أحد فقهاء المدينة، كان ثقة عالما فقيها رفيعا، إماما ورعا كثير الحديث، ويبد
أنه كان عازفا عن الإمامة في الدين والرياسة في الفتيا، على الرغم من سعة
علمه، وعمق فقهه، وشدة ورعه، واتباعه للسنة. وكان رجلا سمحا، لا يرضى بأن
يصل ما بينه وبين أحد إلي درجة الخصومة: ولهذا كان يتنازل عن حقه رغبة في
حسن الصلة بينه وبين الناس.
قال
عنه مالك بن أنس: "كان القاسم قليل الحديث، قليل الفتيا وكان يكون بينه
وبين الرجل المماراة في الشيء، فيقول له القاسم: هذا الذي تريد أن تخاصمني
فيه هو لك، فإن كان هذا فهو لك فخذه، ولا تحمدني فيه، وإن كان لي فأنت منه
في حل وهو لك. وقد بلغ من حسن مسلكه، وسلامة هديه، واستقامة طريقه أن رجلا
كابن سيرين كان يبعث من يتبعه في الحج ليخبره بهديه حتى يقتدي به. وقد كان
علمه بالسنة مثار إعجاب العلماء، حتى قال أبو الزناد: ما رأيت أحدا أعلم
بالسنة من القاسم بن محمد، وما كان الرجل يعد رجلا حتى يعرف السنة. وكان
راجح العقل، قوي الحجة، ثاقب الذهن، وفيه يقول أبو الزناد أيضا: ما رأيت
أحد ذهنا من القاسم، إن كان يضحك من أصحاب الشبه كما يضحك الفتى.
وقد
أخذ علمه وفقهه من عمته أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها. وعن حبر
الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وأخذ عن ابن عمر العلم والورع وعن
أبي هريرة الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول: كانت
عائشة قد استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر وعمر وإلي أن ماتت، وكنت ملازما
لها مع ترهاتي، وكنت أجالس البحر ابن عباس، وقد جلست مع أبي هريرة، وابن
عمر، فأكثرت، فكان هناك ورع وعلم جم، ووقوف عما لا علم له به. وكان يدرك
مدى ما عنده من علم إلا أنه كان يتواضع، فلا يريد أن يشير الناس إليه خشية
الفتنة، وكان يحب التثبث كل أموره، وقد أثر عنه قوله: لأن يعيش الرجل جاهلا
بعد أن يعرف حق الله عليه خير له من أن يقول ما لا يعلم.
ومن
هديه أنه لم يكن يجيب إلا في أمر بين ظاهر، وقد قصده أحد أمراء المدينة
يسأله عن أمر من الأمور، فلم يستنكف أن يعلن عدم معرفته بما يسأل عنه، وكان
يقول: إن من إكرام المرء نفسه ألا يقول ألا ما أحاط به علمه. وجاءه
أعرابي، وهو يصلي، فسأله: أيما أعلم، أنت أم سالم؟
فقال: سبحان الله، كل سيخبرك بما علم.
فقال: أيكما أعلم؟
قال: سبحان الله.
فأعاد فقال: ذاك سالم فانطلق إليه فسله.
فقام
عنه، ويعلق ابن إسحاق على هذا الخبر، فيقول: كره أن يقول: أنا أعلم فيكون
تزكية، وكره أن يقول: سالم أعلم مني فيكذب، وكان القاسم أعلمهما. وكان
للقاسم مجلس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من عادته أن يأتي
من بيته إلي المسجد في أول النهار، فيصلي ركعتين، ثم يجلس إلي الناس
فيسألونه. ولما تقدمت به السن وجاء موسم الحج كان يركب من منزله حتى يأتي
مسجد مني فينزل عند المسجد، فيمشي من عند المسجد إلي الجمار فيرميها ماشيا،
ثم يرجع إلي المسجد ماشيا، فإذا جاء المسجد ركب".
وأبوه
محمد بن أبي بكر رضي الله عنه، وأمه ابنة يزدجرد ملك الفرس، وهو وسالم بن
عبد الله بن عمر، وعلي زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنهم،
أجمعين أبناء خالة. وذلك أنه لما أتى بسبي فارس إلي المدينة في خلافة عمر
بن الخطاب رضي الله عنه كان في السبي ثلاث بنات ليزدجرد، فزوج علي أولاهن
لعبد الله بن عمر والثانية محمد بن القاسم والثالثة لحسين بن علي فأنجبت كل
واحدة منهن أحد الفقهاء الأعلام، فسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد، وعلي
زين العابدين أبناء خالة وأمهاتهم بنات الملوك.
وكان
العرب لا يستريحون لأبناء غير العربيات قبل أن ينشأ هؤلاء الأعلام، ومما
يذكر في ذلك أن رجلا من قريش قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب، فقال لي يوما،
من أخوالك؟
فقلت له: أمي فتاة، فكأني نقصت من عينه، فأمهلت حتى دخل سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم؛
فلما خرج من عنده، قلت: يا عم، من هذا؟
فقال: سبحان الله، أتجهل مثل هذا من قومك؟ هذا سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
قلت: فمن أمه؟
قال: فتاة.
قال: ثم أتى القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فجلس عنده، ثم نهض، قلت: يا عم، من هذا؟
فقال: أتجهل من أصلك مثله؟ ما أعجب هذا، هذا القاسم ابن محمد بن أبي بكر الصديق.
