تشخَصُ فيه الأبصارُ ” (23). الظلم ظلمات يوم القيامة . وكلما عمّ الظلم ناسا أكثر كلما كان عقابه يوم القيامة أشد. فمن إستُرعِي على نفر فظلمهم ببخسهم حقوقهم أو بأخذ أموالهم بغير حق أو بتكليفهم ما لا يطيقونه أو بإستئثاره بحقوقهم لمصالحه فهو في النار ، فكيف بمن إسترعى أمانة أكثر من ذلك . وقد هدد الله الظالمين بقوله تعالى: ” وسيعلم الذينَ ظَلَموا أيّ مُنقَلَب يَنقَلِبونَ ” (24).ـ
إن من الظلم ، الرضا بالظلم والإعانة عليه. و ” من أعان ظالما على ظلمه سلّطه الله عليه ” (25). وإن أحد أسباب تمادي الظلمة في ظلمهم هو بطانة السوء وإعانة بعض الرعية الظالم على ظلمه. قال تعالى عن قوم فرعون: ” فاستَخَفّ قومَهُ فأطاعوهُ إنهم كانوا قوما فاسقين ” (26) ، وأنذر الله تعالى بأن عقوبة من أعانه ستكون يوم القيامة أشد العذاب: ” ويومَ تَقومُ الساعَةُ أدخِلوا آلَ فِرعونَ أشَدَّ العَذابَ ” (27) لاحظ بأنه ذكر أشد العذاب على آل فرعون وليس على فرعون نفسه وهم الذين قال عنهم صلى الله عليه وآله وسلم: ” أشَدُّ النّاسِ عَذابا يومَ القيامَة مَن باعَ دينَهُ بدُنيا غيرِهِ ”ـ
فالظالم بعيد عن مغفرة الله تعالى له حتى وإن تاب ، إلاّ إذا استحله الذين ظلمهم . وغش الرعية وظلمها له أشكال عديدة ، منها الخفي كالإعلام الكاذب والتعليم الذي لا يخدم مصلحة الأمة ونشر وسائل اللهو المحرمة ، ومنها الغش الواضح كالظلم في الأموال والأنفس والحقوق. لذلك فإن المؤمن إن كان راعيا لا يظلم رعيته بل يبتغي مصالحهم ويسهر عليها ، وإن كان من الرعية فهو لا يساعد ظالما على ظلمه ويتبرأ من غشه ويبينه للناس ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، فالأمانة موكلة بكل المسلمين حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: ” كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته ، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته ، والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته ، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ” (28).ـ
ـ 53 ـ التمايز بين الرجال والنساء عن أبن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله عليه وسلم:
” ثلاثة لا يَنظُرُ اللّهُ إليهِم يومَ القِيامَةِ: العاقّ لِوالِديه ، والمَرأةُ المُتَرَجِّلَةُ المُتَشَبِّهَةُ بالرِجالِ ، والديّوثُ. وَثلاثَة لا يَدخُلونَ الجَنَّةُ: العاقّ لِوالِديهِ ، والمُدمِنُ الخَمرِ ، والمنَّانُ بِما أعطى ” ـ
(رواه الطبراني والنسائي والحاكم)
خلق الله الرجل والمرأة من نفس واحدة: ” هُو الّذي خلقَكُم مِن نَفس واحدة وَجَعَلَ مِنها زوجَها لِيَسكُنَ إليها ” (29) ، وبذلك تساوى الرجل والمرأة في إنسانيتهما وما يترتب على ذلك من تكاليف ، لكنهما مختلفان في التركيب الجسدي بحيث كان أحدهما مكملا للآخر وليس بديلا عنه ، قال تعالى ” هُنّ لِباس لَكُم وأنتُم لِباس لَهُنّ ” (30). لذلك كان تشبُّه النساء بالرجال وتشبه الرجال بالنساء أمر مخالف لفطرة الله التي فطر الناس عليها . وإن ترجُل المرأة أو تخنث الرجل هو تعبير عن السخط على مشيئة الله تعالى: ـ” ولا تَتَمَنّوا ما فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بعضَكُم على بَعض ، للرِجال نَصيب مما اكتَسَبوا ولِلنَساءِ نَصيب مِما اكتَسَبنَ ـ”ـ (31). إن ترجل النساء يعني ذهاب الحياء وإبتذال المرأة وتعريض كرامتها للمهانة وتكليفها فوق ما تطيق. أما تخنث الرجال فيتبعه الميوعة واضمحلال الأخلاق. لذلك حرم الله تعالى التبرج للنساء وتقليدهن للرجال في اللباس والتصرفات ، وسنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سننا خاصة لهن في اللباس والخطاب والتعامل فيما بينهن أو مع الرجال ، مثلما سنّ سننا للرجال ، ” تِلكَ حُدودُ اللّهِ فَلا تَعتَدوها ومَن يَتَعَدَّ حُدودَ اللّه فاؤلئِكَ هُمُ الظالِمون ” (32).ـ
إن الحياء للمرأة هو أفضل ما يزينها . فإذا سقط حياؤها أصبح المجتمع أشبه بغابة تنتشر فيها الهوام . ولقد فرض الله الحجاب صيانة للمجتمع من الوصول إلى درك البهائم . لذلك فإستقامة المرأة تستوجب تمسكها بما فرض الله عليها من حجاب وعدم تبرج وغض للبصر وطاعة لزوجها أو الوليها وحفظ للأمانة الملقاة على عاتقها في بيتها وولدها ، وإن إضطرتها الحياة للعمل عرفت حدود الشرع مما أحل الله وحرم ولم تتعد ذلك أبدا . أما تصرف الرجل مع النساء ألاجنبيات فهو الآخر محدود بحدود الله مما فرض كغض البصر واجتناب الخلوة المحرمة والإبتعاد عن مواطن الشبهات وعدم الميوعة في خطابه للنساء وغيرها.
أما المنّان فهو الذي يؤذي الناس بتخجيلهم وجرح شعورهم بما أسدى إليهم من شيء يظنه فضلا . قال تعالى: ” ياأيُّها الّذينَ آمَنوا لا تُبطِلوا صَدَقاتِكُم بالمَنّ والأذى ” (33) ، فالمنّ خلق ذميم لا يليق بالإنسان السوي فكيف وهو محبط للعمل وممحق لأجور الآخرة؟ ولو فكر المنّان بما يمنّ به لعلم أن النعمة التي يمنّ بها هي من عند الله والله قدير على أن يسلبها منه ويعطيها لمن يمنّ بها عليه. والمؤمن الصادق يشعر بأنه إذا أعطى صدقة لفقير محتاج فإنه أصبح لهذا الفقير منّة عليه لأنه كان مساعدا له في إكتسابه الثواب من عند الله تعالى . فإن كان الأمر كذلك فكيف يشعر بمنّة على غيره مهما أسدى لغيره من معروف أو بذل من مال.
ـ 54 ـ إجتناب لعب القمار عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” مَن لَعِبَ بالنَردِ فقَد عَصى اللّهَ وَرَسولَهُ ”
( رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه)
لعب القمار محرم بالقرآن: ” ياأيُّها الّذينَ آمَنوا إنَّما الخَمرُ والميسِرُ والأنصابُ والأزلامُ رِجس مِن عَمَلِ الشيطانِ فاجتَنِبوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحون . إنَّما يُريدُ الشيطانَ أن يوقِعَ بينَكُم العَداوةَ والبَغضاءَ في الخَمرِ والميسِرِ ويَصُدَّكُم عَن ذكر اللّهِ وعَنِ الصَلاةِ فَهَل أنتُم مُنتَهونَ ” (34). والميسر بأنواعه من دور قمار ورهان سباق الخيل واليانصيب والرهان على أي نوع من الألعاب المسلية سواء ما ذكره الحديث من نرد أو غيره ، كل ذلك مشمول بالتحريم . ولقد بين الله بعض الأغراض الشيطانية من التسويل للناس في لعب القمار من إيقاع البغضاء بين الناس ومن الصد عن الصلاة ، إضافة إلى أكل أموال الناس بالباطل: ” ولا تأكُلوا أموالَكُم بينَكُم بالباطلِ ” (35).ـ
أما اللعب الذي لا يعتمد على الرهان ولا النرد ويمكن أن ينمي القابليات البدنية والذهنية كالمبارزة أو بعض الألعاب التلفزيونية التي شاعت مؤخرا والشطرنج ، فهي مباحة شرط عدم تسببها في تأخير فريضة أو قيام بواجب . بل ويمكن أن يكون بعضها مندوبا إذا كان مفيدا لتنمية القابليات البدنية والذهنية.
وسبق أن أوضحنا في شرح الأحاديث 1 ، 25 و 45 أن الترويح عن النفس ينقلب إلى عبادة عند حضور النية . ونضيف هنا شرطا آخر وهو أن تكون الوسيلة للترويح مباحة كشرط لكي ينقلب الترويح عن النفس إلى عبادة . فالله سبحانه وتعالى لم يأمر باتباع الصراط المستقيم دون أن يوضح السبل المشروعة المؤدية إلى ذلك وحث على الأخذ بها ، وحذر من الوسائل غير المشروعة حتى وإن كان فيها فوائد قليلة أحيانا . فالوسيلة المحرمة هنا هي الربح دون بذل جهد بدني أو فكري أو بإستغلال المصادر الطبيعية التي سخرها الله سبحانه وتعالى لبني آدم ، بل استخدام لظواهر ليس للإنسان فيها فضل كالحظ أو إستغلال سذاجة بعض الناس وغشهم بوسائل ما أنزل الله بها من سلطان.
