المجذوبون
وقد كان عندنا قوم يتكلمون في هذا النوع من العلم، على التوهم والمقاييس، وبلغ من جهلهم أن قالوا: إن هذا الواصل إليه (إلى الله) على طريق الجهد، أقل خطرا في السلب من هذا الذي أعطى من غير جهد. وذلك أن الذي أعطى على جهد، صير (الله تعالى) ذلك الوصول ثوابا لجهده.
وإذا أثاب الله العبد على شيء لم يرجع فيه، وهذا الذي أعطي على غير جهد، وهو عبد مبتلى، وامتحن بالشكر: فهو غير مأمون أن يسلب، وخطره في السلب أعظم.
فتعجبت من جهلهم حيث جعلوا الوصول إلى الله تعالى عوضا من جهة العبد، فعرفت أنهم أصحاب مقاييس، لا يعرفون ما الوصول، ولا قدر الوصول، وهل وصل أحد إلى الله، عز وجل إلا بالله؟
فيزعمون أنهم إنما وصلوا بجهدهم، وكذبوا، والله فإنه ما وصل أحد منهم إلى الله عز وجل، إلا بالله، ولقد كذبهم غيري؛ فإن المؤمن يغار لله. فلقد ازدروا شأن الوصول، فأبلغوا في الازدراء.
لا جرم إن الله يزدري بالجاهل المتكلف، فليس من جهل وسكت، كمن جهل فتكلف، فالمتكلف ممقوت، ولا سيما في أمر الله وصنعه.
والقول الحق: إن الصادق لما استفرغ مجهوده، بقي منقطعا عن الصدق في مفازة الحيرة، فاظطر فجأر إلى الله تعالى، صارخا مستغيثا فرحم، فإنما وصل إليه به: من حيث رحمه فكيف يكون وصوله ثوابا لجهده؟
وقد شرحنا هذا بديا، فهذا مرحوم بجهده، والأول ممنون عليه من جوده وكرمه، فكيف يجوز أن يظن بالله الجواد الكريم، القريب في جوده وكرمه، أن يرجع في مننه؟
ومنن ههنا أخطأ هذا المتكلف، إن ظن بربه أنه أوصله إلى قربه ومكن له بين يديه ليبتليه، ويحك هذا عبد متخذ لا مبتلى، وإنما الابتلاء في شأن النفس لا في شأن القلب.
أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله اتخذني عبدا قبل أن يتخذني رسولا" فالمتخذ هو المأخوذ، ومنه اشتقاقه، فمحمد صلى الله عليه وسلم هو المجذوب من بين سائر الأنبياء، خصه الله بهذا فاتخذه وجذبه والأنبياء، من قبله، أوتوا الحكمة والبيان والهداية، ثم تنبؤوا، ثم أرسل إليهم. ورسولنا صلى الله عليه وسلم أخذ أخذا، فجذبه الله إليه على طريق الاصطفاء.
ألا ترى إلى قوله تعالى: ( ووجدك ضالا فهدى)سورة الضحى: الآية 7، فهل يكون الوجود إلى بعد الطلب؟
فإن الله تعالى طلبه، من بين سائر العباد، بالمنة التي سبقت له في المشيئة، فلما جاء الطلب وجده كما وصف: ( ضالا فهدى )سورة الضحى: الآية 7. أي: مال به، فجذبه فنبأه.
فكذلك شأن هؤلاء المجذوبين: يجذبهم الله إليه على طريقه، فيتولى اصطفاءهم وترتبيهم حتى يصفي نفوسهم الترابية بأنواره، كما يصفى جوهر المعدن بالنار حتى تزول ترابيته، وتبقى النفس صافية، وتمتد تلك التصفية، حتى إذا بلغوا الغاية من الصفاء أوصلهم إلى أعلى المنازل، وكشف لهم الغطاء عن المحل، وأهدى إليهم العجائب من كلماته وعلومه.
وإنما يمتد ذلك، لأن القلوب والنفوس لا تحمل مرة واحدة كل ذلك، فلا يزال يلطف بهم، حتى يعودهم احتمال تلك الأهوال، التي تستقبلهم من ملكه، فإذا وصلوا إليه احتملوا الوصول والنجوى.
وقد نجد مثال هذا في خلقه، فإن الملك يريد أن يختص بعض رعيته لقيادة أو ولاية فيدعو به، فمن تدبير الملك، أنه إذا ذهب بالعبد إليه، التزم بابه، ثم يمهل العبد وقتا ما حتى يعتاد الباب وقواده؛ وليطمئن ويهتدي إلى أمور الخدمة.
ثم إذا قدم إليه، تحول من مجلس إلى مجلس، حتى يسكن روعه ويخشع قلبه، ثم إذا قدم إليه، أمهل ساعات ليطمئن، ثم يكلمه، ولهم تدبير أعمق من هذا، ما قصدت لكم وصفه، وإنما علم الملوك هذا التدبير من مالك الملك، إذا آتاهم من ملكه، وهو أحق بالتلطف بعباده.