قلت: فمن أمه؟
قال: فتاة.
قال: فأمهلت شيئا، حتى جاء علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فسلم عليه ثم نهض.
فقلت: يا عم، من هذا؟
قال: هذا الذي لا يسع مسلما أن يجهله، هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فقلت: فمن أمه؟
قال: فتاة.
فقلت: يا عم، رأيتني نقصت في عينك لما علمت أن أمي فتاة، أفما لي في هؤلاء أسوة؟
قال: فجللت في عينه جدا.
عظته لعمر بن عبد العزيز
كان
القاسم مثل فقهاء المدينة وثيق الصلة بعمر بن عبد العزيز حتى قبل أن يكون
واليا على المدينة، لأنه كان يطلب العلم بالمدينة فتعرف على علمائها
وفقهائها، ولما مات عمه عبد الملك بن مروان اشتد حزنه عليه وأسفه على
فراقه؛ لأنه كان يخصه بعطفه ورعايته وبخاصة بعد موت أبيه عبد العزيز، ومن
مظاهر إعزاز عبد الملك لابن أخيه عمر أنه زوجه بابنته فاطمة، ولما أبصر
القاسم بن محمد اشتداد الحزن بعمر لفقد عمه حتى إنه ترك ما كان فيه من تنعم
في الملبس، واستشعر الموت، واستمر على ذلك سبعين ليلة، أراد القاسم أن
يخرجه من هذه الحالة التي رآه عليها، وهو يعلم عنه التقوى والصلاح والتأسي
بالصالحين فقال له: "أعلمت
أن من مضى من سلفنا كانوا يحبون استقبال المصائب بالتجمل، ومواجهة النعم
بالتذلل" فما كان من عمر إثر سماعه هذا من القاسم إلا أن خرج من هذه الحال،
وبدا في ملابس من حبرات اليمن، يقول الرواة إن ثمنها ثمانمائة دينار.
كان لا يفتي إلا بما يعلم
كان
إذا توجه إلي الحج، ونزل بمنى، وعرف الناس مكانه اتجهوا إليه يسألونه عن
بعض الأمور، وكان لا يرى غضاضة إذا سئل عن أمر لا يعرفه أن يقول: لا أدري
فقد روي حماد بن زيد عن أيوب قال: سمعت القاسم يسأل بمنى، فيقول: لا أدري،
لا أعلم. فلم أكثروا عليه قال: والله ما نعلم كل ما تسألون عنه، ولو علمنا
ما كتمناكم، ولا حل لنا أن نكتمكم.
كان يحذر من السائلين عن المتشابهات
فقد روي عن عمته عائشة رضي الله تعالى عنها: أن "النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية:
{
هُوَ
ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ
أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ
ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ
ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ
مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }(آل عمران،الآية:7 ).
فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الذين يسألون عما تشابه منه فهم
أولئك الذين سماهم الله، فاحذروهم" ومما رواه القاسم عن عمته عائشة رضي
الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتدرون من السابقون إلي ظل
الله عز وجل؟ قالوا: الله عز وجل ورسوله أعلم. قال: الذين إذا أعطوا الحق
قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم"
وكان القاسم يعيش حياة أقرب إلي الترف والتنعم شأنه في ذلك شأن فقهاء المدينة، وكأنما أرادوا أن يقولوا للناس بلسان الحال: {
قُلْ
مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ
وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي
ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ }(الأعراف،الآية:32).
وهذا
أمر متوقع من رجل أمه ابنة ملك فارس، فقد قال العلاء بن زبر دخلت على
القاسم بن محمد، وهو في قبة معصفرة، وتحته فراش معصفر، ومرافق حمر، فقلت:
يا أبا عبد الرحمن، هذا مما أردت أن أسألك عنه. قال: لا بأس مما أمتهن منه. وقال
عيسى بن حفص: رأيت القاسم بن محمد يلبس الخز ورأيت عليه ملحفة معصفرة.
ولما تقدمت السن بالقاسم بن محمد فقد بصره، ولكن ذلك لم يؤثر في منهجه
واجتهاده في عبادته، ولما حضرته الوفاة وكان بمكان يسمى القديد بين مكة
والمدينة، وكان سفره هذا للحج أو للعمرة شك الرواة في ذلك، فأوصى ابنه
قائلا: سن على التراب سنا، وسو على قبري، والحق بأهلك، وإياك أن تقول كان
وكان.
وكان مما تقدم به لابنه بالنسبة لكفنه قوله: كفنوني في ثيابي التي كنت
أصلي فيها، قميصي وإزاري وردائي، فقال ابنه: يا أبت لا تريد ثوبين؟
قال:
يا بني هكذا كفن أبو بكر في ثلاثة أثواب، والحي أحوج إلي الجديد من الميت.
رحم الله القاسم بن محمد فقد كان نموذجا فريدا في السماحة والفقه
والتواضع، والعفاف.
وقد
اختلف المؤرخون في تاريخ وفاته فبعضهم يذكر أنه توفى سنة إحدى ومائة أو
اثنتين ومائة أو سنة ثمان ومائة أو اثنتى عشرة ومائة، ولكن الأرجح أن وفاته
كانت سنة ثمان ومائة. وكانت سنه عند وفاته ثلاثا وسبعين سنة أو سبعين حسب
اختلاف الروايات في تاريخ وفاته رحمه الله وأحسن مثوبته.