ـ 55 ـ الورع عند كسب الرزق عن كعب بن عجرة(36) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” كُلّ لَحم نَبَتَ مِنَ الحَرامِ فالنّار أولى بِهِ ”
(رواه الترمذي وحسّنه)
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إتق الله بطاعته ، وأطع الله بتقواه ، ولتخفَّ يداك من دماء المسلمين وبطنك من أموالهم ولسانك من أعراضهم . فرض الله إكتساب الرزق من الحلال وحرم إكتسابه من الطرق غير المشروعة من غش وسرقة ورشوة ونقص في المكيال وغصب أموال الناس. فمن اكتسب المال من الحرام فقد البركة ، فلا ترى أثرا صالحا لماله ، وإن أنفق ماله في غذاء نفسه فهي ستلقى عقابها في الآخرة ، وإن غذى به عياله فقد غشهم وما نصح لهم فلا عجب إن عقَّه ولده وفسدت أخلاق من يعيلهم نحوه ونال عقاب ما فعل في حياته ولعذاب الآخرة أشد.
قالت عائشة رضي الله عنها إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة ، هو الورع. وكان عبد الله بن المبارك يقول: رد درهم شبهة أحب إلي من أن أتصدق بستمائة ألف درهم.
قال سهل التستري: من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى . فالمعدة موضع يجمع الأطعمة ، فإذا طرحت فيه الحلال صدرت ألأعضاء بالأعمال الصالحة وإذا طرحت فيه الشبهة إشتبه عليك الطريق إلى الله وإذا طرحت فيه التبعات كان بينك وبين الله حجاب.
إن لأكل الحلال علاقة وثيقة بإستجابة الدعاء. فقد روى مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” ألرَجُلُ يطيلُ السَفَرَ أشعَثَ أغبَر يَمُدّ يدهُ إلى السماء يا رَبّ يارَبّ ومطعمهُ حَرام ومَلبَسُهُ حرام فأنّى يُستجابُ لَهُ ”
وليس لمنفق المال الحرام في طرق الخير من ثواب . فإن الله لا يمحو السيئ بالسسيئ ولكنه يمحو السيئ بالحسن ، يقول سفيان الثوري رضي الله عنه: من أنفق من الحرام في طاعة الله تعالى كان كمن طهّر الثوب النجس بالبول والثوب النجس لا يطهره إلا الماء.
ـ 56 ـ إجتناب الكذب والخيانة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” يُطبَعُ المُؤمِنُ على كُلّ خُلُق ليس الخيانةُ والكذبُ ”
(رواه البيهقي وأحمد)
الكذب إذا جبل عليه المرء قاده لا محالة إلى النار. فالكذب يقود إلى النفاق وهو أساس كل الأعمال الخبيثة . فمرتكب الخطايا الكبيرة إن لم يكن كذابا فإنه يخشى إن صدق القول مع الناس أن يفتضح أمره فيكون كذبه حافزا له على الإستمرار في إرتكاب الذنوب . وإخلاف الوعد ما هو إلاّ كذب فعلي وقولي معا . والغش والخيانة كذب بالأفعال وقول الزور وشهادة الزور ماهي إلاّ كذب في أبشع صوره وهكذا كان الكذب لمن إعتاد عليه أساسا للخبائث بل هو أكبر من أم الخبائث -الخمر-.
أما الأمانة فقد قال الله تعالى فيها: ” إنّ اللّه يأمُرُكُم أن تُؤدوا الأماناتِ إلى أهلِها ” (39) ، فخيانة الأمانة لا يُجبَلُ عليها مؤمن ولن يوفق الله خائنا في مسعاه: ” وأنّ اللّهَ لا يَهدي كيدَ الخائنينَ ” (40). وأكبر الخيانة هي خيانة الله ورسوله التي هي النفاق الخالص. والرياء بالأعمال من الخيانة ، وعدم حفظ ما إؤتُمن عليه المرء من مال أو عمل يتكسب به أو يوثق منه عليه ، كل ذلك من الخيانة . بل إن من أعظم الخيانة أن تحدث جليسك بحديث تكذب عليه فيه وهو مصدِّق لك . والدعاية الكاذبة لسلعة أو رأي هو خيانة . ولا تجوز الخيانة حتى مع من خانك . ” أدّ الأمانةَ إلى مَن إئتَمَنَكَ ولا تَخُن مَن خانَكَ ” (41)ـ. فالمؤمن قد امتزج الصدق وحفظ الأمانة بدمه ولحمه وأخذ عليه لبّه ، فلا يعرف الكذب والخيانة.
ومن أنواع الخيانة القبيحة: التجسس. فالتجسس هو خيانة لمن أمن جانب المرء بينما هو يتلصص على الخفايا سواء كان ذلك لنفسه أو لغيره. قال تعالى: ” ولا تَجَسَسوا ولا يَغتَب بَعضُكُم بَعضا ” (42) ، والتجسس على المسلمين من أقبح الأخلاق وأرذلها ولا يقوم بها إلا من باع دينه إبتغاء متاع قليل من متاع الدنيا.
ـ 57 ـ إجتناب اللعن والفحش عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” ليسَ المؤمِنُ بِطَعّان ولا لعّان ولا فاحِش ولا بَذيء ”
(رواه البخاري في الأدب وأحمد وإبن حبان والحاكم)
إن اللعن والسب والشتم والفحش في الكلام والطعن في الأنساب ، كل ذلك ليس من شيم المتقين . وسباب المسلم فسوق يعني أن السابّ نفسه فاسق لأن سباب المسلم فسوق وقتاله كفر(43). أما لعن من فعل فعلا معينا دون تخصيص لأحد فهو جائز ، فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه ، ولعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء ، ولعن من لعن والديه ، ومن عمِل عمَل قوم لوط ، والراشي والمرتشي ، والمحتكر ، والخمر وشاربها وساقيها وآكل ثمنها وبائعها ومستقيها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه ، ولعن المرأة إذا خرجت من دارها بغير إذن زوجها ، ولعن النامصة والمتنمصة ، ولعن المرأة إذا باتت وزوجها عليها ساخط ، ولعن من خبب إمرأة على زوجها ، وقد لعن الله تعالى في القرآن الظالمين والكاذبين: ” ألا لَعنةُ اللّهِ على الظالِمين ” (44) ، ” ثُمّ نَبتَهِل فَنَجعَلْ لَعنةَ اللّهِ على الكاذِبينَ ” (45).ـ
إن من أشنع أنواع السباب رمي المسلم بالكفر. ومثل هذا شائع بين مدّعِي العلم وهم أبعد ما يكون عن العلم حيث يتهمون من يخالفهم في الرأي به. وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تكفير المسلمين ، لأن من قال لأخيه يا كافر ، باء بها أحدهما(46) ، أي إما أن يكون صادقا أو أن تعود كلمة الكفر عليه هو والعياذ بالله.
والمؤمن بعيد عن السب والشتم ولا يستخدم الألفاظ البذيئة في جد ولا هزل ولا في رضا أو غضب . ومن الضروري تنشئة الأطفال بعيدا عن إستخدام تلك الألفاظ لأن محوها بعد ما يكبر الشخص إن تعوّد عليها وهو طفل صغير صعب ، وحتى إن تركها فربما تفوه بها دون شعور في حالات الغضب.
ـ 58 ـ إجتناب الإحتكار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” مَن احتَكَرَ حَكرَة يريدُ أن يُغلي بِها على المُسلمينَ فهُو خاطئ وقد بَرِئت مِنهُ ذِمَّةُ اللّهِ ورَسولِهِ ”
(رواه أحمد والحاكم)
الإحتكار بغية رفع الأسعار على المسلمين حرام . ولفظة خاطئ في الحديث لا تعني صغر ذنب المحتكر لأن تتمة الحديث تفسر معنى الخطأ حيث أن براءة ذمة الله ورسوله لا تكون إلاّ على أمر من الكبائر. فالإحتكار خلق ذميم يجعل المحتكر يفرح بشقاء غيره متجردا من الإنسانية . إن المال في يد المؤمن عارية (أمانة) قد إستودعه الله تعالى إياها يستفيد منها ويفيد غيره إلى أجل مسمى . أما المال في يد المحتكر فهو كنياب السباع في الغابة يؤذي به عباد الله واضعا أنانيته فوق كل إعتبار لكي يحصل على المزيد من المال ، ولا يكاد يشبع إلاّ من التراب ويتوب الله على من تاب.
