منزلة التواضع : التواضع هو : عقد القلب على صَغار النفس المؤثر في عواطفه وميوله وجوارحه في مقابل اللَّه سبحانه وتعالى ، وفي مقابل رسله وأوليائه المعصومين، وفي مقابل المؤمنين. ** أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض وسُئِلَ : ما التواضع ؟ قال: أن تخضع للحق وتنقاد له، ولو سمعته من صبي قبلته منه، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته منه. وسألته: ما الصبر على المصيبة? قال: أن لا تبث. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :** سئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له ويقبله ممن قاله .
وقيل: التواضع أن لا ترى لنفسك قيمة فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب وهذا مذهب الفضيل وغيره .
وقال الجنيد بن محمد: هو خفض الجناح ولين الجانب .
وقال أبو يزيد البسطامي : هو أن لا يرى لنفسه مقاما ولا حالا ولا يرى في الخلق شراً منه .
وقال ابن عطاء: هو قبول الحق ممن كان والعز في التواضع فمن طلبه في الكبر فهو كتطلب الماء من النار .
وقال إبراهيم بن شيبان : الشرف في التواضع والعز في التقوي والحرية في القناعة ويذكر عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: أعز الخلق خمسة أنفس: عالم زاهد وفقيه صوفي وغني متواضع وفقير شاكر وشريف سني .
وقال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة فأردت أن أكسرها .
وولي أبو هريرة رضي الله عنه إمارة مرة فكان يحمل حزمة الحطب على ظهره يقول طرقوا للأمير .
وركب زيد بن ثابت مرة فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه فقال: مه يا ابن عم رسول الله صل الله عليه وسلم فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بكبرائنا فقال: أرني يدك فأخرجها إليه فقبلها فقال: هكذا أمرنا نفعل بأهل بيت رسول الله صل الله عليه وسلم.
وقسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بين الصحابة رضي الله عنهم حللا فبعث إلى معاذ حلة مثمنة فباعها واشترى بثمنها ستة أعبد وأعتقهم فبلغ ذلك عمر فبعث إليه بعد ذلك حلة دونها فعاتبه معاذ فقال عمر: لأنك بعت الأولى فقال معاذ وما عليك ادفع لي نصيبي وقد حلفت لأضربن بها رأسك فقال عمر رضي الله عنه: رأسي بين يديك وقد يرفق الشاب بالشيخ .
ومر الحسن بن علي صبيان معهم كسر خبز فاستضافوه فنزل فأكل معهم ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم وقال: اليد لهم لأنهم لا يجدون شيئا غير ما أطعموني ونحن نجد أكثر منه .
ويذكر أن أبا ذر رضي الله عنه عَيَّرَ بلالا رضي الله عنه بسواده ثم ندم فألقى بنفسه فحلف: لا رفعت رأسي حتى يطأ بلال خدي بقدمه فلم يرفع رأسه حتى فعل بلال .
وقال رجاء بن حيوة : قومت ثياب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو يخطب باثني عشر درهما وكانت قباء وعمامة وقميصا وسراويل ورداء وخفين وقلنسوة .
ورأى محمد بن واسع ابنا له يمشي مشية منكرة فقال: تدري بكم شريت أمك بثلاثمائة درهم وأبوك لا كثر الله في المسلمين مثله أنا وأنت تمشي هذه المشية .
وقال حمدون القصار: التواضع أن لا ترى لأحد إلى نفسك حاجة لا في الدين ولا في الدنيا .
وقال إبراهيم بن أدهم : ما سررت في إسلامي إلا ثلاث مرات: كنت في سفينة وفيها رجل مضحاك كان يقول: كنا في بلاد الترك فأخذ العلج هكذا وكان يأخذ بشعر رأسي ويهزني لأنه لم يكن في تلك السفينة أحد أحقر مني والأخرى: كنت عليلا في مسجد فدخل المؤذن وقال: اخرج فلم أطق فأخذ برجلي وجرني إلى خارج والأخرى: كنت بالشام وعلي فرو فنظرت فيه فلم أميز بين شعره وبين القمل لكثرته فسرني ذلك وفي رواية: كنت يوما جالسا فجاء إنسان فبال علي .
