(إنَّ بين الجوارح وبين القلب علاقة حتى إنَّه يتأثر كلُّ واحد منهما بالآخر، فترى العضو إذا أصابته جراحة تألم بها القلب، وترى القلب إذا تألم بعلمه بموت عزيز مِنْ أعزته، أو بهجوم أمر مخوف، تأثَّرت به الأعضاء، وارتعدت الفرائص، وتغيَّر اللون، إلا أنَّ القلبَ هو الأصلُ المتبوع، فكأنَّه الأميرُ والراعي، والجوارحُ كالخدم والرعايا والأتباع، فالجوارحُ خادمةٌ للقلب بتأكيد صفاتها فيه، فالقلبُ هو المقصود، والأعضاءُ آلات موصلة إلى المقصود، ولذلك قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم (أَلا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ) رواه البخاري
(قال الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}، وهي صفة القلب، فمن هذا الوجه يجب لا محالة أن تكون أعمال القلب على الجملة أفضل من حركات الجوارح ثم يجب أن تكون النية من جملتها أفضل لأنها عبارة عن ميل القلب إلى الخير وإرادته له وغرضنا من الأعمال بالجوارح أن يعود القلب إرادة الخير ويؤكد فيه الميل إليه ليفرغ من شهوات الدنيا ويكب على الذكر والفكر).
- (قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً)لأنَّ همَّ القلب هو ميلُه إلى الخير وانصرافُه عن الهوى وحب الدنيا وهي غاية الحسنات، وإنَّما الإتمام بالعمل يزيدها تأكيداً، فليس المقصود من إراقة دم القربان: الدم واللحم، بل ميل القلب عن حبِّ الدنيا، وبذلها إيثاراً لوجه الله تعالى، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة، وإنْ عاق عن العمل عائق فـ {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}، والتقوى ههنا صفة القلب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن قوماً بالمدينة قد شركونا في جهادنا) لأنَّ قلوبَهم في صدق إرادة الخير وبذل المال والنفس، والرغبة في طلب الشهادة وإعلاء كلمة الله تعالى، كقلوب الخارجين في الجهاد، وإنَّما فارقوهم بالأبدان لعوائق تخص الأسباب الخارجة عن القلب، وذلك غير مطلوب إلا لتأكيد هذه الصفات).
(لا تظنن أنَّ في وضع الجبهة على الأرض غرضاً من حيث إنَّه جمع بين الجبهة والأرض، بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب، فإنَّ مَنْ يجد في نفسه تواضعاً، فإذا استكان بأعضائه وصورها بصورة التواضع تأكَّد تواضعه، ومَنْ وجد في قلبه رقَّة على يتيم، فإذا مسح رأسه وقبله تأكَّد الرقة في قلبه، ولهذا لم يكن العمل بغير نيَّة مفيداً أصلاً؛ لأنَّ مَنْ يمسح رأس يتيم وهو غافل بقلبه، أو ظانٌّ أنَّه يمسح ثوباً لم ينتشر من أعضائه أثر إلى قلبه لتأكيد الرقة، وكذلك مَنْ يسجد غافلاً وهو مشغول الهمِّ بأعراض الدنيا، لم ينتشر من جبهته ووضعها على الأرض أثر إلى قلبه يتأكَّد به التواضع، فكان وجود ذلك كعدمه، وما ساوى وجوده عدمه بالإضافة إلى الغرض المطلوب منه يُسمى باطلاً، فيقال: العبادة بغير نيَّة باطلة).