ويزداد ذنب المحتكر كلما كانت الحاجة إلى السلعة التي يحتكرها أشد من قبل الناس. فمحتكر الطعام الضروري أكبر إثما . والغني الذي يجمع المزيد من الأموال بجشع وشراهة في أوقات كروب الناس من غلاء أو حروب أو فقدان للأمن يرتكب إثما كبيرا . والإنفاق في مثل تلك الأوقات من أعظم القربات عند الله. قال تعالى: ” فلا إقتَحَمَ العَقَبَةَ ، وما أدراكَ ما العَقَبَة ، فَكّ رَقَبَة أو إطعام في يوم ذي مَسغَبَة ” (46). فالمؤمن يرضى بالقليل من الربح وهو سهل عند البيع والشراء ، فإذا مانزلت بالمسلمين مصيبة من غلاء أو قحط ، جعل نفسه واحدا ممن يعاني ، فيحزن لمصائبهم دون احتكار أو استغلال لتلك المصائب.
ـ 59 ـ إجتناب الترف عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: نهانا رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم عن أن نَشرَبَ في آنيةِ الذَهَبِ والفِضَّةِ وأن نأكُلَ فيها ، وعَن لِبس الحَرير والديباج وأن نَجلِسَ عَليها. (أخرجه البخاري)
التمايز الذي فرضه الله بين الرجال والنساء لِحِكَم بالغة ، منها تعزيز رجولة الرجل وأنوثة المرأة . وقد مر تحريم تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال . ولإحداث المزيد من التمايز في المظهر ، حرم الله تعالى على الرجال هذه الأصناف من اللباس. أما الطعام والشراب في أنية الفضة والذهب فهو دليل على الترف والبذخ والبطر الذي إن حل في أمة أذهب عنها النعم وأزالها عنها فإن الترف يزيل النعم.
لقد أحل الله الزينة لعباده : ” قُل مَن حَرَّمَ زينَةَ اللّهِ التي أخرَجَ لِعِبادِهِ والطيباتِ مِنَ الرِزق ” (47) ، لكن ذلك مقيد بحدود أن لا يكون في ذلك إسراف وتبذير ولا إزدراء لنعم الله ولا عجب ولا تكبر. ولقد أحل الله للنساء أصنافا من الزينة أمام أزواجهن ومحارمهن من الرجال ، وحرم على الرجال أصنافا من الزينة كالذهب والحرير. وما ذلك إلاّ لما وضع لكل من الصفات وأوكل إليهم صنفا من الواجبات.
ـ 60 ـ حب صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” لا تَسُبّوا أصحابي ، فلو أن أحدَكُم أنفَقَ مِثلَ أُحُد ذَهَبا ما بَلَغَ مَدّ أحَدِهِم ولا نُصيفَهُ ” (رواه البخاري)ـ
لقد إختار الله تعالى بني آدم من بين سائر المخلوقات ، واختار إسماعيل عليه السلام ليكون جدا لخير خلقه ، واختار أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكي تكون خير أمة أخرِجَت للناس ، واختار لرسوله صحبا وأتباعا وآل بيت لكي يكونوا أهلا للمساعدة في حمل تلك المهمة الصعبة . ألا يجب بعد ذلك على خَلَف الأمة أن يشكروا لأولئك الأسلاف حفظهم للشريعة وإبلاغهم إياها لمن جاء بعدهم ، والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفداؤه بأرواحهم وأموالهم . إن سب أولئك النفر الأبرار ألذين أحاطوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ما هو إلاّ إنتقاص من الدين نفسه. وبتحريض من أعداء الله يشوهون صورة أولئك الأصحاب الأبرار بهدف هدم الدين محاولين إيهام السذج من الناس أنه إذا كان دين الله لم يؤثر في صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم أقرب الناس إليه فتأثيره فيما سواهم أقل وصلاحه للناس يعود مشكوكا فيه. وإحترام سلف هذه الأمة من صحابة كرام وآل بيت النبوة الأطهار والتابعين وتابعيهم والأئمة المجتهدين وأئمة الحديث والعلماء الذين نذروا حياتهم لخدمة هذا الدين على مر العصور ، هذا الإحترام دليل على صلاح المرء نفسه. إن هذا الإحترام لأولئك النفر الأبرار لا يرفع أيّا منهم إلى درجة النبوة أو العصمة ، فكلهم كما قال الإمام مالك رضي الله عنه ، وهو أمام قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل رجل يؤخذ منه ويرد عليه إلاّ صاحب هذا القبر. فمن أصاب منهم فله أجران ومن أخطأ فله أجر. والدعاء لهم مثبت في نص القرآن: ” والّذينَ جأؤا مِن بَعدِهِم يَقولونَ ربَّنا اغفِر لَنا وَلإخوانِنا الّذينَ سَبَقونا بالإيمانِ ولا تَجعَل في قُلوبِنا غِلاّ لِلّذينَ آمَنوا رَبَّنا إنَّكَ رؤوف رَحيم ” (48).ـ
خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخلفاء الراشدون الذين أمر هو بإتباع سنتهم: ” عليكُم بِسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاء الراشِدينَ المَهديينَ مِن بَعدي ، عَضّوا عَليها بالنواجِذِ ، وإيّاكُم ومُحدَثاتِ الأمور.. ” (49) ، وهم ضمن العشرة الذين بشرّهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة . ومن الصحابة العلماء من نقلوا لنا الحديث وعلوم الدين الأخرى ، ومنهم من نشروا الدين ففتحوا العراق والشام ومصر وغيرها وبذلك كان لهم ثوابا إلى يوم القيامة ما سجد لله في هذه البلاد ساجد لأنهم تسببوا في ذلك . لذلك فإن سبَّهُم من الكبائر ويخشى أن يقود صاحبه إلى النفاق.
إن واجب المسلم أن يحب صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نتيجة حبه له. وعليه أن يحب آل بيته(50) الطيبين الطاهرين وذريته إكراما له ووفاء لبعض حقه فقد أوصى الأمة بهم . وعلى المؤمن أن لا يؤذي رسول الله في صحابته وآل بيته بذكر مساوئ تنسب إليهم ، وعليه أن يمسك عن ذكر ما اختلفوا فيه: ” تِلكَ أمّة قَد خَلَت لَها ما كَسَبَت ولَكُم ما كَسَبتُم ولا تُسألونَ عَمّا كانوا يَعمَلونَ ” (51). كما أن معاداة أولياء الله من الصحابة وآل البيت وغيرهم ممن جاء بعدهم إلى يوم القيامة عداء لصفوة الأمة ، ومحاربة للدين في شخص خيرة من يدين به. والله تعالى قد تعهد بنصرتهم: ” إن الله يدافع عن الّذين آمنوا إنّ اللّهَ لايُحِبّ كُلّ خوان كَفور ” (52) ، فالله سبحانه وتعالى يحب المؤمنين المتقين ويدافع عنهم ، فمن عادى لله وليا فقد وقف في صف أعداء الله فيؤذنه الله تعالى بالحرب ، سواء كان ذا نفوذ وسلطان أو رجلا من عامة الناس ، لذلك على المؤمن أن يحب الصالحين ويغض الطرف عن هفواتهم ولا يقع في غيبتهم وبغضهم ، لئلا يكون في صف أعداء الله تعالى . ولا يتصور أن الأولياء معصومون عن الأخطاء ، فهم يخطئون ، لكنهم إن تذكروا أو ذُكِّروا فاءوا واستغفروا . ومن أولياء الله الذين خلوا إلى ما قدموا بعد صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته: الأئمة المجتهدون والعلماء الأعلام ، ويجب عدم الركون إلى الخلاف بينهم أو نقد بعضهم لبعض ، فإن كان بينهم مخطئ ومصيب ، فإن ذلك لن يقلب سيئ أعمالنا حسنا ولا يغني عنا شيئا.
ـ 61 ـ إلتزام الحجاب للمرأة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” صِنفانِ مِن أهلِ النَّار لَم أرَهُما: قوم مَعَهُم سِياط كأذنابِ البَقَرِ يَضرِبونَ بِها النّاسَ ، ونِساء كاسيات عاريات مائلات مُميلات رؤسُهُنّ كأسنِمَةِ البُختِ لا يَدخُلنَ الجَنَّةَ ولا يُرِحنَ ريحَها ، وإنّ ريحَها ليوجَدُ مِن مَسيرَةِ كَذا وكَذا ”
(رواه مسلم)
كرّم الله تعالى المرأة ومن تكريمه لها فرض الحجاب صيانة لها من عيون السوء. فإنتهاك محارم الله من ترك للحجاب وتهتك وتبذل هو من الكبائر ، وهذا التطاول على حرمات الله تعالى ليس أمرا شخصيا بحيث يكون للمرأة الحق في قبوله أو رفضه ، بل هو حق المجتمع لأن النساء الكاسيات لجزء من أبدانهن عاريات للجزء الآخر والمتمايلات في مشيتهن ، لابد وأن يكن فاتنات لبعض من يراهن ، فالحجاب وقاية للمرأة من أن تستهان ووقاية للمجتمع من أن يقترب من الفحشاء ، لذلك كانت عقوبة المتبرجات يوم القيامة كبيرة كما بيّنها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فعملهن هذا محبط لغيره من الأعمال وبهذا يجدن أنفسهن يوم القيامة مفلسات من كل حسنة ، فلا يدخلن الجنة وهن أبعد الناس عنها.