وقال بعضهم: رأيت في الطواف رجلا بين يديه شاكرية يمنعون الناس لأجله عن الطواف ثم رأيته بعد ذلك بمدة على جسر بغداد يسأل شيئا فتعجبت منه فقال لي : إني تكبرت في موضع يتواضع الناس فيه فابتلاني الله بالذل في موضع يترفع الناس فيه .
وبلغ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه عمر: بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم فإذا أتاك كتابي فبعالخاتم وأشبع به ألف بطن واتخذ خاتما بدرهمين واجعل فصه حديدا صينيا واكتب عليه: رحم الله امرءا عرف قدر نفسه .
( تنبيه) إن من أهم الأسباب التي تعين الإنسان على التواضع أن يمقت الإنسان نفسه في جنب الله تعالى . قال أبو الدرداء: " لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد لها مقتاً " . وكان بعض السلف يقول في دعائه في عرفة ( اللهم لا ترد الناس لأجلي)! ، وقال محمد بن واسع : لو كان للذنوب ريحٌ ما قدر أحد أن يجلس إلىّ . مع أنه من كبار العباد في هذه الأمة . قال يونس بن عبيد:" إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسى منها واحدة " . دخل حمّاد بن سلمة على سفيان الثوري وهو يحتضر فقال: ( يا أبا عبد الله أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين؟!) قال: (يا أبا سلمة أتطمع لمثلي أن ينجو من النار) قال: (إي والله إني لأرجو لك ذلك). وقال جعفر بن زيد: ( خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم فنزل الناس عند العتمة فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقنّ عمله، فالتمس غفلة الناس فانسلّ وثبا فدخل غيظة (مجموعة أشجار ملتفة) قريب منا، فدخلت على أثره فتوضأ ثم قام يصلي فجاء أسد حتى دنا منه فصعدت في شجرة فتراه التفت إليه أو عدّه جرو! فلما سجد قلت الآن يفترسه فجلس ثم سلّم ثم قال: ( أيها السبع اطلب الرزق من مكان آخر)، فولّى وإن له زئيراً، فمازال كذلك يصلي حتى كان الصبح فجلس يحمد الله وقال: (اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي يستحي أن يسألك الجنة)! ثم رجع وأصبح وكأنه بات على حشاياً ، أما أنا فأصبح بي ما الله به عليم من هول ما رأيت! وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (اللهم اغفر لي ظلمي وكفري)، فقال قائل: ( يا أمير المؤمنين هذا الظلم فما الكفر؟) قال: (إن الإنسان لظلوم كفّار)، فإذا تمعّن الإنسان حال السلف عرف حاله والبعد الشديد مابينه وبينهم. أورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عنمالك بن دينار قال : « رحم الله عبدا قال لنفسه : ألست صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا ؟ ثم ذمها ، ثم خطمها ، ثم ألزمها كتاب الله تعالى ، فكان لها قائدا » وأورد الخرائطي رحمه الله تعالى في اعتلال القلوب عن عن وهب بن منبه : « أن رجلا ، تعبد زمانا ، ثم بدت له إلى الله تبارك وتعالى حاجة ، فصام تسعين سبتا ، يأكل كل سبت إحدى عشرة تمرة ، ثم سأل حاجته فلم يعطها ، فرجع إلى نفسه ، فقال : منك أوتيت ، لو كان فيك خير أعطيت حاجتك ، فنزل إليه عند ذلك ملك ، فقال : يا ابن آدم ساعتك هذه التي أزريت فيها على نفسك خير من عبادتك التي قد مضت ، وقد قضى الله حاجتك »أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل بن عياض قال : كيف ترى حال من كثرت ذنوبه وضعف علمه وفني عمره ولم يتزود لمعاده .
أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الفضيل بن عياض قال : يا مسكين أنت مسيء وترى أنك محسن وأنت جاهل وترى أنك عالم وتبخل وترى أنك كريم وأحمق وترى أنك عاقل أجلك قصير وأملك طويل .
قال الذهبي رحمه الله : قلت إي والله صدق وأنت ظالم وترى أنك مظلوم وآكل للحرام وترى أنك متورع وفاسق وتعتقد أنك عدل وطالب العلم للدنيا وترى أنك تطلبه لله .
أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شعيب بن حرب، قال: بينا أنا أطوف بالبيت إذا رجل يمد ثوبي من خلفي فالتفت فإذا بفضيل بن عياض، فقال: لو شفع في وفيك أهل السماء كنا أهلاً أن لا يشفع فينا، قال شعيب: ولم أكن رأيته قبل ذلك بسنة، قال: فكسرني وتمنيت أني لم أكن رأيته. أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن فضيل بن عياض قال : أخذت بيد سفيان بن عيينة في هذا الوادي فقلت له: إن كنت تظن أنه بقى على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما تظن. أورد ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتابه التواضع والخمول 1- عن إبراهيم بن الأشعث قال سألت الفضيل عن التواضع قال التواضع أن تخضع للحق وتنقاد له ولو سمعته من صبي قبلته منه ولو سمعته من أجهل الناس قبلته منه . 2- عن أبي صالح الفراء قال سمعت بن المبارك يقول رأس التواضع أن تضع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أن ليس لك بدنياك عليه فضل وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس له بدنياه عليك فضل . 3- عن كعب قال ما أنعم الله عز وجل على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله وتواضع بها لله إلا أعطاه الله عز وجل نفعها في الدنيا ورفع له بها درجة في الآخرة وما أنعم الله عز وجل على عبد من نعمة في الدنيا فلم يشكرها لله ولم يتواضع بها لله عز وجل إلا منعه الله عز وجل نفعها في الدنيا وفتح له طبقا من النار يعذبه به إن شاء الله أو يتجاوز عنه . 4- عن الأصبغ بن نباتة قال كأني أنظر إلى عمر بن الخطاب معلقا لحما في يده اليسرى وفي يده اليمنى الدرة يدور في الأسواق حتى دخل رحله . 5- عن صالح بياع الأكسية عن أمه أو جدته قالت رأيت عليا اشترى تمرا بدرهم فحمله في ملحفته فقلت أحمل عنك يا أمير المؤمنين قال لا أبو العيال أحق أن يحمله . 6- عن حماد بن زيد قال ما رأيت محمد بن واسع إلا وكأنه يبكي وكان يجلس مع المساكين والبكائين . 7- عن بكر بن عبد الله المزني أنه كان يلبس الكسوة تساوي أربعة آلاف ويجالس المساكين ومعه الصرر فيها الدراهم فيدسها إلى ذا وإلى ذا قال وكان موسرا فمات ولم يخلف شيئا فقال الحسن رحمه الله إن بكرا عاش عيش الأغنياء ومات موت الفقراء . 8- عن مسعر قال مر الحسين بن علي على مساكين وقد بسطوا كساء وبين أيديهم كسرا فقالوا هلم يا أبا عبد الله فحول وركه وقرأ (إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) فأكل معهم ثم قال قد أجبتكم فأجيبوني فقال للرباب يعني امرأته أخرجي ما كنت تدخرين . 9- عن صالح المري قال خرج الحسن ويونس وأيوب يتذاكرون التواضع فقال لهما الحسن وهل تدرون ما التواضع التواضع أن تخرج من منزلك فلا تلق مسلما إلا رأيت له عليك فضلا 10- عن يحيى بن كثير قال رأس التواضع ثلاث أن ترضى بالدون من شرف المجلس وأن تبدأ من لقيته بالسلام وأن تكره من المدحة والسمعة والرياء بالبر .