والحجاب للمرأة كلٌ متكامل . فلم يفرض الله تعالى على المرأة أن تغطّي بدنها ثم تنتهك حرمات الله بإظهار الزينة كالروائح العطرية أو التبذل في الكلام أو الغناء. ولم يحرم عليها الإختلاط في الأسواق ليحلّ لها الإختلاط في البيوت مع من لا يحل مخالطتهم من الأقرباء أو المعارف. فالمؤمنة تطبق ما افترض الله عليها بنفس راضية مطمئنة ، وهي ترجو ثواب ذلك من الله والله عنده حسن الثواب.
أما الصنف الثاني الذين ذكرهم الحديث فهم الظَلمة الذين يعتدون على الناس بغير حق من أهل القوة والسلطة وأعوانهم وزبانيتهم . فالظلم ظلمات يوم القيامة والله بريء من الظالمين.
ـ 62 ـ عدم المجاهرة بالمعصية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
” كُلّ أمّتي مُعافًى إلاّ المُجاهِرونَ ، وإنّ مِنَ الإجهار أن يعمَلَ العَبدُ بالليلِ عَملا ثم يُصبِحُ قد سَتَرهُ ربُّهُ فيقولُ يا فُلانُ قد عمِلتُ البارِحةَ كذا وكذا وقد باتَ يستُرُهُ ربُّهُ فيبيتُ يستُرُهُ ربُّهُ ويُصبِحُ يَكشِفُ سِترَ اللّهِ عنه ”
(رواه مسلم)
إنّ الله تعالى لا يحب أن تشيع الفاحشة بين المسلمين . ” إنّ الّذينَ يُحِبّونَ أن تَشيعَ الفاحِشَة في الّذينَ آمَنوا لَهُم عَذاب أليم في الدُنيا والآخِرَةِ ” (53) ، وظهور المعاصي علانية يشيعها بين الناس ويعوّد الناس على عدم إنكارها ويقلل حياء مرتكبها فلا يستحي أن يرتكب غيرها . لذلك كان إظهار المعصية هو معصية مستقلة إضافية . فعلى من ابتُلِيّ بمعصية وسترها الله عليه أن لا يفضح نفسه بل عليه أن يتوب منها لعل الله تعالى يغفرها له ، فقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” ما سَتَرَ اللّهُ على عَبد ذنبا في الدُنيا إلاّ سَتَرَهُ عليه في الآخِرَةِ ” (54) ، وعلى المبتلى بالمعصية أن يدعو الله تعالى أن يعينه لكي يتخلص منها . إن الله تعالى لا يحب أن تشيع الفاحشة أو مخالفة الشرع بين المؤمنين ، فمن أفطر في رمضان فقد عصى الله تعالى ، أما من جاهر بإفطاره فقد جاهر بمحاربة الله تعالى . وعلى المؤمن أن يجتنب مواضع التهم ، فالمسافر أو المريض المرخص له بالإفطار لا يحق له إعلان إفطاره وعليه أن يستتر في طعامه وشرابه.
هناك من يظن أن إخفاء الفاحشة هو من النفاق ، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار. لذلك تجده يتحدث عنما ارتكبه من فواحش وآثام ظانّا أن ذلك يعفيه من صفة النفاق. والحق أن المفاخرة بارتكاب الموبقات هو مجاهرة بمحاربة الله وإشاعة للفواحش بين المؤمنين ، وهو مرتكب بذلك إثما إضافيا فوق إثمه ، وقد فقد الحياء بالتحدث عن الآثام مفاخرة . إن سكوت المبتلى بالفاحشة وهو كاره لها ليس معناه النفاق ، بل المنافق الذي يفعل الفاحشة وهو راض عنها ثم يتظاهر بالصلاح تكلفا ورياء.
ـ 63 ـ عدم إستصغار المحقرات من الذنوب وإجتنابها عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:ـ
ـ” إيّاكُم وَمُحقَرات الذُنوبِ ، فإنَّما مَثَلُ مُحقَرات الذُنوبِ كَمَثَلِ قوم نَزَلوا بَطنَ واد فَجاءَ ذلكَ بِعود وجاءَ ذا بِعود ، حَتّى حَمَلوا ما أنضَجوا بِهِ خُبزَهُم ، وإنّ مُحقَرات الذُنوبِ مَتى يؤخَذُ بِها صاحِبُها تُهلِكُهُ ” ـ
(رواه مسلم وأحمد وأبو داود)
إن محقرات الذنوب هي الصغائر التي يستهين بها المرء ، فإن أكثَرَ منها واستهان بها أوردته النار ، لذلك قيل: لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار. وعلى المرء أن لا ينظر إلى
| |
|
| |
ملك روحي مراقبة عامة
العمر : 47
| موضوع: رد: الباب الأول الاستقامة في السرائر الخميس ديسمبر 02, 2010 7:55 am | |
|
ـ 64 ـ الصدق
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ـ” إنّ الصِدقَ يَهدي إلى البّر وإنّ البرّ يهدي إلى الجَنّةِ ، وإنّ الرجُلَ ليَصدِقُ حتّى يُكتَبَ عِندَ اللّه صِدّيقا ، وإنّ الكَذِبَ يهدي إلى الفُجورِ وإنّ الفُجورَ يَهدي إلى النّار ، وإنّ الرَجُلَ ليَكذِبُ حتى يُكتَبَ عِندَ اللّهِ كَذابا ” ـ
(متفق عليه)
قال أحمد بن خضرويه(1): مَن أراد أن يكون مع الله فليلزم الصدق فإن الله تعالى يقول: ” يا أيُّها الذينَ آمَنوا اتَّقوا اللّهَ وكونوا مَعَ الصادقينَ ” (2). إن أفضل الصدق هو الصدق مع الله في السر والعلن أي أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . أما الصدق مع العباد فمنه صدق بالقلب وهو صدق العزم على أداء ما يريد ، وصدق باللسان وهو الإخبار بالشيء على حقيقته ، وصدق بالعمل وهو إيقاع العمل كما يجب . والصادق يوافق قصده قوله و فعله.
الصدق مع الناس يجب أن يكون أساس التعامل . ولا يريد الله أن يبنى المجتمع إلاّ على أساس من الصدق ، فإذا كان ذلك ، عاش الناس في طمأنينة وسعادة . أما إن كان الأساس هو الكذب تعب الناس وشقوا في دنياهم قبل أخراهم . ولقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصدق حتى أنه نهى عن نقل كلام يعرف الإنسان أنه كذب دون أن ينبه على ذلك وكفى بالمرء كذبا أن ينقل كل ما سمع . وقد مر بنا قوله أن المؤمن يجبل على كل خلق ليس الكذب والخيانة(3). قال بعض الصالحين: عليك بالصدق حيث تخاف أن يضرك فإنه ينفعك ، ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك.
شاع بين الناس أن هناك كذبا أبيضا وكذبا أسود. الكذب بصورة عامة حرام فهو أسود كله. إلاّ أن هناك إستثناءات ضرورية في حالات خاصة ، وهي حالات إختيار أخفّ الضررين . فإذا كان الإثم الذي يقع نتيجة الإخبار بالحقيقة أكبر من الإثم عند عدم ذكرها ، كحالات الصلح بين المتخاصمين الذين يذكر أحدهما الآخر بسوء ، فمن نقل أفضل ما سمع من أحدهما عن الآخر لم يكن كاذبا . كما أن الإخبار بالمعاريض (أي التلميح أوالتمويه) وسيلة لتحاشي الكذب . ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه حينما سأله أعرابي قبيل معركة بدر أنتم ممن؟ فقال: ” نحنُ من ماء ” ، فانصرف الأعرابي وهو يقول من أي ماء؟ أمن ماء العراق؟ بينما كان جواب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشتقا من قوله تعالى: ” واللّهُ خَلَقَ كُلّ دابَّة مِن ماء ” (4) فلم يكذب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يستفد الأعرابي من جوابه شيئا ، وهكذا على المؤمن أن يتخلص من المواقف الصعبة دون أن يخالف الشريعة بالكذب . وكثيرا ما تكون النجاة في الصدق. كان الشيخ محمد الرضواني ـ(5) رحمه الله في مسجده فدخل عليه رجل هاربا ممن يريد أن يبطش به ظلما ، وطلب من الشيخ إجارته ، فأشار إليه أن يلف نفسه بحصير في المسجد. فلما دخل من يطلبه وسأل عنه الشيخ ، تذكر أن النجاة في الصدق وهو موقن بذلك ، فقال له هناك مشيرا إلى الحصير ، فظن الرجل أنه يهزأ به ، فانتهره وخرج ، ونجا الرجل الهارب
إن أحد أصناف البلاء الذي إبتلي به المسلمون اليوم هو الكذب . ففي الوقت الذي ترى فيه أمما أخرى تستند اليوم في معاملاتها بين أفرادها على الصدق ، وتربي أطفالها عليه من نعومة أظفارهم ، بينما المسلمون اليوم ، الذين أمرهم دينهم بالصدق ، ترى الكذب شائعا بينهم بكثرة ، حتى إنك لتجد بينهم اليوم من يفخر به ، بينما كان عرب الجاهلية يستحيون أن يعرفوا بالكذب . فحينما أدخل أبو سفيان بن حرب مع نفر من قومه وكان مشركا عقب صلح الحديبية على هرقل في أرض الشام ، وقد وصله كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما دعاه إلى الإسلام ، فسأل هرقل أبا سفيان جملة أسئلة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يكذب عليه ، وكانت إجاباته كلها مدحا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خشية أن يعرف أمام قومه بالكذب ، فهو خلق ذميم كانت تأبى أنفسهم أن يعرفوا به.
ـ 65 ـ الحياء
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر برجل من الأنصار يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:ـ
” دَعهُ فإنّ الحياءَ مِن الإيمانِ ”
(متفق عليه)
وفي رواية لمسلم: ” الحياءُ كلُّهُ خير ” . الأنصاري كان يعظ أخاه أن يترك الخجل لأنه كان يتصور أن الخَجل يفقد الإنسان كثيرا من الحقوق كما يتصور البعض اليوم . وهنا ينهاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا التصور للحياء.
فالحياء خلق رفيع وهو عند المرأة أجمل . الحياء يمنع الإنسان عن الإتصاف بالأخلاق الوضيعة وعن السمعة السيئة وعن الأقوال الفاحشة وعن كل ما لا يرضاه الطبع السوي. أما إذا فقد المرء الحياء فإنه يفعل ما يشاء من معاصٍ أو آثام أو سوء خلق ولا يخشى في ذلك لوم قريب أو بعيد ، وقديما قيل إذا لم تستحي باصنع ما شئت..
وأعلى درجات الحياء هو الحياء من الله أن يجده ربه حيث ينهاه. قال صلى الله عليه وآله وسلم: ” إستَحيوا مِن اللّهِ حَقّ الحياء ” ، قالوا يا رسول الله كلنا نستحيي من الله قال: ” ليسَ كذلك الحياءُ من اللّهِ ، ولكن الحياء من اللّه أن لا تَنسوا المَقابِرَ والبَلى ، وأن لا تَنسوا الجوفَ وما وعى ، وأن لا تَنسوا الرأسَ وما احتوى ، ومَن يَشتَهي كَرامَةَ الآخِرَةِ يَدَع زينة الحياة الدُنيا ” (6) ، و ” الّذينَ يؤتون ما آتوا وقُلوبُهُم وجِلَة أنَّهُم إلى رَبِّهِم راجِعونَ ” (7). وقد كان عباد الله الصالحون من هذه الأمة ينصرفون من الصلاة على إستحياء من الله تعالى حيث هم موقنون بتقصيرهم ، وبذلك كانوا من الذين: ” يؤتون ما أتوا وقُلوبُهُم وجِلَة أنَّهُم إلى رَبِّهم راجِعونَ ” (8).ـ
الحياء الذي يمنع تعلم العلم والدين مذموم . وليس المقصود هنا نزع الحياء فيهما بل التغلب على الحياء عندما يمنع من التعلم للعلوم الدنيوية أو الأخروية . وقد كان نساء الأنصار لا يمنعهن الحياء أن يسألن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور دينهن وقد نلن المدح منه على ذلك.
ـ 66 ـ حفظ اللسان عن معاذ بن جبل قال قلت يا رسول الله أنؤاخَذُ بما نقول؟قال صلى الله عليه وآله وسلم:
” ثكِلَتكَ أمُّكَ يا مُعاذ وهَل يَكُبّ الناسَ في النّار على مَناخِرِهِم إلاّ حَصائِدُ ألسِنَتِهِم” .
(أخرجه الترمذي وصححه وإبن ماجه والحاكم)
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: من عدّ كلامه من عمله قلّ كلامه. وقال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: ما من شيء أحق بطول السجن من اللسان . وعلى المرء أن يتذكر على الدوام قوله تعالى: ” ما يَلفِظُ مِن قول إلاّ لَديهِ رَقيب عَتيد ” (9). وقال بعض الحكماء إنما خلق للإنسان لسان واحد وعينان واذنان ليسمع ويبصر أكثر مما يقول ، ثم أنه حبس بأربعة أبواب الشفتان مصراعان والأسنان مصراعان . وما يحصل الحكماء على الحكمة إلاّ بالتفكر والصمت.
للسان آفات لاتعادلها آفات عضو آخر في البدن . فمن آفاته الكذب ، والوعد الكاذب ، والغيبة ، والنميمة ، والمزاح ، والمراء ، والجدل ، والفحش في الكلام ، والكلام فيما لايعني وفضول الكلام ، والخصومة ، واللعن ، والسخرية والإستهزاء ، والحلف الكاذب ، والخوض في الباطل ، والتقعر ، والتشدق ، والتكلف في الكلام ، والغناء ، وقول الشعر الماجن ، وإفشاء السر ، والمدح أمام الممدوح ، والذم بما لا يستحق... ومثل هذه الآفات يستحق كل واحد منها الحذر من الوقوع في مساوئه ، وكلها من آفات اللسان . لذلك على المؤمن أن يقول خيرا أو ليصمت(10).ـ
وعلى المؤمن أن يراقب كلامه أكثر من كلام الناس ، فلا يتكلم إلاّ بعد رَوِيَّة وتفكر ، فإذا ما نطق بالكلمة ، خرجت الكلمة من سيطرته وأصبحت ملك من سمعها . أما قبل ذلك فهي ملكه إن شاء تفوه بها وإن شاء كتمها . وعلى المرء أن لا يستهين بالكلمة ، فرب كلمة أحدثت فتنة ، ورب فتنة تسببت في إزهاق أرواح أو في خصام وشقاق. ألا تستحق مثل تلك الكلمة أن يهوي بها صاحبها في جهنم ، كما قال عليه الصلاة والسلام: ” إنّ الرجُلَ ليَتَكَلّم بالكَلِمَةِ من سَخَطِ اللّهِ ما يَظُنّ أن تَبلُغَ ما بَلَغَت فيَكتُبُ اللّهُ عليه بها سَخَطُهُ إلى يوم القيامَة ” (11). وهكذا يكون اللسان واحدا من أكثر ما يدخل الناس النار كما سيأتي في الحديث الآتي.
ـ 67 ـ حسن الخلق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ، قال: ” تَقوى اللّه وحُسنُ الخُلُقِ ” ، وسُئِل عن أكثر ما يدخل الناس النار ، فقال: ” الفَمُ والفَرجُ ”
(رواه الترمذي وقال حسن صحيح)
سبق أن مر بنا في الحديث (46) قوله صلى الله عليه وآله وسلم ” أن البر حسن الخلق” . مدح الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ” وإنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظيم ” (12). وقد بلغ من حسن خلقه أن كان يقابل عداء قومه له بدعائه: ” اللّهُمَ اهد قومي فإنّهُم لا يَعلمون ” (13) ، وكان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: خَدمتُ النبي عشر سنين فما قال لشيء فعلته لِمَ فعلته ولا لشيء تركته لم تركته(14). وكان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم: ” اللّهُم إهدِني لأحسَنِ الأخلاقِ ، لا يَهدي لأحسنِها إلاّ أنت ، واصرف عني سيّئَها لا يصرف سيّئَها إلاّ أنت ” (15).ـ
روي أن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه دعا غلاما له فلم يجبه فدعاه ثانيا وثالثا فلم يجبه ، فقام إليه فرآه مضطجعا فقال أما تسمع يا غلام ، فقال نعم ، قال فما حملك على ترك جوابي؟ فقال أمنت عقوبتك فتكاسلت ، فقال إمض فأنت حر لوجه الله تعالى . وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا رأى واحدا من عبيده يحسن الصلاة يعتقه ، فعرفوا ذلك من خلقه فكانوا يحسنون الصلاة مراآة ، وكان يعتقهم ، فقيل له في ذلك فقال من خَدعنا في الله انخدعنا له. وكان الفضيل بن عياض يقول: لئن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إليّ من أن يصحبني عابد سيئ الخلق. وعرّف الحرث المحاسبي حسن الخلق بقوله: إحتمال الأذى ، وقلة الغضب ، وبسط الوجه ، وطيب الكلام.
المؤمن يكون حسن الخلق ، يألف الناس ويألفونه ، ويحسن معاملتهم ويبسط وجهه لهم ، وإذا غضب تذكر ففاء. وإذا لم تكن أخلاقه كذلك جاهد نفسه لكي يحسِّن خلقه ويدعو الله أن يعينه على ذلك ، ومجاهدة النفس في ذلك من أقرب القربات إلى الله تعالى.
والحديث من جوامع الكلم فهو يحث على التقوى كذلك ويحذر من شهوات الطعام والكلام الذان هما مما ينتج من الفم ومن شهوة الفرج
ـ 68 ـ إجتناب الغضب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
” ليسَ الشَديد بالصرعةِ إنَّما الشَديدُ مَن يَملِكُ نَفسَهُ عند الغَضَبِ ” .
(متفق عليه)
مدح الله المؤمنين بقوله: ” والكاظِمينَ الغيظَ والعافينَ عَنِ الناسِ ” (16) وكذلك : ”وإذا ما غَضِبوا هُم يَغفِرونَ ” (17)ـ فالغضب محتمل على ابن آدم ولكن ما مطلوب هو عدم فقدان العقل والسيطرة على النفس أثناء الغضب بحيث لا يرتكب أثناء غضبه ما لا يحبه الله من قول أو فعل.
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يغضب لنفسه ، وربما تطاول عليه بعض الجهلة أمام أصحابه فلا يغضب ، وينهى أصحابه أن يؤذوا مثل هؤلاء الجهلة ويأمرهم بالترفق بهم . أما إذا ما ارتكبت حرمة من حرمات الله تعالى فكان يغضب ، وربما يشتد غضبه فيأمر من ينادي بالناس لكي يبين لهم ما أشكل عليهم . وكان صلى الله عليه وآله وسلم ينصح لمعالجة الغضب بالوضوء فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ” إذا غضب أحَدكُم فليتوضَأ بالماءِ فإنَّما الغَضَبُ مِنَ النَّارِ ” ، أو أن يلصق خده بالتراب(18) ، وذلك تذكرة للإنسان بأن نهايته هي الموت وأن لا شيء من أمر الدنيا يستحق أن يغضب عليه لأن نهايته الفناء.
إن نهي المؤمن نفسه عن هواها عند ثوران غضبه وكبت تلك الأهواء هو من مجاهدة النفس ، وفي ذلك يمدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يستطيع ذلك ويصفه بالشدة ، وكلما كان كبت تلك الأهواء أسرع كلما كان ذلك أكثر ثوابا وأعظم أجرا فإن سرعة الفيء بعد الغضب دليل ضبط النفس ومخالفة هواها.
قيل لعبد الله بن المبارك: أجمِل لنا حسن الخلق في كلمة قال: أترك الغضب . وقال عبدالله بن عمر ما جرع رجل جرعة أعظم أجرا من جرعة غيظ إبتغاء وجه الله.
ـ 69 ـ العفو عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” ما نَقَصَت صَدَقَة مِن مال ، وما زادَ اللّهُ عبدا بِعَفو إلاّ عِزّا ، وما تواضَعَ أحَد للّهِ الاّرَفَعَهُ ” .ـ
(رواه مسلم والترمذي)
قال الله تعالى : ” خُذ العفوَ وأمُر بالعُرفِ وأعرِض عَنِ الجاهلينَ ” (19) ، وقال: ” وأن تَعفوا أقرَبُ للتَقوى ” (20)،وقال: ” فَمَن عَفا وأصلَحَ فأجرُهُ على اللّهِ ” (21).ـ
عن مبارك بن فضالة قال وفد سوار بن عبد الله في وفد من أهل البصرة إلى أبي جعفر المنصور ، قال :كنت عنده إذ أتي برجل فأمر بقتله فقلت يقتل رجل من المسلمين وأنا حاضر ، فقلت يا أمير المؤمنين ألا أحدثك حديثا سمعته من الحسن قال وما هو قلت سمعته يقول: إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الناس في صعيد واحد حيث يسمعهم الداعي وينفذهم البصر فيقوم مناد فينادي من له عند الله يد فليقم فلا يقوم إلاّ من عفا فقال: والله لقد سَمعتَه من الحسن؟ فقلت والله لقد سمعتُه منه فقال خلينا عنه.
قال بعضهم: ليس الحليم من ظُلم فحلم حتى إذا قدر إنتقم ، ولكن الحليم من ظُلم فحلم حتى إذا قدر عفى.. وقال عمر رضي الله عنه: تعلّموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم . وقال علي رضي الله عنه: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك ، وأن لا تباهي الناس بعبادة الله ، وإن أحسنت حمدت الله وإن أسأت إستغفرت الله تعالى.
إن ما ورد في هذا الحديث حث على عدم الحقد على الناس نتيجة أذاهم ومعاملتهم بالعفو ، وليس ذلك ظاهرا فقط فيما بينه وبينهم ، بل وباطنا أيضا فيما بينه وبين الله تعالى ، فهو يعفو عنهم ويدعو الله أن يهديهم ، كما حكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نبي يدعو: ” اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ” (22) ، بعد أن ضربوه فأدموه ، لذلك فهو يعفو عن أذاهم لشخصه. أما من أصر على محاربة الله ورسوله ودينه فلا عفو معه لأن حق الله تعالى في إقامة حدوده ليس بيد الناس إن شاؤوا أخذوا به وإن شاؤوا عفو عنه ، بل ذلك لله وحده وهو قد فرض حدوده لإقامة الحياة . أما شؤونهم الخاصة فقد حثهم الله تعالى على العفو عنها ، في هذا الحديث.
لما حلف أبو بكر رضي الله عنه أن لا ينفق على مَسْطَح (وكان أحد أقاربه) حيث كان من بين الذين تحدثوا بحديث الإفك عن عائشة رضي الله عنها ، وكان قبل ذلك ينفق عليه ، نزل قوله تعالى: ” ولا يأتَلِ أولوا الفَضل منكُم والسَعَةِ أن يؤتوا أولي القُربى والمساكينَ والمُهاجرينَ في سَبيل اللّهِ وليَعفو وليصفَحوا ، ألا تُحِبّونَ أن يَغفِرَ اللّهُ لَكُم ” (23) ، فقال أبوبكر: نعم نحب ذلك وعاد إلى الإنفاق عليه(24). وهكذا فالمؤمن لا يحقد على أحد ، بل يعفو ويصفح ، لكنه كَيِّسٌ فطن ولا يلدغ من جحر مرتين.
في عام الحديبية ، حاول ثمانون رجلا من التنعيم صلاة الصبح ليقتلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغتة ، فأمسكهم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجاؤوا بهم إليه ، فأعتقهم وأطلقهم(25) ، كما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه عفى عن الشاعر أبي عزة الجمحي بعد أسره في معركة بدر بعد تعهده أن لا يحارب المسلمين ، ولا يهجو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا المسلمين ، لكنه أخلف وعده بعد أن خضع لضغوط المشركين واشترك في غزوة أحد ، فأسره المسلمون وعند ذلك أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقتله. فذلك العفو هو جزء من وسائل الدعوة في تأليف القلوب وتحبيب الإيمان إلى النفوس.
وتطاول رجل على الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه قائلا: يا مبتدع يا زنديق ، فقال أبو حنيفة: غفر الله لك ، ألله يعلم مني خلاف ما قلتَ ، وإني ما عدلت به أحدا منذ عرفته ولا أرجو إلاّ غفرانه ولا أخاف إلاّ عقابه ، ثم بكى عند ذكر العقاب وسقط سريعا ، فلما أفاق قال له الرجل إجعلني في حل ، فقال كل من قال فيّ شيئا من الجهل فهو في حِلٍّ (حيث أن ذلك من حقوق نفسه فعفى عنه ) ، ومن قال فيّ شيئا مما ليس فيّ من أهل العلم فهو في حرج ، فإن غيبة العلماء تُبقِي شيئا بعدهم ( أي لا ينتهي أثرها بعد الكلام - لاحظ أن هذا من حقوق الله تعالى وليس من حقوق نفسه فلم يعف عنه) . وهكذا فإن العلماء الأتقياء يسيرون على هدي رسول الله صلى الله عليه في العفو عن حقوق أنفسهم . أما حقوق الله المتمثلة بغيبة وذم العلماء الأتقياء عن علم بذلك فهي موكلة لله تعالى.
ـ 70 ـ التواضع عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” إن اللّهَ أوحى إليّ أن تواضَعوا حَتى لا يَفخَرَ أحَد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد ”
(رواه مسلم)
التواضع من سيد الأخلاق والتكبر من سيئها . حكي عن الحسن البصري أنه ذكر قوله تعالى: ” وَعِبادُ الرَحمَنِ الّذينَ يَمشونَ عَلى الأرض هونا ” (26) ، فقال:المؤمنون قوم ذلل ، ذلت لله الأسماع والأبصار والجوارح حتى يحسبهم الجاهل مرضى ، والله ما بالقوم من مرض وإنهم لأصحاء القلوب ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة . وقال بعض العلماء(27): من أعطي مالا أو جمالا أو ثيابا أو علما ثم لم يتواضع فيه كان عليه وبالا يوم القيامة . وقال موسى بن القاسم كانت عندنا زلزلة وريح حمراء فذهبت الى محمد بن مقاتل(28)،فقلت يا أبا عبد الله أنت إمامنا فادع الله عز وجل لنا ، فبكى ثم قال ليتني لم أكن سبب هلاككم . قال فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم فقال إن الله عز وجل رفع عنكم بدعاء محمد بن مقاتل . وهذا دأب الصالحين لا يرون لعبادة أنفسهم وتقواها أية قيمة تجعلهم يعجبون بأنفسهم ولا يرون أن لهم فضلا على غيرهم . هذا في العبادة والتقوى فما بالك بالمال والجاه أو متاع الحياة الدنيا؟
إن التكبر أحد الأسباب الرئيسة للكفر. قال تعالى: ” سأصرِفُ عَن آياتيَ الّذينَ يتَكَبَّرون في الأرضِ بِغيرِ الحَقّ ” (29). ولم يكن سبب عناد فرعون هذه الأمة ، أبوجهل(30) إلا تكبره ، فحينما سئل عن سبب عدم إسلامه مع معرفته أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس بكاذب ، قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا الركب وكنا كفرسي رهان ، قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك هذا؟ والله لا نسمع له أبدا ولا نصدقه. فالتكبر هذا بسبب الجاه والشرف وعزة القوم والعشيرة أو في حالات أخرى بسببب المال أو المنصب أو العلم أوالذكاء والمقدرة أو كثرة الأتباع ، إنما هو من تسويل الشيطان.
إن العلاج الناجع للتكبر هو بمخالفة سببه عمليا ، فإذا وجد المرء داعيا للتكبر بسبب المال ، عليه أن يعالجه بمخالطة الفقراء والتواضع لهم ومنحهم الصدقات دون منّ أو شعور بأن له فضلا عليهم . وإن كان تكبره بسبب العلم والذكاء والعقل فعليه التواضع لمن يمكن أن يتعلم منه شيئا جديدا . ركب زيد بن ثابت فدنا منه ابن عباس ليأخذ بركاب فرسه ، فقال مهٍ! يا بن عم رسول الله فقال هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا . فأخذ زيد بن ثابت يد ابن عباس فقبَّلها وقال هكذا أُمرنا أن نفعل بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وقال عروة بن الزبير رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء ، فقلت يا أمير المؤمنين لا ينبغي هذا ، فقال لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت في نفسي نخوة فأحببت أن أكسرها ، ومضى بالقربة إلى حجرة إمرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها . ورؤي أبو هريرة رضي الله عنه وهو أمير المدينة وعلى ظهره حزمة حطب وهو يقول طَرِّقوا (اي إفسحوا الطريق) للأمير. وقال ابن عباس من التواضع أن يشرب الرجل من سؤر أخيه. سئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال أن تخضع للحق وتنقاد له وتقبله ممن قاله. وكان يقول قراء الرحمن أصحاب خشوع وتواضع وقراء الدنيا أصحاب عجب وتكبر. تشاجر أبو ذر وبلال رضي الله عنهما فقال أبو ذر لبلال يا إبن السوداء ، فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال له: ” أعيَّرتَهُ بأمهِ إنَّكَ امرؤ فيكَ جاهلية” ، فألقى أبو ذر نفسه على الأرض وحلف أن لا يرفع رأسه حتى يطأ بلال خده بقدمه فلم يرفع رأسه حتى فعل بلال ذلك(31).ـ
ـ 71 ـ ترك مالا يعني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” مِن حُسنِ إسلامِ المَرء تَركُهُ ما لا يَعنيهِ ”
(رواه الترمذي وابن ماجه)
إن الله تعالى قد خلق الخلائق مختلفين ، فما يصلح لبعض من أمور حياتهم لا يصلح للبعض الآخر. لذلك على المرء أن يهتم بإمور نفسه ولا يتتبع ما لا يعنيه ، ولا يسأل عن ذلك ، قال تعالى: ” يا أيُّها الّذين آمَنوا لاتَسألوا عَن أشياء إن تَبدَ لَكُم تَسُؤكُم ” (32)، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإستعانة على قضاء الحوائج الشخصية بالكتمان ، وهذا يبعد الناس عن النظر بعضهم إلى بعض وحسد بعضهم بعضا وتدخل البعض في شؤون بعض بما يؤدي إلى الخلاف والبغضاء والأحقاد. وفي هذا يقول الله تعالى: ” ياأيّها الّذينَ آمَنوا عَليكُم أنفُسَكُم لا يَضُّرُكُم مَن ضلّ إذا اهتديتُم ” (33) ، وهو موضوع عدم التدخل في شؤون الآخرين التي لا تستطيع لها تغييرا وليس في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تستطيع تغييره بالحكمة والموعظة الحسنة . ولهذا يجب عدم الإعتراض والعيب على الناس ، فكل إنسان قد يسره الله تعالى لما خُلق له ، ومن أعاب شخصا على خُلق فيه ليس من إرادته إبتلاه الله بمثله ، فإن العقوبة تكون من جنس العمل.
نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كثرة السؤال ، وقد مقت الله بني إسرائيل وشدد عليهم بكثرة أسئلتهم لأنبيائهم ، ثم بعد ذلك عدم إطاعة أوامرهم . فالمؤمن لا يعترض على أحكام الله تعالى وما ينزل من مصائب ومحن بل يقبلها ، لكنه لا يرضى بالمعاصي والآثام ، فيقاومها ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، لكنه لا يتدخل فيما لا يعنيه ، وفي شؤون غيره ، فيصرف كل جهده على نفسه فيصلح حالها . فما الذي ينفعه إن نجى الناس كلهم وهلك هو؟ إن على المؤمن أن يهتم بأمر نفسه ، حتى إنه ليعتبرأن دعوته ومساعدته لغيره هي أمر يخص نفسه لأن في ذلك امتثالها لأمر الله تعالى . أما ما وراء النصح والإرشاد والمساعدة من تدخل في أمور الآخرين ، فإن المؤمن يمسك عن ذلك لأنه لا يحب أن يتدخل الآخرون في شؤونه فكذلك هو يحب لهم ما يحب لنفسه.
ـ 72 ـ غض البصر عن جرير(34) رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نظر الفجأة فقال:
” إصرِف بَصَرَكَ ”
(رواه مسلم)
قال الله تعالى: ” قُل للمُؤمِنينَ يَغُضّوا مِن أبصارِهِم ويَحفَظوا فُروجَهُم ، ذلك أزكى لَهُم إنّ اللّهَ خَبير بِما يَصنَعون . وَقُل لِلمُؤمِنات يَغضُضن مِن أبصارِهِنّ ويَحفَظنَ فُروجَهُنَ ولايبدين زينَتَهُنّ إلاّ ما ظَهَرَ منها ، وليضرِبنَ بِخُمُرِهِنّ على جُيوبهنّ ” ـ(35) ، فالمجتمع الإسلامي مجتمع نظيف ، ليس فيه خيانة لا في العيون ولا في الصدور. وأول حارس لذلك هو غض البصر. ومن غض بصره وهبه الله تعالى إيمانا يجد حلاوته في قلبه. فمن أراد أن يستمتع بمثل هذه الحلاوة فليغض من بصره تنفيذا لأمر الله. ولا عبرة بمن يقول بأنه يملك السيطرة على نفسه فليس بحاجة إلى غض البصر ، فلو كان ذلك صحيحا لأُحِلّ ذلك لخير البشر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
يتبين من الحديث أن النظرة الأولى التي تأتي عن غير قصد معفوٌ عنها . أما النظرة الثانية أو استدامة الأولى فهي محاسب عليها ، وسواء في ذلك الرجال والنساء.
فالنظرة سهم من سهام إبليس ، من تركها وهبه الله تعالى إيمانا يجد حلاوته في قلبه. إن المجتمع الإسلامي يحفظ أعضاءه رجالا ونساء من الإنزلاق في الفواحش ، وما فَرْضُ الحجاب والأمر بغض البصر سوى وسائل وقائية لإبقاء المجتمع نظيفا من أي سوء أو خيانة أو فاحشة ، حفاظا على كيان الأسرة وقيام المجتمع على فضائل الأخلاق والإبتعاد عن سفاسفها.
ـ 73 ـ السخاء عن أبي أمامة صُدي بن عجلان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ـ” يا ابن آدم إن تَبذِل الفَضلَ خير لَكَ ، وإن تُمسِكهُ شَرّ لَكَ ، ولا تُلامُ على كَفاف ، وابدأ بِمَن تَعولُ ، واليَدُ العُليا خير مِنَ اليَدِ السُفلى ” ـ
(رواه مسلم)
السخاء من أفضل الصفات . والسخي قريب من الله لإمتثاله لما يحبه الله ، وقريب من الناس لبذله أمواله لهم ، والبخيل قريب من النار لمنعه ما يأمره الله به. فإذا دفع البخل الرجل إلى منع الزكاة المفروضة دخل النار بذلك.
لقي رجل من أهل منبج رجلا من أهل المدينة فقال له ممن الرجل؟ قال من أهل المدينة ، فقال لقد أتانا منكم رجل يقال له الحكم بن المطلب فأغنانا ، فقال المدني فكيف وما أتاكم إلاّ بجبة صوف؟ فقال ما أغنانا بماله ولكنه علّمنا الكرم فعاد بعضنا على بعض حتى استغنينا . ومرض قيس بن سعد بن عبادة(36) ، فاستبطأ إخوانه فسأل عنهم ، فقيل يستحيون مما لك عليهم من دين ، فقال أخزى الله تعالى مالاً يمنع الإخوان من الزيارة ، ثم أمر من ينادي من كان لقيس عليه دين فهو منه في حل ، فكسرت عتبة داره بالعشي لكثرة من عاده. وسألت إمرأة الليث بن سعد سكرجة عسل ، فأمر لها بزق من عسل ، فقيل له في ذلك!! فقال إنها سألت على قدر حاجتها ونحن نعطيها على قدر نعمنا.
يقرر هذا الحديث نفي اللّوم عن المرء الذي يبذل ماله بحيث كلما رزقه الله شيئا بذله فتكون عيشته كفافا ، فإن أفضل الصدقة أن ينفق المرء وهو في عيشة متوسطة يخشى الفقر ويرجو الغنى ، وأول الناس الذين عليه أن يبدأ بهم هم أهل بيته الذين عليه إعالتهم شرعا . أما أخذ الصدقات لمن هو ليس بحاجة إليها فمذموم لأن اليد التي تدفع الصدقة خير من التي تأخذها . وعلى من يدفع أن يشعر بالمنة لمن أخذ منه لأنه لولا وجود ذلك المحتاج وأمثاله لما إستطاع أن ينفذ واجبا فرضه الله عليه ألا وهو الزكاة.
ـ 74 ـ رحمة العباد عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
” إِرحَم مَن في الأرض ، يرحَمكَ مَن في السَماء ” .
(رواه الطبراني والحاكم)
الرحمة من صفات الرحمن الرحيم وهو يريد أن يتصف بها عباده بعضهم نحو بعض. وقد خلق الله بين الناس وشائج تراحم طبيعية كرحمة الأم لولدها ، فمن رحم غيره إستحق رحمة الله تعالى ، وفي رحمة الإنسان لأخيه الإنسان سواء كان على دينه أم لا وفي رحمة الإنسان للحيوان ، في كل ذلك أجر عظيم . وفي زوال التراحم بشير بغضب الله تعالى فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن إمرأة دخلت النار في هرة حبستها ، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض(37).ـ
إن الرحمة تتجلى في كل شيء: في ملاطفة الوالد لولده ، وفي إحسانه لأهل بيته ، وفي معاملته مع الناس ، وفي معاملته لعدوه قبل صديقه ، وفي معاملته للبهائم ، وفي تعامله حتى مع الجماد ، فالله تعالى أمر بعدم الإسراف في كل شيء ، وأمر بالمشي على الأرض هونا وما هذا وذاك إلاّ دليل على سعة رحمته التي وسعت كلّ شيء(38). حتى أن قتل الكافر أثناء المعركة تتجلى فيه الرحمة فهي تخليص له من اكتساب المزيد من الآثام وتخليص لغيره من شره ، وطريقة القتل يجب أن تظهر فيها الرحمة ، فالقتل بالحرق محرم وتعذيب ابن آدم حرام أيّا كان ، ” فَبِما رَحمَة مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُم ولو كُنتَ فَظّا غليظَ القَلبِ لانفَضّوا مِن حولِك ، فاعفُ عَنهُم واستَغفِر لَهُم ” (39) ، وبتراحم المؤمنين فيما بينهم تتوثق الوشائج بينهم ، فيحب بعضهم بعضا وتجتمع كلمتهم.
إن المؤمن رحيم لغيره من الناس وحتى للحيوانات أيضا . ففي تلك الرحمة أجر كبير. وقد قص علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قصة رجل يمشي بطريق فاشتد عليه العطش ، فوجد بئرا فنزل فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي ، فنزل البئر فملأ خفِّه ثم أمسكه بفيه فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له ، قالوا يارسول الله وإن لنا في البهائم أجرا ، فقال: "نعم ، في كل ذات كبِد رطبة أجر"(40) ، وحين رأى عمر بن الخطاب عجوزا يهوديا يسأل الناس ، رحم له كبر سنه قائلا: ما أنصفناك ، أخذنا الجزية منك في شبابك وتركناك في كبرك ، ثم فرض له ما يكفيه من بيت المال.
ـ 75 ـ ترك الجدل عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
” ما ضَّلّ قوم بَعدَ هُدًى كانوا عَليهِ إلاّ أوتوا الجَدالَ ”
(رواه الترمذي وأحمد وإبن ماجه والحاكم)
قال الله تعالى: ” وَمِنَ النّاسِ مَن يُعجِبُكَ قولُهُ في الحياةِ الدُنيا ويُشهِدُ اللّهَ عَلى ما في قَلبِهِ وهُوَ ألَدّ الخِصامِ ” (41) ، فالجدال يتضمن عادة حب ظهور المجادل على خصمه ، وتشفِّيه بخذلانه أو حسده إن حدث العكس ، وبغضه أو عدم قبول الحق الذي قاله عنادا وتكبرا . وقد يلجأ المخاصم إلى الكذب أوإخفاء الحق والسب والشتم وتعيير الخصم أو غيبته وكرهه بغير حق. وهكذا فالجدل مثير لكل هذه الآفات النفسية التي لا تليق بالمؤمن . وهناك بعض الناس من جُبِل على حب الجدل ، وهذه غريزة مذمومة وعليه مقاومة دوافعها ومعالجتها بكبح جماح النفس ومنعها من الإستمرار بالجدل حتى ولو كان على يقين بأنه على الحق وخصمه على الباطل فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” أنا زعيمٌ ببيت في رَبَض الجَنَّة لِمَن تَرَكَ المِراءَ وإن كانَ مُحِقّا ، وببيت في وسَطِ الجَنّةِ لِمَن تَرَكَ الكَذِبَ وإن كانَ مازِحا ” (42). والملاحظ أن دوافع الجدال والأخذ والرد تزداد إذا حضر الجدال أو سمعه شخص أو أشخاص آخرون لأنه عند ذلك يكون العجب بالنفس وحب الظهور على أشده. وهكذا يتصيد الشيطان فرائسه في ساعات الغفلة فيغويهم ويقودهم إلى الإختلاف والشقاق بعد أن كانوا على هدى وإجتماع. ” ولا تَكونوا كالّذينَ تَفَرَّقوا واختَلَفوا مِن بَعدِ ما جاءَهُم البيِّنات وأولئِكَ لَهُم عَذاب عَظيم ” (43).ـ
أما المناقشة الهادئة في سبيل نشر الحق والوصول إليه فقد قال الله تعالى فيها: ” وجادِلهُم بالّتي هيَ أحسَن ” (44) ، وعند ذلك تكون تلك المجادلة مطلوبة لأنها وسيلة من وسائل الدعوة شرط خلوها عن نوازع النفس الشريرة وإخلاص النية فيها لله تعالى . والدعوة ليست جدلا محضا بل هي فعل وإمتثال لأوامر الله تعالى وتطبيق ذلك على النفس أولا ، ثم إيضاح ذلك للناس بالجدال بالتي هي أحسن ، والناس يقتنعون بالفعل والقدوة الحسنة ما لا يقتنعون بحسن الكلام وقوة الحجة.
| |
|
| |
admin
| موضوع: رد: الباب الأول الاستقامة في السرائر الأربعاء مارس 23, 2011 6:06 am | |
| | |
|
| |
قلب محب المراقب العام
العمر : 51
| موضوع: رد: الباب الأول الاستقامة في السرائر الثلاثاء أغسطس 30, 2011 10:21 am | |
| | |
|
| |
ابن الرفاعى المشرف العام
العمر : 45
| موضوع: رد: الباب الأول الاستقامة في السرائر السبت سبتمبر 03, 2011 6:57 pm | |
| | |
|
| |
النقشبندى إدارة المنتدى
العمر : 47
| موضوع: رد: الباب الأول الاستقامة في السرائر الإثنين فبراير 04, 2013 9:16 am | |
| [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] *•*•.۩¸¸*.¸شكرا لك على الموضوع.¸¸.• *¨۞ *•.¸ الجميل و المفيد¸.• ۩*•* ¸.•**.جزاك الله الف خير¸¸•• * ¨على كل ما تقدمه للمنتدى¸¸.• * ¸¸ .• •*¸.•* * *• .¸¸۩ وفي انتظار جديدك .¸¸.**** الأروع والمميز ۩ • .¸¸.* ¸.• * * ۞ ♥♥• * ღღ لك منـــــــ اجمل تحية ــــــــــي ღღ¸ .• ۞ ♥♥¸¸.• *¨ ¸.•**• ۩ * *• .¸¸¸ .• ♥ النقشــــ محمد عبده ــبندى ♥¸ .• * *• ۩¸.•* *•*•*•*•♥ ♥ .•. oOo منتدى الطريقة النقشبندية العلية oOo ♥ ♥¸.•* *•*• .۞.**.¸•O.o°• وكل التوفيق لك يا رب •O.o°.۞.• *¨ *• | |
|
| |
ابوالزهراء المشرف العام
العمر : 48
| موضوع: رد: الباب الأول الاستقامة في السرائر الأحد فبراير 17, 2013 12:09 pm | |
| كل الشكر والامتنان على روعه طرحك وروعه مانــثرت .. وجمال موضوعك دائما متميز في الانتقاء سلمت يالغالي يعطيك الف عافيه [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] نترقب المزيد من جديدك الرائع دمت ودام لنا روعه مواضيعك دمت ودام قلمك ربي لايحرمنا من هذا القلم الذهبي ودائما بأنتظار جديدك الشيق [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
| |
|
| |
| الباب الأول الاستقامة في السرائر | |
|